الأدب الشعبي
إن التمسك بالمورث الشعبي ظاهرة صحية، وقد قيل : "من لا تراث له.. لا وطن له".. وكثيراً ما استخدمت عناصر التراث لتدعيم قضية صراع وطنية، وكسب حقوق، ونحن اليوم في مواجهة سارقي حضارات، وقد تكالبت علينا الأمم، والصهيونية العالمية تسرق الأرض، والزي، والحكاية، والمأكولات الشعبية، وتنسج منها ثقافة تدافع عنها.. إننا اليوم أحوج الناس للدفاع عن هذا الموروث، لا أن ننظر إليه نظرة استخفاف، واستهزاء، وتعال.. إن تمسكنا بتراثنا سيكون أنجع، إذا أدركناه، وتعلمناه وتذوقناه، وعلمنا كنهه، ونقلناه للأبناء.

ما أحوجنا اليوم إلى إعادة النظر في كثير من الأمور, ومراجعة ما نحن عليه، بعين الناقد الحكيم ، وبطريقة جريئة لا تأخذها في الله لومة لائم، ولا تخضع لرؤى جامدة متحجرة؛ تمعن النظر، وتكتشف مواطن الخلل والزيغ، وتزن الأمور بميزان العدل، ثم تنقض على أهدافها لا تلوي على ولا تعقّب، حتى ننجز مشروعنا الحضاري, ونسير في ركب الحضارة الإنسانية شركاء فيه لا متسولين.

وفي ضمنّا هذا الكتاب أبحاثا لمؤلفين مختلفين، تدور حول موضوعات شتى،وقد بينّا تحت كل عنوان اسم المؤلف والمجلة أو الكتاب الذي نشر فيه، والأبحاث مستلة من مصادرها المنشورة في المشرق والمعرب، وليس لنا فيه سوى بحثين من تأليفنا، ويكفينا شرفا أن نكون قد أحسنّا اختيار الأبحاث الأخرى، راجين أن نقدم من خلالها عرضا شافيا لمساحة واسعة من أدبنا الشعبي، مع سابق علمنا بأنه أوسع من أن يحيط به كتاب كهذا الكتاب؛ لا سيما أنه في تجدد مستمر، ومنتشر في الزمان والمكان,والله الموفق للسداد.


















فروع التراث الشعبي:
التراث الشعبي نتاج لتفاعل الإنسان مع الطبيعة، وتفاعل الإنسان مع أخيه الإنسان، وبالتالي فإن التراث يمثل حياة الإنسان الاجتماعية، والروحية والمعاشية وتأتي الفنون القولية على رأس قائمة فروع الفلكلور(8)، ويصنف "عمر الساريسي"(9) هذه الفنون القولية في:
منظومات السحر والتعاويذ والرقى: استعمال الكلمة في طقوس معينة لجلب الخير والبركة أو طرد الشيطان والقوى الشريرة.
·       الأمثال الشعبية: أقوال حكيمة بليغة، قصيرة موجزة، مصيبة المعنى، شائعة الاستعمال.
·       الأغنية الشعبية، تلك الأغنية النابعة من الشعب وتصور حياته، ويتفاعل معها بصورة عفوية، منظومة باللهجة الدارجة، وتروى مشافهة.
·       النكتة: تعبير روائي قصير ساخر، يعكس مزاج الشعب.
·       نداءات الباعة: كي تعتبر من التراث يشترط بها أن تكون بليغة، وذات لحن غنائي.
·       الحكاية الشعبية: كما يعرفها "أحمد رشدي صالح": فن القول التلقائي العريق المتداول بالفعل، المتوارث جيلاً بعد جيل المرتبط بالعادات والتقاليد. والحكاية هي العمود الفقري في التراث الشعبي، وهي التي نطلق عليها مجازاً الأدب الشعبي(10).
أما الفرع الثاني من فروع الفلكلور فيتمثل في الأشغال الفنية اليدوية حيث استبعدت مرات من دائرة التراث، وأعيدت إليه، ومن هذه الفنون صناعة الفخار، والقش، والجلود، والصوف والنسيج. وأما الفرع الأخير يشمل أقساماً متفرقة كالدبكات، والرقص الشعبي، والموسيقى الشعبية … الخ.

