تفتيش المنازل في أحوال التلبس :
     لما كان تفتيش المنازل – بحسبانها مستودع للسر وموضع سكينة الشخص - انتهاك خطير لحرمتها ، لذا فقد حرص دستور 1971 على تقرير بعض الضمانات بغية صيانة تلك الحرمة. وهكذا نصت المادة 44 منه على أن "للمساكن حرمة فلا يجوز دخولها ولا تفتيشها إلا بأمر قضائي مسبب وقفا لأحكام القانون". وبغية التوفيق بين نصوص قانون الإجراءات الجنائية وهذا النص الدستوري تدخل المشرع بموجب القانون رقم 37 لسنة 1972 بشأن الحريات العامة ، من أجل تعديل بعض نصوص قانون الإجراءات الجنائية. وهكذا تم تعديل المادة 91 من قانون الإجراءات الجنائية بحيث اشترطت لدخول المسكن وتفتيشه صدور أمر من قاضي التحقيق ، وأن يكون هذا الأمر مسبباً ، كما عدلت المادة 206 من ذات القانون ، واستلزمت لتفتيش غير المتهم أو منزل غير منزله أن تحصل النيابة العامة على أمر مسبب بذلك من القاضي الجزئي بعد إطلاعه على الأوراق. ومن ناحية أخرى ألغى نص المادة 48 إجراءات التي كانت تخول مأمور الضبط القضائي سلطة تفتيش منازل الأشخاص الموضوعين تحت مراقبة البوليس إذا وجدت أوجه قوية للاشتباه في أنهم ارتكبوا جناية أو جنحة.

غير أن المشرع قد غفل عن تعديل المادة 47 إجراءات جنائية التي تخول مأمور الضبط القضائي في حالة التلبس بجناية أو جنحة أن حق تفتيش منزل المتهم. وقد ترتب على هذا الغفل أن طرح الفقه التساؤل حول جواز إعمال حكم هذه المادة.

المستقر عليه فقهاً أن هناك ثمة تعارض بين المادة 47 إجراءات والمادة 44 من الدستور[1]. وأنه لما كان الدستور هو القانون الأعلى مرتبة ، فإنه إذا ما تعارض نص لقانون مع نص الدستور وجب إعمال هذا النص الأخير وإهدار ما سواه. ولما كان ذلك وكان ما قضى به الدستور في المادة 44 من حظر دخول المساكن أو تفتيشها إلا بناء على أمر قضائي مسبب ولم يستثني من ذلك حالة التلبس ، بخلاف الحال في تفتيش الأشخاص فقد أجازته المادة 41 من الدستور في حالة التلبس دون استلزام أمر قضائي. لذلك لا يجوز إهدار هاتين الضمانتين  اللتين قررهما الدستور لصون حرمة المسكن. ولا يجوز القول باستثناء حالة التلبس من حكم هاتين الضمانتين قياساً على استثناء هذه الحالة من ضمانة صدور الأمر القضائي في حالة تفتيش الشخص أو القبض عليه ، ذلك أن هذا الاستثناء لا يقاس عليه. ولا يمكن التعلل لرفض هذا الرأي بمقوله أن حالة التلبس تقتضي سرعة القيام بالإجراءات وإلا أهدرت الغاية المرجوة منها ، ذلك أن مأمور الضبط القضائي يملك الحق في اتخاذ التدابير التحفظية للمحافظة على الأدلة (م.24 إجراءات جنائية). ومن ثم فإن ما تقرر بالمادة 47 إجراءات الجنائية من تخويل مأمور الضبط القضائي الحق في إجراء تفتيش المسكن في حالة التلبس دون أن يصدر له أمر قضائي مسبب ، يكون قد تضمن حكماً مخالفا للمادة 44 من الدستور ، ويكون قد نسخ ضمناً بقوة الدستور ، ويكون صدور أمر قضائي ومسبب لدخول المسكن أو تفتيشه لابد منه بعد العمل بأحكام الدستور دون حاجة لتعديل أو إلغاء المادة 47 من قانون الإجراءات الجنائية.

