مساهمة المتهم في تدعيم أصل البراءة
     إذا كان مبدأ افتراض البراءة في المتهم يعفي المتهم من الالتزام بإثبات براءته ؛ ، إلا أنه إذا أراد المتهم أن يساهم في الإثبات ، فإنه ينبغي أن يسمح له بذلك ؛ لأن هذه المشاركة تشكل ضمانة هامة لتأكيد البراءة المفترضة فيه. وهكذا أوصى المشاركون في المؤتمر الدولي الأول لحماية حقوق الإنسان وتحقيق العدالة في النظام القضائي الإسلامي – الذي انعقد بمقر المعهد الدولي العالي للعلوم الجنائية بسيراكوزا في الفترة من 28 على 31 مايو 1979 – بضرورة أن يكون للمتهم الحق في تقديم أدلة الإثبات وطلب سماع الشهود دفاعاً عن نفسه.

وتتخذ تلك المساهمة المتهم في الإثبات مظهرين : أولهما إيجابي يتمثل في الحق في الإثبات ، والثاني سلبي ويتمثل في حق المتهم في الصمت.

1-      حق المتهم في الإثبات :
2-      مضمون حق المتهم في الإثبات :
     لا شك أن فكرة حق المتهم في الإثبات تعتبر من الأفكار الحديثة نسبياً. فمن الناحية التاريخية ظل دور المتهم في الإثبات معتبراً بمثابة الواجب لسنوات طويلة. ففي المجتمعات القديمة كان المتهم هو المكلف بإثبات براءته من الاتهام المنسوب إليه نظرا لسيادة قرينة الذنب أو الإثم ، وكان مجرد الاتهام يثير افتراضاً قويا بأن المتهم مذنب، وكان يفرض على المتهم أن يثبت براءته بتقديم شهود يحلفون اليمين على صدق قسمة بأنه برئ، وكان اليمين يؤيد ببعض التعاويذ الدينية ، وفى كثير من الأحيان كان العقاب يعتمد على التحكيم الإلهي ، والذي يتمثل في اتخاذ بعض الإجراءات الماسة بالحرية مثل التعذيب والمبارزة[1]. وفى القانون الروماني ، ما أن حلت الإجراءات المكتوبة محل الإجراءات الشفوية أصبح من سلطة القاضي أن يطلب من المتهم تقديم إيضاح عن موقفه ، ومن ثم انقلب عبء الإثبات ليقع على عاتق المتهم، وأصبح الجرم مفترضا في حقه.

على أنه بتكريس مبدأ أصل البراءة في القانون الوضعي والمواثيق الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان ، تدعم حق المتهم في الإثبات برغبته الحرة في تقديم ما يقنع القاضي على عدم صحة الاتهام المنسوب له ، وانتفى عنه من ثم وصف الواجب. هذا الأخير الذي يقع على سلطة الاتهام.
      
والحق في  الإثبات Droit à la preuve "مكنه تخول للخصم أن يقيم الدليل أمام القضاء بالطرق التي حددها القانون". وهو في مقام المحاكمات الجنائية مكنه تخول للمتهم - المفترض براءته - أن يقيم الدليل على عدم صحة الاتهام المنسوب إليه ؛ ومن ثم يجب الترخيص له بكافة التسهيلات، والوسائل اللازمة لإقناع القاضي بعدم سلامة الأدلة المقدمة ضده من سلطة الاتهام.

وحق المتهم في الإثبات بقية من بقايا النظام الاتهامي على المستوى الإجرائي ، هذا الذي تسود فيه المساواة بين المتهم وسلطة الاتهام ؛ والذي لا يمنح فيه أي امتياز لخصم على آخر ، بحيث يكفل لكل خصم الحق في أن يجمع الأدلة لكي يواجه بها خصمه في محاكمة علنية تدور فيها المناقشات شفاهة وبحضور الخصوم. ففي القانون الإنجليزي يتقرر للمتهم بواسطة محامية حق الاستعانة بمخبر خاص Privet detective كي يجرى تحريات موازية لتحريات الشرطة ، وفى الجلسة يقوم المحامى باستجواب الشهود تحت إشراف ورقابة القاضي الذي لا يملك - من حيث المبدأ – أية سلطة في بحث وإدارة الدليل[2].

هذا الحق بدأ يغزو بلدان النظام التنقيبي. فها هى إيطاليا تسير على نهج مقارب للقانون الإنجليزي منذ تطبيق قانون الإجراءات الجنائية الجديد عام 1989. فبعد سنوات من تبنى النظام الإجرائي التنقيبي في مرحلة التحقيق ، وتبنى النظام المختلط في مرحلة المحاكمة ، قلبت إيطاليا نظامها الإجرائي واتجهت صراحة صوب النظام الاتهامي. وهكذا نظم القانون الجديد ، المسمى قانون Vassalli مبدأ المساواة في الأسلحة بين النيابة العامة والمتهم ، وذلك بتقريره الحق لكل خصم في دليل الإثبات (م 190 إجراءات)، وتنظيمه لكيفية مباشرة هذا الحق بواسطة الدفاع عن المتهم، فالأخير له إمكانية القيام ببحث مواز عن الأدلة مع النيابة العامة[3].