أهمية دراسة التراث الشعبي:
تكمن أهمية دراسة التراث الشعبي في:
أولاً: التوازن بين القيم المادية، والقيم الأخلاقية (الإنسانية): تتسم طبيعة العصر الذي نعيشه، بالمادية، والتقدم العلمي والتكنولوجي، في ظل فقر القيم الإنسانية، والروحية المعنوية… ولابد للمجتمع المتحضر إلا أن يسير في خطين متوازيين: خط يمثل القيم المادية، وخط آخر يمثل القيم الأخلاقية الإنسانية، ولرسم بياني بسيط يقارن بين الخطين في القرن العشرين، يرينا أن التقدم المادي قفز إلى أعلى الصفحة بينما الآخر يراوح نقطة الانطلاق، وهذا يعني خللاً واضحاً في أساسيات البنية الاجتماعية.
ثانياً: رواية جانب أو جوانب تاريخ الفكر البشري: إن دراسة التراث تعطينا فكرة أقرب للوضوح عن الفكر البشري، وتطوره عبر الأجيال، وتصور الدراسة كيفية تفاعل الإنسان مع بيئته، وصور هذا التفاعل عبر الزمان.. من خلال سمات الانتشار والتداول والتراكم التي يتسم بها التراث.
ثالثاً: إن التشابه التراثي بين أبناء الأمة الواحدة، لحري أن يضفي على القومية مفاهيم إضافية، لشد عراها، وتثبيت جذورها(11).

سمات الأدب الشعبي:
هناك جوانب كثيرة يتسم بها الأدب الشعبي، من حيث الشكل أو المضمون ومن هذه السمات:-
أولاً: اللغة: وصفها الدكتور "محمود ذهني":- بأنها فصحى مسهلة، أو ميسرة، حتى تكاد تقارب العامية في الشكل الظاهري(18)، أما "إيليا الحاوي" فقال:- أن هذه الألفاظ قد تكون عامية، مشبعة بروح الريف، متداولة بشكل يومي(19).. ويقرر آخرون، أن تناول الأدب الشعبي بالفصحى يجعله يتنازل عن قدر كبير من الحرية الشفوية التي يتمتع بها(20).
ثانيا: الموضوع: موضوع الأدب الشعبي عام بحيث يمس كل فرد من أفراد الأمة، وهو أيضاً خاص، بحيث يحس كل فرد بأنه موضوعه الشخصي الذي يهمه وحده، أو يهمه قبل أي شخص آخر. فالأدب الشعبي يتناول كل موضوع، أو أي موضوع، له اتصال مباشر بالشعب(21).
ثالثاً:  الشكل: يعتبر الأدب الشعبي قمة الوعي الفني، فهو لا يحدد لنفسه شكلاً معيناً، ولا يأنف أن يستعير لنفسه أي شكل يجد أن فيه، تحقيقاً لأهدافه ومراميه.. فقد تقال قصة ما.. بعدها تعزز نتيجة القصة بمثل ما، أو تحول القصة إلى أغنية شعبية.. أو مسرحية شعبية، أو تزاوج بين هذه الأشكال مجتمعة(22).
رابعاً: من حيث الوسائل: يستخدم الأدب الشعبي كل الوسائل المتاحة، مثل وضع المفهوم المعين في أسطورة، أو ملحمة، أو سيرة، أو دراما.. وكل همه تحقيق المضمون والغاية.
خامساً: العفوية والتلقائية: فالأدب الشعبي يساير الفطرة أكثر من الأدب الرسمي، وتتجلى هذه الفطرة في حَبْك الأدب، وطريقة إبداعه المتغيرة، من بيئة لأخرى، ومن زمن لآخر، كما تتجلى الفطرة والتلقائية في لا منطقية السرد، والربط بين الأحداث، بعكس الأدب الرسمي، الذي يعتمد على الربط والمنطقية(23). من هنا أكد الباحث "أحمد رشدي صالح": أن الأدب الشعبي أكثر صدقاً في إعطاء الصورة الحقيقية للعملية الاجتماعية. ومن هذه السمات نستطيع أن نحدد للشعبية معلمين أساسيين هما:
1.    الانتشار أو التداول: بحيث يشمل هذا الأدب كل طبقات المجتمع، وذلك بعكس الأدب الرسمي الذي تتناوله طبقة معينة.
2.    التراثية أو الخلود: إن هذا الأدب يستطيع أن يطفو فوق سطح الزمن ليقابل كل عصر بنفس الجدة والحيوية، ويلتقي مع كل جيل بنفس الانفعال والتأثير(24).
من هنا يمكن أن نصف الشعبية بصفة تحددها وتدل عليها هي: "تراثية التداول" أي الانتشار والخلود.
الانتشار على مستوى الأمة، والخلود على الزمن من عصر لعصر وهذه الميزة "تراثية التداول" أهم ميزة للأدب الشعبي(25).