وهذا ما انتهت إليه المحكمة الدستورية العليا حين عرض عليه الأمر[2]. فقد جاء في حكمها الأشهر حول المادة 47 من قانون الإجراءات الجنائية أن "المشرع الدستوري قد فرق في الحكم بين تفتيش الأشخاص وتفتيش المساكن فيما يتعلق بضرورة أن يتم التفتيش في الحالتين بأمر قضائي ممن له سلطة التحقيق أو من القاضي المختص كضمانة أساسية لحصول التفتيش تحت إشراف مسبق من القضاء ، فقد استثنت المادة 41 من الدستور من هذه الضمانة حالة التلبس بالجريمة بالنسبة للقبض على الشخص وتفتيشه ، فضلا عن عدم اشتراطها تسبيب أمر القاضي المختص أو النيابة العامة بالتفتيش ، في حين أن المادة 44 من الدستور لم تستثني حالة التلبس من ضرورة صدور أمر قضائي مسبب ممن له سلطة التحقيق أو من القاضي المختص بتفتيش المسكن سواء قام به الآمر بنفسه أم أذن لمأمور الضبط القضائي بإجرائه ، فجاء نص المادة 44 من الدستور المشار إليه عاما مطلقاً لم يرد عليه ما يخصصه أو يقيده ، مما مؤداه أن هذا النص الدستوري يستلزم في جميع أحوال تفتيش المساكن صدور الأمر القضائي المسبب...ولا يحق القول باستثناء حالة التلبس من حكم هاتين الضمانتين – أي صدور الأمر القضائي وأن يكون الأمر مسبباً -قياسا على إخراجها من ضمانة صدور الأمر القضائي في حالة تفتيش الشخص أو القبض عليه ، ذلك بأن الاستثناء لا يقاس عليه كما أنه لا محل للقياس عند وجود النص الدستوري الواضح الدلالة. ولا يغير من ذلك ما جاء بعجز المادة 44 من الدستور بعد إيرادها هاتين الضمانتين أن ذلك"وفقا لأحكام القانون" لأن هذه العبارة لا تعني تفويض المشرع العادي في إخراج حالة التلبس بالجريمة من الخضوع للضمانتين اللتين اشترطهما الدستور في المادة 44 سالفة الذكر ، وإنما تشير عبارة "وفقا لأحكام القانون" إلى الإحالة إلى القانون العادي في تحديد الجرائم التي يجوز فيها صدور الأمر بالتفتيش وبيان كيفية صدوره وتسبيبه إلى غير ذلك من الإجراءات التي يتم بها هذا التفتيش.

وهكذا أصبح تفتيش المساكن غير جائز لمأمور الضبط القضائي ولو في حالة التلبس إلا بناء على أمر قضائي مسبب ، سواء في ذلك منزل المتهم أو منزل غير المتهم. بل ولا تستطيع النيابة العامة أن تندب مأمور الضبط لتفتيش مسكن غير المتهم ، ذلك أن النيابة العامة لا تملك ذاتها إجراء هذا التفتيش إلا بناء على أمر مسبب بذلك من القاضي الجزئي بعد إطلاعه على الأوراق (المادة 206 إجراءات). كما لا يجوز للقاضي الجزئي – حال الرغبة في تفتيش مسكن غير المتهم - أن يصدر الأمر إلى مأمور الضبط القضائي مباشرة ، كما لا يجوز لهذا الأخير أن يطلب هذا الأمر من القاضي الجزئي.

وبزوال سلطة مأمور الضبط القضائي في تفتيش المساكن إلا بأمر قضائي مسبب ، يظل له فقط اتخاذ جميع الوسائل التحفظية اللازمة للمحافظة على أدلة الجريمة (المادة 24/1 إجراءات) ، وله أن يضع الأختام على الأماكن التي بها آثار أو أشياء تفيد في كشف الحقيقة وله أن يقيم حراساً عليها (المادة 53 إجراءات).