وتقرير حق المتهم في الإثبات يهدف إلى جعل الأخير خصماً نشطاً في الدعوى الجنائية ، ومن هذه الزاوية فهو يضمن فعالية أصل البراءة ، والأخير يقترن دائما بوسائل إجرائية إلزامية من بينها - حسب تعبير المحكمة الدستورية العليا - حق المتهم في مواجهة الأدلة التي طرحتها النيابة العامة إثباتاً للجريمة ، وكذلك الحق في هدمها بأدلة النفي التي يقدمها[4] ؛ ولذلك يتمثل هذا الحق في ضحد الأدلة القائمة ، وأيضا البحث عن أدلة النفي وتقديمها للمحكمة.

وننوه إلى أن هذا الحق لا يتعارض مطلقاً مع الدور الإيجابي للقاضي الجنائي في مجال الإثبات. لذ فإنه حتى في ظل التشريعات التي تنتمى إلى أنظمة العرف الإنجليزي ، وعلى الرغم من تمتع المتهم بالحق في دليل الإثبات ، فإن القاضي يمارس دوراً إيجابياً. ففي القانون الإنجليزي ، يستطيع القاضي أن يسمع شاهداً لم يذكره الخصوم ، عندما يرى أن سماعه ضروري لتحقيق العدالة ، أو عندما يكون لدى هذا الشاهد أقوال أو معلومات تفيد في كشف الحقيقة[5]. وفى القانون الإيطالي يستطيع القاضي - وفقاً لنص المادة 507 إجراءات - في حالة الضرورة أن يقرر من تلقاء نفسه البحث عن أدلة جديدة[6].

3-      نطاق ومظاهر حق المتهم في الإثبات :
     في تحديد نطاق حق المتهم في الإثبات يثور التساؤل حول جواز حرمان المتهم من الحق في تقديم الدليل إذا لم يمارسه خلال فترة زمنية معنية. ولدينا أن حق المتهم في تقديم الدليل يظل قائما طالما بقى الاتهام ، ومتى لم يصدر حكم فاصل في موضوع الدعوى. وهنا يرى البعض أن الحق في تقديم الدليل يظل قائما طوال فترة المحاكمة ، ويعتبر هذا الحق وقاعدة البينة على من ادعى وجهان لعملة واحدة. وبالتالي فإن دليل الاتهام لا يهدم أصل البراءة إلا إذا وضع المتهم في ذات المستوى الخاص بالاتهام فيما يتعلق بالإثبات[7]. ولعل هذا ما كشفت عنه المحكمة الدستورية العليا حين قضت بعدم دستورية المادة 123 فيما تضمنته من إلزام المتهم بأن يقدم خلال الخمسة أيام التالية لإعلان تكليفه بالحضور بياناً بالأدلة على صحة كل فعل أسنده إلى موظف عام. وفي هذا القضاء قالت المحكمة أن "سقوط الحق في تقديم الدليل عند الفصل في اتهام جنائي يصادم المفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة، ويناقض بالتالي القواعد المبدئية التي لا تقوم المحاكمة المنصفة بدونها"[8]. 

وهنا يثور التساؤل أيضاً عن جواز تقديم المتهم لدليل غير مشروع كي يثبت براءته. وفي معرض الإجابة على هذا التساؤل ذهب البعض[9] إلى تطلب مشروعية الدليل سواء في حالة الإدانة أو في حالة البراءة ، استناداً إلى نص المادة 336 من قانون الإجراءات التي تنص على أنه ، إذا تقرر بطلان أي إجراء فإنه يتناول جميع الآثار التي ترتب عليه مباشرة ؛ ذلك أن هذا النص لم يفرق بين دليل الإدانة ودليل البراءة. هذا فضلاً عن أن الطرق المشروعة تكفل إثبات البراءة ، ولا يجوز اقتضاء تلك البراءة على حساب إهدار مبدأ الشرعية ، وإلا أصبغنا المشروعية على البراءة التي تتأتى بالتزوير أو الشهادة الزور.

