العرب في جاهليتهم كانوا يمارسون الغناء بلهجاتهم المختلفة، إلى أن تطورت اللغة العربية، وبلغت شكلها الأدبي الفصيح الذي استقرت عليه في القرن السادس الميلادي، عندما رجحت لهجة قريش على غيرها من اللهجات، ثم كرّس انتصارها ذاك بُعَيد ذلك بنـزول القرآن الكريم بها، فصار الشعراء ينظمون أشعارهم بهذه اللغة الأدبية، وصار المغنون يغنون بها إلى بُعيد الفتوحات الإسلامية في القرن الميلادي السابع، وبروز اللهجات العامية التي نجمت عن اختلاط العرب بغيرهم، وعن الصراع بين اللغة العربية الفصيحة واللغات المختلفة في البلاد المفتوحة، فبدأ الغناء يتراوح من حيث لغته؛ بين لغة عربية فصيحة ولغة عربية فصيحة مكسرة. ويجدر بنا هنا، عند هذا الحد، أن نؤكد حقيقة مهمة، هي أن العرب الذين استقروا قبل الإسلام في بلاد الشام وعلى مشارف مصر والعراق ومصر، كانوا قد أوغلوا في عاميتهم العربية، التي نلمح نماذج منها في مصادر أدب الفصحى مثل كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، وكتاب البخلاء للجاحظ، والمقدمة لابن خلدون وغيرها، فمثلا، روى إسحق عن معبد أنه أثناء وجود الأخير في الشام بناء على طلب الخليفة الوليد ابن يزيد  صادف في أحد الحمامات رجلا شاميا ثريا، فتعرف عليه، وسار معه إلى منـزله، فلم يَدَع الشامي من البر والإكرام شيئا إلا فعله، ( ثم وضع النبيذ فجعلت لا آتي بحسن إلا خرجت إلى ما هو أحسن منه، وهو لا يرتاح ولا يحفل لما يرى مني، فلما طال عليه أمري قال: ( يا غلام ، شيخنا ) ، فأتي بشيخ، فلما رآه هشّ إليه، فأخذ الشيخ العود ثم اندفع يغني :
سِلَّور في القدر ويلي يملوه               جاء القط أكله ويلي علوه
قال: فجعل صاحب المنـزل يصفق ويضرب برجليه طربا وسرورا. قال: ثم غناه :
وترميني حبيبة بالدراقن                وتحسبني حبيبة لا أراها
قال فكاد يخرج من جلده طربا، قال: وانسللت منهم فانصرفت، ولم يعلم بي، فما رأيت مثل ذلك  اليوم قط غناء أضيع ولا شيخا أجهل).

(قلنا: شبيه بهذا الموقف ما حدث في مدينة الخليل حينما استعان أحدهم بفرقة من شمال الضفة الغربية لإحياء حفل أقامه لزفاف ولده، كانت الفرقة تعطي أجود ما لديها، بتفاعل عميق، ولكن الجمهور لم يتفاعل معها، ولم تبدُ عليه ملامح الطرب والإعجاب، وتأزّم الموقف حتى كادت الفرقة تغادر الحفل قبل تمامه لولا تحليهم بالصبر، وفي هذا ما يؤكد أن لكل بيئة مزاجها وأدبها الخاص بها. وكان ذلك الرجل قد شاهد عرسا شعبيا في شمال الضفة، ورأى ما كان عليه الجمهور من تفاعل وحمس، فأراد أن ينقل الحالة إلى جنوب الضفة . يحيى جبر، وعبير حمد)

