التغير الدلالي:
         قليلاً ما نجد ألفاظ الشعر الشعبي مستخدمة لدلالات حديثة، بل هي على العكس من ذلك، قديمة موغلة في قدم دلالاتها، ولعل هذا هو ما دعانا للبحث في لغته هنا، والقدم ليس في اللفظ لدلالته وحسب، وإنما هو أيضاً في الصورة والموضوع، فكأن الشعراء الشعبيين يقتدون بالقدماء، ويحوكون على منوالهم ولا غرابة في ذلك، لأن طابع الحياة لم يكد يتغير في البوادي - إلى عهد قريب - ولعل في قول غريب الشلاجي في إحدى الغزوات(69):
         افطن لبيت عبيد الياكنت بلشان           أو دين المهلهل يا أهل القلوب الهبيله
         ما يؤكد أن إعلام الشعر والفروسية (عبيد بن الأبرص والمهلهل وكلاهما شاعر فارس) ما زالوا يمثلون قدوتهم ومثلهم الأعلى في هذه الأحوال.
         ونورد في ما يلي مقاطع لشعراء من جانبي الوطن الكبير هم سليم بن عبدالحي المتوفى سنة 1320هـ، وهو من الأحساء شرق المملكة العربية السعودية، ومحمد سعيد القشاط من قبيلة الصيعان غرب ليبيا، وهاشم الخطابية وحسن الاقطع من ليبيا أيضاً. لنرى صورة المرأة عندهما، وما هي مكونات تلك الصورة ومن أين استمدت. يقول ابن عبدالحي(70):
لمة جعوده كنـها عصم الارمـاس        ضاوي دجاها والعـواتق مقاييس
وصبح الضيا من غرته ياخذ انفاس         يغني عن الجنديل ان جن خرميس
         انبال بالحاظـــه وحجاتــه اقــواس       وسموه نطفة للعشاشيق طلميس
         ومنقاد عرنينه كــما حــد عبـــاس       في كف شغموم صحى الكون ماريس
         وشبهت في فاهه مفاليج الاضـراس       مثل البرد واشفاه شهـرة ملابيـــس
         حم كما الياقوت وانهــود جــــلاس      اثنين على مصقول صدره جواليس
         هايف حشى ردفه كما رجم الاطعاس     وساقيه مدموجات ما هن بمحاويـس
         فهذه المرأة: ذات شعر كثيف اسود كغربان المقابر، أما عواتقها فقد جاءت وفقاً لمقاييس الجمال. أما غرتها فمنها ياخذ الصباح ضياءه (والصبح إذا تنفس)، وهو يغني عن القنديل إن جن الظلام. وعيونها كالنبال في وقعها:
         ويلاه إن نظرت وان هي أقلبت            وقع السهام ونزعهن أليـــم
         والحجاجان، وهما العظمان البارزان اللذان يكتنفان العنيني يشبهان قوسين :
وعينان كالماويتين استكنتا          بكهفي حجاجي صخرة قلت مورد
         واسمها نطفة (وهي الماء القليل في الجبل)
         ألم تر أن الليل يقصر طوله                  بنجد وتزداد النطــاف بــه بــردا؟
         وهي فتنة للعاشقين وسحر يصعب فكه.   أما أنفها فهو دقيق طويل كحد السيف في يد فارس عزيز لم يترأسه أحد. أما أسنانها في فمها فهي كالبرد. أما شفتاها فهما حمّاوان (الحمة سمرة في حمرة) كالياقوت، ونهداها بارزان يجلسان على صدرها الصقيل لبياضه. وهي إلى جانب ذلك قباء مخصرة، وذات أرداف كما الكثيب، وساقاها مكتنزتان ليستا نحيفتين. ويقول من قصيدة أخرى(71):
         موضي جبينه بالدجا مثل مسرج            واسهام لحظه للضمـاير تصيبي
         اعفر حسين اللون ابو سنون فلّج وله مبسم حم الاشافي عذيبـــــي
         وعنقه كما عنق المها حين يزعج   متعثكلات حشوها كــل طيبـــي
         والمعاني تباعاً:
-       أن جبينها يضيء بالدجى كالسراج ، وكما يقول امرؤ القيس "يضيء الفراش وجهها         لضجيعها" وأن عينيها كالسهام تصيب القلوب.
-       وهي بلون ا لرمل (العفر) ولونها صاف جميل، وأسنانها حسنة الرصف، وفمها ذو    شفتين حماوين عذب المذاق.
-       أما جيدها (فجيد كجيد الرئم ليس بفاحش) وذهب الشاعر بعيداً في تفصيل الصورة          وتحريكها، فرقبتها كرقبة الغزال إذا استثيرفجأة وراح يقفز صوب مراحه، وهذا اشارة      إلى مد العنق وامتداده.
-       أما جدائلها فهي سود تدلت على كتفيها، وزرق (أي سود أيضاً) وهي متداخلة (كثيفة)      قد ردعتها بالطيب من الريحان الهندي والمحلب ونحو ذلك.
         وننتقل إلى غرب الوطن العربي مع محمد القشاط(72) لنجده يصف المرأة بمثل ما   وصفها به القدامى والمشارقة، فهي كما يقول:
حذاي جار خلا لي منامي طاير           اليا متت راني يا حمـد قتيلــــه
عنده روامق واسعـات بحايـــر                          اليا شبهوا للشخص يبرد حيلــه
وعنده جبين يشع نـوره نـــاير                    تقول برق في مزنه تبزع سيلـه
وعنده على لكتاف زوز ظفاير                جريدات على ربعة نخل هذيلـه
وعنده سوالف كيف ريش الطاير         ظليم فز شاف الحشر وجلاجيله
         ومعاني هذه الأبيات بترتيبها:
-       إن بجانبي جارة حرمني النوم حبها، وإذا مت يا حمد، فاعلم أنها قتلتني بحبها.
-       لها عينان واسعتان، إذا رآهما الناظر أصبنه بإحساس يجعله يفقد عزمه لفرط جمالهن.
-       وجبينها يضيء كأنه برق يضيء سحابا مطيراً.
-       ولها ضفيرتان تدلتا على كتفيها كأنهما جريدتا نخل.
-       ولها سوالف تشبه في سوادها ونعومتها ريش ذكر النعام إذا جفل هو وصغاره، فترى          الريح تعبث بريشه.      
         وفي قصيدة البير للشاعر الليبي هاشم الخطابية نجد وصفاً للمرأة من جنس ما تقدم فهو        يبتدئها بتوجيه سؤال للبئر هل وردتها الحبيبة؟ فيقول(73):
سؤال النبي يا بير ما ورداتك               ودلت سوالفها على جالاتـك؟
سؤال النبي يا بير ما وردنــك           بناويت من لون الغزله جنك؟
         فترد البئر:.......
نلقانها جتني                                   البنت اللي بقرونها غطتني
         ثديانها وبيطانها ورتني                        وعلت حجايج ماثلن ولعاتك
         فالمرأة ذات سوالف (شعر جانبي الرأس) وهي من الطول بحيث تتدلى على جانبي البئر عند انتشال الدلاء منها، وهي كالغزال خفة ورقة وفتوة، وهي - على لسان البئر الذي رأى منها ما لم يره الشاعر - ذات قرون (ضفائر) طويلة، وأثداء ناهدة، وآباط بيض وعيون مزججة الحواجب. والمرأة الجميلة عند حسن الأقطع(74):
بحرها غريق الجال بنت بوادي              تقيــم الدلال وباتها دللها
طويلة وبيضا والعيون عوادي               وشعل بسواد ملويات خجلها
         فهي تتمنع، وبعيدة المنال، يغرق دون شاطئها الماهر في السباحة، وهي بنت بادية أصيلة، ومدللة، وأبوها دللها زيادة، وهي طويلة، وبيضاء، وعيناها تفتكان بمن يراهما، أما شعرها فقد اشتعل حتى غدا اسود كالفحم، وكنى عنه بالخجل، لأن المرأة تحرص على ستره، وتستحي (تخجل) إمّا تكشّف للناظرين.
         ونختتم هذا البحث بنصين ترجم فيهما صاحباهما كثيراً من المعاني الجاهلية بألفاظها وصورها المختارة للتعبير عنها. وسنضع خطاً تحت كل عبارة مقصودة بحرفها أو بمعناها، وربما أعقبنا بتعليق نورد فيه أبياتاً من الشعر الجاهلي توضح مدى التطابق. يقول محمد سعيد القشاط(75) يصف الحصان:
         ودي عل عكروم         مشري بغالي سوم        
         وقت بهيف يعــوم     تحلف طير اسحوم        (يعني الخطاف)
         والا ريح نســــوم قبلي من كــــاوار (تقول هزيز الريح مرت بأثأب)
         ايدير وراه غيــوم     ليا خطب لو عــار     (يثير الغبار بالكديد المركل)
******
من قدام ايــــجف مستعرض في الدف       عبل الذرا
من تالي ناحــــف  اليا ظله واقـــــف
اتقول مبني باشقف                  مضروب بمصمـــار
كيف يقمز ويصـف     اتقول جدى النكـــار
        