على حين ذهب جانب أخر من الفقه[10] إلى وجوب التفرقة بين ما إذا كانت عدم مشروعية الدليل ترجع إلى أن وسيلة الحصول عليه تخالف قواعد الإجراءات الجنائية ، وبين ما إذا كانت هذه الوسيلة تعد جريمة جنائية ؛ وهنا يقبل الدليل غير المشروع فقط في الحالة الأولى لإثبات البراءة ، استنادا إلى أن البطلان الذي شاب وسيلة التوصل إلى الدليل إنما يرجع إلى فعل من قام بالإجراء الباطل ؛ ومن ثم لا يجوز للمتهم أن يضار من فعل لا يد له فيه. أما في الحالة الثانية والتي تنتج فيها الأدلة عن وسائل تعد جريمة جنائية - كالتزوير أو الشهادة الزور - فإنه يتعين إهدار هذا الدليل ، وعدم التعويل عليه ، استنادا إلى أن الوسيلة يجب أن تأخذ حكم الغاية. فإذا كانت الغاية مشروعة تعين أن تكون الوسيلة المؤدية إليها أيضا مشروعة. والقول بغير ذلك يحفر على ارتكاب الجرائم توسلاً لإثبات البراءة.

وبتفحص اتجاهات القضاء في هذا الصدد يستبين لنا أن محكمة النقض قد دعمت الرأي الأول ، بما مؤداه عدم اشتراط المشروعية في دليل البراءة ؛ ذلك أن هذه الأخيرة أصل في الإنسان. هذا فضلاً عن أن عدم التعويل على الدليل الغير مشروع إنما شرع لضمان حرية المتهم ، فلا يجوز أن ينقلب هذا الضمان ضده. فالمتهم له الحرية الكاملة في اختيار وسائل دفاعه بقدر ما يسعفه مركزه في الدعوى وما تحيط به نفسه من عوامل الخوف والحرص والحذر وغيرها من العوارض الطبيعية لضعف النفوس البشرية. وأن حق المتهم في الدفاع عن نفسه يعلو على حق الهيئة الاجتماعية التي لا يضيرها تبرئة مذنب بقدر ما يؤذيها إدانة برئ[11].

أما بصدد مظاهر حق المتهم في الإثبات ، فلنا أن نستبين وجود مظاهر لهذا الحق في المرحلة السابقة على المحاكمة ، إذ يجوز للمتهم أن يقدم طلباته ودفوعه إلى قاضى التحقيق ، ويفصل الأخير في هذه الطلبات والدفوع في خلال أربع وعشرين ساعة مبينا الأسباب التي استند إليها. كما يجوز للمتهم أن يستعين بخبير استشاري ، كما يجوز له أن يطلب سماع شاهد (م. 81 ، 82 ، 87 ، 110 ، 115 إجراءات جنائية). أما في مرحلة المحاكمة ، حيث تسود مبادئ النظام الاتهامي ، فإن للمتهم حق المشاركة في التحقيق بالجلسة من أجل دحض أدلة الاتهام ، كما أن له بصفة خاصة الاستعانة بشهود نفى ، وكذا الاستعانة بخبير استشاري.

ويجري تكليف شهود النفي بالحضور أمام محكمة الجنح بواسطة المتهم أو المسئول عن الحقوق المدنية وبذلك قبل الجلسة بأربع وعشرين ساعة غير مواعيد المسافة ، ويجوز حضور الشهود في الجلسة بناء على طلب المتهم ، وبغير إعلان سابق. وعند حضور الشهود يسألون بمعرفة المتهم أولا ، ثم بمعرفة المسئول عن الحقوق المدنية. ويجوز للمتهم أن يطلب إعادة سماعهم لإيضاح أو تحقيق الوقائع التي أدوا الشهادة عنها ، كما يجوز للمحكمة أن توجه لهم أية أسئلة تراها لازمة لظهور الحقيقة ، وتلتزم المحكمة بسماع شهود النفي المعلنين ، أما الشهود الذين يحضرون الجلسة بدون إعلان فتملك المحكمة سلطة تقديرية كاملة في قبول أو رفض سماع شهادتهم[12].

ولا يجوز للمحكمة أن ترفض سماع شهود النفي تأسيسا على أن أدلة الثبوت في الدعوى كافية ؛ لأنه لا يجوز الحكم مسبقاً على شهادة الشاهد ؛ إذ بناء على سماع هذه الشهادة قد يتغير وجه الرأي في الدعوى. على أنه يشترط في طلب سماع شهود النفي أن يكون ظاهر التعلق بموضوع الدعوى[13] ، أي أن يكون هذا الطلب لازماً للفصل في موضوعها ، وإلا فيجوز للمحكمة أن ترفض هذا الطلب ، ولا تلتزم بالرد عليه صراحة ، كما إذا كان الغرض من طلب سماع شهود النفي المماطلة في إجراءات الدعوى. وللمحكمة مطلق السلطة في تقدير الشهادة بعد سماعها ، بما مؤداه أنه لا يجوز للمحكمة أن تقدر شهادة أحد الشهود قبل سماعها[14].