46- حكم تفتيش المتاجر والسيارات :
     في الواقع لقد تضاربت الأحكام حول حكم تفتيش المساكن. فبعض الأحكام ذهبت في إلى أن "حرمة محل التجارة مستمدة من اتصاله بشخص صاحبه"[3]. وفي أحكام أخرى ذهبت إلى أن "للمتجر حرمة مستمدة من اتصاله بشخص صاحبه أو بمسكنه"[4]. وفي حكم آخر أضفت حكم المسكن على المتجر عند غياب صاحبه نفسه ، حتى ولو كان بابه مفتوحا أثناء النهار[5].  ثم عادت في حكم آخر وأضفت على المتجر حكم الشخص حيث قضت بأن "المشرع بما نص عليه في المادة 44 من الدستور والمادة 91 من قانون الإجراءات لم يتطلب تسبيب أمر التفتيش إلا حين ينصب على المسكن ، والحال في الدعوى الماثلة أن أمر النيابة العامة بالتفتيش انصب على شخص الطاعن ومتجره دون مسكنه فلا موجب لتسبيبه"[6].

والحق أن المحال التجارية قد ترتبط بالشخص ، وقد ترتبط بالمسكن. فالمتجر يكون مرتبطا بالشخص عند وجوده فيه ، ومن الممكن أن يرتبط بمسكنه إذا كان من ملحقات هذا المسكن أو في حالة غياب صاحبه نفسه سواء كان المتجر مغلقاً أم مفتوحاً أثناء النهار. وعلى ذلك فإنه يجوز لمأمور الضبط القضائي تفتيش المتجر كلما كان جائزا تفتيش شخص حائزه عند وجوده فيه إذا توافرت حالة التلبس دون استصدار أمر قضائي ، أما إذا ارتبط المتجر بمسكن الشخص كما لو كان من ملحقاته أو في حالة غياب صاحبه عنه فلا يجوز تفتيش المتجر ، ولو في حالة التلبس ، إلا بصدور أمر قضائي مسبب.

هذا الخلاف لا نلمسه بشأن تفتيش السيارات. فالمتفق عليه فقهاً وقضاءً أن السيارة ليست مسكناً ، ولذلك فإن تفتيش السيارات لا يخضع إلى الضمانات والقواعد المقررة للمساكن. وبناء على ذلك قضي بأن "حرمة السيارة الخاصة مستمدة من اتصالها بشخص صاحبها أو حائزها"[7]. ومن ثم يسري على تفتيشها أحكام تفتيش الأشخاص طالما هي في حيازة صاحبها أو حائزها ، أو برضائه متى كان متواجداً بها وقت التفتيش[8]. أما إذا كانت السيارة الخاصة داخل أحد ملحقات المسكن ، فإن تفتيشها يأخذ حكم المكان المسكون فلابد من استصدار أمر قضائي مسبب قبل التفتيش[9].

ونعتقد أن ما يسري على السيارات الخاصة يسري بدوره على السيارات الأجرة. ومن ثم فإن تفتيش تلك الأخيرة يرتبط بتفتيش شخص حائزها أو ركابها إذا توافرت حالة التلبس. وإذا كان لمأمور الضبط القضائي إصدار أمر بوقف مركبات السير الخاصة والأجرة على السواء ، بغية التأكد من مراعاة قواعد التراخيص وأمن الطرق ، أو بغية البحث عن مجرم هارب أو التأكد من شخصية ركابها...الخ ، فإن هذا الإيقاف لا يخول لمأمور الضبط القضائي سلطة تفتيش السيارة ، متى لم تتوافر أحد حالات التلبس التي تبيح تفتيش السيارة وما بها من ركاب.