(له أيطلا ظبي وساقا نعامة         وتقريب سرحان وإرخاء تتفل)
*******
المنحز وقت يعـب       اقرون زكرة زكّار
راســـه مسلهــــب    مزيــان بدينـــــار
حكر مـن قــــــدام        لنه خير غمـــــام
او ذانه اتقول قلام                  والرقبة تسقـام
تحلف عود عـــلام             صدره ثلث شار
ذرعانــه في البوع              ما همّاش قصـار
مستاسع في البـوع                       في قـده دعـدوع
يسقـــام ومربــــوع   له حارك مرفـوع        نهد  الشوى
*******
متغطي باقصـــاص   الحافر صب رصاص      (ويخطو على صم صلاب كأنها
في الجوبه قصاص          تقــدح فيــه النــــار حجارة غيل وارسات بطحلب)
         ولو استعرضنا قصيدة لامرئ القيس أو أبي دُواد الإيادي أو طفيل الغنوي في وصف  الخيل لوجدناهم يذكرون المعاني السابقة بألفاظها أو بما يؤدي معانيها. فهو يثير الغبار، ويمر كمر الرائح، وشديد القُصَيرى، ويسد شعر ذيله فرجه، وهو عبل الذرا نهد الشوى، إلى غير ذلك من الصور التي وجدها العربي علامة على أصالة فرسه.
         وهذا مقطع من قصيدة لمحمد الصالح القاضي(76) في وصف الإبل، يصفها فيه بمثل ما وصفها الجاهليون، فيقول:
الا يا ركب دنوا لي قلايص                   مراحيل مراسيل الطلاحي
مراديـم علاكيم همايـم                  تجاذبنا التغازي والقناحي
قلايص نزل عوص هوايع                     هميمات بعيدات المضاحي
إلى اقفن كنهن حول نعايـم                 بين ا ريام دمثات المداحي
         فهذه الإبل قلاص، جمع قلوص، وهي الفتية من الإبل، وهي مرحولة عليها آلة السفر، وهي مراسيل بلا أزمة تقاد بها، وذلك لسلامة طبعها، وهي بدينة قوية ذات همة، نركبها في مغازينا ورحلاتنا، ومراعيها بعيدة، كناية عن قوّتها، وهي تشبه النعام إذا أدبرت، لسرعتها، وشبه النعام بأنه بين غزلان في ارض رملية، حيث يتخذ النعام أداحيه، وهي مواضع بيضه على الأرض كالأفاحيص للقطا.