ومن بين مظاهر حق المتهم في الإثبات تقرير أحقيته – كما هو حق لباقي الخصوم -  في الاستعانة بخبير استشاري من أجل مناقضة الرأي الفني للخبير المعين بواسطة المحكمة (م. 88 ، 292 إجراءات جنائية). وهنا يحق للخبير الاستشاري أن يطلب من المحكمة تمكينه من الإطلاع على أوراق ومفردات الدعوى ، والإطلاع على التقرير المقدم من الخبير المعين بواسطة المحكمة. ويحق للمتهم طلب حضور الخبير المعين لمناقشته بواسطة الخبير الاستشاري. على أن المحكمة تظل هى الخبير الأعلى في الدعوى ، ومن ثم تملك السلطة التقديرية الكاملة في المفاضلة بين تقارير الخبراء سواء المعينين أو الاستشاريين ، فالخبرة لا تخرج عن كونها دليل في الدعوى يخضع لتمحيص وقناعة محكمة الموضوع.




[1] د. أحمد فتحي سرور ، الحماية الدستورية للحقوق والحريات ، المرجع السابق ، ص554 ، د. علاء الصاوي ، المرجع السابق ، ص555.
[2] د. علاء الصاوي ، المرجع السابق ، ص558.
[3] د. عبد الفتاح الصيفي ود. محمد إبراهيم زيد ، شرح قانون الإجراءات الجنائية الإيطالي ، دار النهضة العربية ، 1990 ، ص171.
[4]  م.د.ع. 2 ديسمبر 1995 ، القضية رقم 28 ، السنة 17 قضائية دستورية ، سالفة الذكر.
[5] Cf. Procédures pénales d’Europe, Sous la direction de Mme M. Delmas-Marty, PUF. Thémis, 1995, p. 541.
مشار إليه لدى د. علاء الصاوي ، المرجع السابق ، ص560.
[6] د. عبد الفتاح الصيفي ود. محمد إبراهيم زيد ، المرجع السابق ، ص307.
[7] P. Corso, La preuve en procédure pénale comparée, Rapport italien, RIDP. 1992, p. 210.
في ذات المعنى ، د. علاء الصاوي ، المرجع السابق ، ص561.
[8] م.د.ع. 6 نوفمبر 1993 ، القضية رقم 37 ، السنة 11 قضائية دستورية.
[9] د. رءوف عبيد ، مبادئ الإجراءات الجنائية في القانون المصري ، دار الفكر العربي ، 1972 ، ص678 وما بعدها.
[10] د. محمد عيد الغريب ، المرجع السابق ، ص64 وما بعدها.
[11] نقض 31 يناير 1967 ، مجموعة أحكام النقض ، س18 ، رقم 24 ، ص128. في ذات المعنى ، نقض 15 فبراير 1984 ، مجموعة أحكام النقض ، س35 ، ص153. وراجع لمزيد من التفصيل ، د. أحمد عوض بلال ، قاعدة استبعاد الأدلة المتحصلة بطرق غير مشروعة في الإجراءات الجنائية المقارنة ، دار لنهضة العربية ، 1994 ، ص259 وما بعدها.
[12] ويكون تكليف شهود النفي الذين لم تدرج أسمائهم بقائمة الشهود المرفقة بأمر الإحالة ، بواسطة المتهم وفقا للمادة 214 مكرر ( أ ) في فقرتها الثانية قبل الجلسة بثلاثة أيام على الأقل غير مواعيد المسافة.
[13] نقض 3 ديسمبر 1991 ، مجموعة أحكام النقض ، س24 ، رقم 177 ، ص1277.
[14] وقد حمى المشرع حق المتهم في تقديم شهود النفي باعتباره مظهراً من مظاهر الحق في الإثبات. فقد قرر المشرع تعرض الشاهد الذي يتخلف عن الحضور أمام المحكمة بعد تكليفه للحكم عليه بالغرامة التي لا تتجاوز عشرة جنيهات في المخالفات ، وثلاثين جنيها في الجنح، وخمسين جنيها في الجنايات (م279 إجراءات). وإذا رأت المحكمة أن شهادته ضرورية فلها أن تؤجل الدعوى لإعادة التكليف بالحضور ، أو أن تأمر بالقبض عليه وإحضاره. ويتعرض الشاهد الذي يمتنع عن أداء اليمين ، أو عن الإجابة في غير الأحوال التي يجيز له القانون فيها ذلك ، للحكم عليه بالغرامة. ولضمان حق المتهم في الإثبات قرر المشرع عدم جواز رد الشاهد لأي سبب من الأسباب (م285 إجراءات).

Post a Comment

Previous Post Next Post