علاقة الأدب الرسمي بالشعبي وصلة الأدب العربي بغيره:
إن غاية الأدب – بشكل عام ـ سواء أكان هذا الأدب شعبياً أم رسمياً هي تلبية احتياجات الإنسان المادية والمعنوية كذلك الأمر، مهما اختلفت أشكاله، أو خصوصياته، فإن غايته تتمثل في إثارة المشاعر والأحاسيس، والمتعة، واللذة أو الإشباع النفسي والعاطفي، والمؤانسة والتسلية والترفيه، ولا يخلو غرضه أحياناً من توجيه الفرد، أو تقديم عظة أو عبرة له، وذلك ما يندرج تحت الغايات التعليمية. وهناك علاقة اتكاء تبادلية بين الأدبين، وتبرز ملاحم هذه العلاقة في:
أ- اعتماد الأدب الرسمي على الأدب الشعبي، واعتبار الموروث الشعبي مصدر قوة وتواصل وجداني للأدب الرسمي، وظهر هذا الاعتماد بصورة جلية في الحركات الأدبية الحديثة كالرومانسية، والرمزية والواقعية، وفي هذه المقطوعة من قصيدة بدر شاكر السياب "غريب على الخليج" ، التي تظهر هذا التوظيف:-
بالأمس حين مررت بالمقهى، سمعتك يا عراق.
وكنت دورة اسطوانة
هي دورة الأفلاك من عمري، تكور لي زمانه
في لحظتين من الزمان، وإن تكن فقدت مكانه.
هي وجه أمي في الظلام
وصوتها، يتزلقان مع الرؤى حتى أنام
وهي النخيل أخاف منه إذا ادلهم الغروب
فاكتظ بالأشباح تخطف كل طفل لا يؤوب،
من الدروب
وهي المفلية العجوز وما توشوش عن حزام
وكيف شق القبر عنه أمام عفراء الجميلة
فاحتازها ألا جديلة
زهراء أنت أتذكرين
تنورنا الوهّاج تزحمه أكف المصطلين؟
وحديث عمتي الخفيض عن الملوك الغابرين
ووراء باب القضاء
قد أوصدته على النساء
أيد تطاع بما تشاء لأنها أيدي رجال
كان الرجال يعربدون ويسمرون بلا كلال
أفتذكرين؟ أتذكرين؟ بذلك القصص الحزين
حشد من الحيوان والزمان، كنا عنفوانه(26)

هذه اللوحة الفنية "للسياب" ، تحكي مشاهد وصور ريفية محلية، وتمثل نوعاً من التعبير تنقل به الأشياء في حدود بيئتها الريفية، ألا نرى فيها صورة الأم تحكي الحكايات لولدها، حكاية الأشباح التي تنتشر في الظلام، وتخطف الأطفال الذين لا يرجعون لبيوتهم قبل حلول الظلام، كذلك نرى في هذه التحفة الشعبية صورة العجوز، بألفاظها العامية، وعباراتها المهلهلة، تحدث قصة عشق عروة بن الحزام وحبه لعفراء، وأمام كانون النار، والأكف تستدفئ شتاءً، نرى صورة العمة تتطرق لأحاديث تاريخية شعبية، وقد أطلقت العنان لذاكرتها، تسرد كل ما يخطر ببالها.
إنه ليس "السياب" وحده الذي وظف مفاهيم الأدب الشعبي، في شعره بل نرى، معظم الشعراء المعاصرين، أو الذين يكتبون الشعر الحر، يتطرقون لهذا التوظيف، مثل: محمود درويش، وسميح القاسم، والفيتوري، وممدوح عدوان.