      إذن فإن الغناء بلهجات عربية عامية لا بد أن يكون بدأ مبكرا بين العرب الذين استقروا في المشرق العربي قبل الإسلام، وعاشوا تحت حكم واحدة أو أخرى من الدولتين العظيمتين آنذاك : الدولة الفارسية والدولة البيزنطية، وطوروا لهجات عربية علمية خاصة بهم لأسباب عديدة من أهمها :
1 ـ أن اللغة العربية الفصيحة كانت لا تزال حديثة النضج, ولا تزال تحيا حياة المشافهة, أي أنها لم تكن مادتها قد جمعت بعد, ولم تكن قد وضعت لها قواعد تجعل تعلمها والمحافظة على سلامتها من الأمور الممكنة عمليا, دون الاضطرار إلى الانتقال للعيش وسط القبائل العربية الفصيحة من أجل تعلم اللغة بالمحاكاة المباشرة, وذلك أمر, إن كان ممكنا بالنسبة للفرد, فما كان ممكنا بالنسبة للمجتمع .
2ـ أن تلك المجتمعات العربية التي كانت واقعة مباشرة تحت الحكم الفارسي أو البيزنطي؛ كانت عبارة عن أقليات اضطرتها ظروف حياتها, بما فيها الحاجة, إلى تبني لغة الدولة الحاكمة وإلى نسيان لغتها الفصيحة واستبدالها بشكل عامي ملائم .
ومع بدء حركة الفتوحات الإسلامية الواسعة في مطلع القرن الميلادي السابع؛ التي شملت معظم رقعة العالم القديم: من إسبانيا في الغرب إلى الصين في الشرق, وفي أقل من قرن من الزمن, وما ترتب عليها من صراع  بين اللغة العربية الفصيحة ولغات البلدان المفتوحة, وما نجم عنها من امتزاج الدماء نتيجة لزواج العرب من نساء غير عربيات، ونتيجة للتوسع في التسرّي وفقا للمبدأ الشرعي، مبدأ تحليل ما تملكه اليمين؛ نتيجة لذلك كله، نتجت أجيال تلتقي في عروقها الدماء العربية وغير العربية وتربيها أمهات غير عربيات، واللغة، كما نعلم، هي لغة الأم في المرتبة الأولى، تلك العوامل، مضافا إليها عوامل أخرى، منها:
·        كون العرب أصبحوا أقليات حاكمة موزعة في طول البلاد وعرضها.
·         أن الكتابة العربية كانت لا تزال في دور التطوير والتحديث.
·         أن عملية تدوين اللغة العربية أي جمع مادتها وتقعيد قواعدها وتوفير نصوصها للقراء لم تبدأ على نطاق واسع؛ أي على مستوى الدولة، إلا بعد الثلث الأول من القرن الهجري الثاني في خلافة أبي جعفر المنصور.
         كل ذلك أدى إلى تنامي اللهجات العامية حتى حلت محل العربية الفصيحة كلغة تعامل يومي منذ حوالي القرن الهجري الثاني, يشهد على ذلك ظهور فن ( المواليا) إثر نكبة هارون الرشيد للبرامكة عام 197هـ / 803 م عندما راحت مولاة لهم تندبهم وتصيح في آخر كل بيت قائلة :(واموالياه !) وقد تطور هذا الفن إلى أن صارت تنضوي تحته ـ كما يقول ابن خلدون ـ فنون كثيرة يسمونها :القوما ، وكان كان ، ومنه مفرد ، ومنه في بيتين ، ويسمونه دوبيت ، على الاختلافات المعتبرة عندهم في كل واحد, وغالبها مزدوجة من أربعة أغصان وتبعهم في ذلك أهل القاهرة, وأتوا فيها بالغرائب وتبحروا فيها في أساليب البلاغة بمقتضى لغتهم الحضرية فجاءوا بالعجائب .

         وفي ضوء ذلك كله, فإنني أرى أن تطلق كلمة ( زجل ) على كل أنواع الغناء باللهجات العربية العامية مع الاحتفاظ بالتسمية الشائعة والخاصة بكل لون؛ لتكون مؤشرا على الخصوصية التي يتميز ذلك اللون بها, وعند تطبيق هذه التسمية على الغناء الشعبي الفلسطيني؛ فإنه يجب أن تدل على كل ما نظم باللهجة الفلسطينية الدارجة سواء سمي شعرا أو حداء أو قصيدا أو أغاني وعلى هذا الأساس يمكن تقسيم الزجل الفلسطيني بهذا المعنى الشامل إلى قسمين كبيرين هما: القصيد والأغاني، وفيما يلي تعريف موجز لكل منهما :

القصيد
واحدته قصيدة, وجمعها قصايد ( قصائد ) ويشتقون منه الفعل قصّد يقصد تقصيدا, بمعنى غنّى, وموطن هذا اللون هو في المرتبة الأولى البادية, وفي المرتبة الثانية الريف, ويندر وجوده في المدينة, والقصيدة الشعبية منشأة باللهجة الدارجة, ولكنها شديدة الشبه في بنائها بالقصيدة العمودية في لغتنا الفصيحة, في أنها غالبا ما تلتزم رويا واحدا في أعجاز أبياتها, وهي تغنى في السهرات على أنغام الربابة, وتقتصر مشاركة الجمهور فيها على السماع والاستحسان, والفنان الشعبي الذي يغني هذا اللون بمرافقة العزف على ربابته يسمونه شاعرا, كما أنه هو أيضا يُعرّف نفسه بأنه شاعر, يشهد على ذلك ما ورد في أغنية  ( سكابا يا دموع العين سكابا ) وهي أغنية شعبية قديمة, ولكنها محبوبة وشائعة . يقول فيها المغني :
أشوف الزين نازل عالشريعا                           وبيدو محرمه بيضه رفيعا
وانا من زود حبي للبديعا                           لصير شاعر واحمل لي ربابا

وتندرج ضمن هذا اللون القصائد الشروقية التي تتميز بألحان خاصة بها, وإن كانت تتصف بالمواصفات التي سبق ذكرها للقصيدة الشعبية, غير أن لون الشروقي يتميز أيضا عن غيره من القصيد الشعبي بأنه يأخذ شكل الطلعة المربعة أو المخمسة وكما سنبينه في الحديث عن الطلعات, لكنه مع ذلك يظل محتفظا بلحنه الشروقي المميز.

  الأغاني
وهذه ألوان موروثة متعددة متنوعة تشمل أغاني النساء كافة, وأغاني الأطفال, سواء غناها الأطفال أنفسهم أو غناها لهم أو عنهم الكبار, وأغاني العمل, والأغاني الشعبية العامة التي اشتهرت بأسماء خاصة بها مميزة لها عن غيرها, كالعتابا والميجنا والدلعونا وزريف (ظربف) الطول ومشعل واغزيل وهويدلي وليا بليا وجفرا أو عاليادي اليادي والمعنّى وأبو الزلف, والسحجة أو السامر أو الملعب, والشروقي والشوباش والتشاويق أي الأغاني الدينية والبكائيات والطلعات .



Post a Comment

Previous Post Next Post