وأخيراً،
         فإن البحث في لغة الشعر الشعبي العربي أمر عسير يطول شأوه، ولا يتسع المقام للإسهاب فيه، وحقها أن تؤلف فيها الكتب الطوال، وذلك لوفرة ما اجتمع لدى الأمة من أشعار، ولاتساع رقعة الوطن وامتداد الزمان، ولا نغالي إن قلنا إن قصة الشعر الشعبي هي قصة الحضارة، واللغة هي الراوي والترجمان، ونحن نستمع ونحسن تارة، وتارات نسيء، وربما مر بنا الشعر دون أن  نعيره بالاً، ودون أن تلفت أنظارنا إليه كنوزه ورموزه العميقة في دلالاتها، الجليلة في إشاراتها.

         ونستخلص من هذه الدراسة حقيقة بالغة تتمثل في أن التراث الواحد والبيئات المتشابهة وان تباعدت، تنتج أدباً متشابهاً، على نحو ما ألفيناه في الشعر الشعبي العربي في الجزيرة العربية وبادية الشام من ناحية وفي ليبيا من ناحية أخرى، على الرغم من بُعد الشقة بينهما، وندرة التواصل.

         وأخيراً بإيجاز، قد يكون لنا أن نقترح على كل من يهمهم تراث الأمة على اختلاف ألوانه أن يبادروا إلى إماطة اللثام عن الأدب الشعبي، لا سيما الشعر في كل أرجاء الوطن، وحبّذا لو تشكل لهذا الغرض فريق يذرع البوادي من بلاد شنقيط على  الأطلسي وشرقاً عبر الصحراء الكبرى والصحراء المصرية الليبية فسيناء ونقب فلسطين وبادية الشام والسماوة، والنفود والدهناء والصمان والربع الخالي والأحقاف وما يليها من ا لمعمور كنجد وسواحل الخليج وجنوباً بلاد اليمن حيث حضرموت وظفار الغنية بأشعار الحميني والدان وغيرها. فهل إلى ذلك من سبيل؟!

Post a Comment

Previous Post Next Post