يتطرق فاروق خورشيد إلى قضية ربط الأدب الرسمي بالموروث الشعبي، وذلك لكي يحقق الأدب إنسانيته، ويصور تطور الوجدان والضمير، وهذا واضح من ارتباط الآداب الأوروبية "بالميثولوجيا الإغريقية" كالإلياذة والأوديسا، وتقدم هذا الأدب من وجهة إنسانية نتيجة هذا التواصل. وينعى خورشيد، فكرة تقسيم الأدب العربي إلى مراحل سياسية، لأن الأدب في هذه الحالة ما هو إلا تعبير عن سياسة الحاكم، يحيا بحياته، ويموت بوفاته، ولا يعبر عن تطور الوجداني الجمعي الشعبي(27)، وما قتل ابن المقفع، وهروب عبد الحميد الكاتب إلا صور من صور الأدب، الذي احتكم للمرحلة السياسية، وحكمت عليه السياسة بقتله، أو تشريد صاحبه، بعد أن تغيرت المرحلة السياسية(28).

ب- اعتماد الأدب الشعبي على الأدب الرسمي: لم يأت الموضوع في الأدب الشعبي من فراغ، فلا بد من اعتماده على بيئة معروفة، أو زمان معروف، أو بطل تاريخي معروف، فلا أدب بلا أصل، إما أصل حقيقي، أو رمزي.. "فسيرة عنترة بن شداد" مثلاً، تحكي قصة أو سيرة بطل عربي معروف، ولكن داخل هذه السيرة ما جعلها تحيد عن مسارها الرسمي وتنقلها إلى الشعبية، مثل طريقة السرد، الخيال والمبالغة، لا منطقية الأحداث….

باختصار شديد فإن اللغة والطريقة التي يحكى بها الأدب هي التي تحدد رسميته أو شعبيته.. فكليلة ودمنة مثلاً التي دفع ابن المقفع حياته ثمناً لها لمهاجمته السلطة المتمثلة بالمنصور، تعتبر أدباً رسمياً، إذا تناولتها الخاصة، وتعتبر أدباً شعبياً إذا حكتها الجدات لأحفادهن.
ج- الأثر والتأثير بين الآداب: كثيراً ما نرى صورة من صور الأدب الشعبي لشعب ما، وقد تشابهت مع صورة أخرى، أو حتى توحدت معها، ومن هذه الصور الكثيرة التي يقع فيها التشابه "المثل الشعبي"، أو الحكاية الشعبية، ولنأخذ على سبيل المثال: المثل الإنجليزي “Birds of Feather Folk Together”، نرى أنه صورة طبق الأصل عن المثل العربي "الطيور على أشكالها تقع" وهذا في الأدب الرسمي، أما في الأدب الشعبي فيقابله المثل "كل من على ولفه يلف، حتى النحلة والزلف"؛ بيئتان مختلفتان، يسكنهما شعبان مختلفان، ومثل واحد.. ترى ما هو الأدب الذي أثر في الآخر؟.. وكيف حدث هذا التأثير..

الإجابة على السؤال الأول، تتطلب دراسات، وأبحاث مقارنة جادة وجدية.. لا مجال لبحثها في هذه الدراسة، أما إجابة السؤال الثاني فهناك افتراضات كثيرة، منها نظرية "جاستون باري" في التلاقي التاريخي بين الآداب، وأنه لا يمكن أن تلتقي صدفة، ويدلل على ذلك في التقاء الشرق مع الغرب في الحروب الصليبية.. أما "جوزيف بيديه" فيرى أن من طبيعة الأدب الشعبي، أن تتلاقى فيه قصص جميع الشعوب، من غير تأثير أو تأثر لسذاجتها، وانبعاثها من الحالة الفطرية المشتركة بين الشعوب(29)، إن ملامح النظرية هذه، بأقانيمها الثلاثة، تستدعي الباحثين في الأدب عامة، والأدب الشعبي خاصة، لمزيد من التقصي والبحث والتحليل، والنظر للأدب بصورة شمولية مفتوحة، لاستنباط تطور الفكر البشري، وتطور الضمير والوجدان الشعبي عبر الحقب التاريخية المتتالية.

Post a Comment

Previous Post Next Post