أما بالنسبة للسيارات العامة وسائر المواصلات العامة فإن تفتيشها يسري عليه ما يسري على تفتيش الأماكن العامة . ومن ثم يجوز تفتيشها ولو في غير حالة التلبس. غير أن هذا التفتيش لا ينصرف إلى الركاب أو أمتعتهم إلا إذا توافرت حالة التلبس أو بإذن من سلطة التحقيق.

47- ثانياً : دور الشرطة القضائية في أحوال الندب للتحقيق :
48- أ : التعريف بالندب وبيان مبرراته :
     سبق لنا التأكيد على أن اختصاص مأمور الضبط القضائي يقتصر على الاستدلال ، دون أعمال التحقيق الابتدائي ، فهي من اختصاص سلطات التحقيق سواء كانت النيابة العامة أم قاضي التحقيق. ومع ذلك فقد أجاز المشرع لسلطات التحقيق أن تندب أحد مأموري الضبط القضائي ، لمباشرة بعض إجراءات التحقيق. فقد نصت المادة 70 إجراءات جنائية على أنه "لقاضي التحقيق أن يكلف أحد أعضاء النيابة العامة أو أحد مأموري الضبط القضائي القيام بعمل معين أو أكثر من أعمال التحقيق عدا استجواب المتهم ، ويكون للمندوب في حدود ندبه كل السلطة التي لقاضي التحقيق. وله إذا دعت الحال لاتخاذ أي إجراء من الإجراءات خارج دائرة اختصاصه أن يكلف به قاضي محكمة الجهة أو أحد أعضاء النيابة أو أحد مأموري الضبط القضائي بها". كما نصت المادة 200 إجراءات جنائية على أن "لكل من أعضاء النيابة العامة في حالة إجراء التحقيق بنفسه أن يكلف أي مأمور من مأموري الضبط القضائي ببعض الأعمال التي من خصائصه".

والندب – المسمى في العمل الأذن - بذاته إجراء من إجراءات التحقيق ، ومن ثم تتحرك به الدعوى الجنائية ، كما تنقطع به مدة التقادم ، ولو لم يقم المندوب بتنفيذ هذا الانتداب[10]. ويترتب على الانتداب ، تمتع مأمور الضبط القضائي المنتدب للتحقيق ، بكافة السلطات التي تتمتع بها السلطة الآمرة ، ويتقيد بذات الشروط التي تتقيد بها في حدود الإجراء أو الإجراءات المنتدب لمباشرتها.

ويجد الندب عادة مبرره في بعض الاعتبارات العملية ، التي قد تنشأ نتيجة كثرة أعمال التحقيق مما لا يتسع الوقت لمباشرتها جميعا من قبل سلطة التحقيق الأصلية. بل يكمن أن تنشأ اعتبارات إجرائية توجب الندب[11] ، كأن يكون العمل المراد إجراؤه في خارج دائرة اختصاص سلطة التحقيق المحلي ، أو حينما تقتضي سرعة الكشف عن الحقيقة مباشرة عدة إجراءات في أكثر من مكان وفي نفس الوقت ، مما يصعب على سلطة التحقيق أن تقوم بهذه الإجراءات. هذا كله فضلاً عن أن بعض أعمال التحقيق ، كالقبض والتفتيش ، تقتضي مكنات جسمانية ، عادة لا تتوافر إلا بالنسبة لمأمور الضبط القضائي بحكم تأهيلهم المهني.

49- ب : شروط الندب للتحقيق :
     أوجب المشرع لصحة الندب نوعان من الشروط[12] : بعضها موضوعي تتصل بصفة الآمر بالندب ، وصفة المندوب ، ومحل الندب ؛ وبعضها ذات طبيعة شكلية تتصل بالشكل اللازم في أمر الندب ذاته.

50- الشروط الموضوعية للندب :
     بقراءة المواد 70 ، 200 من قانون الإجراءات الجنائية يتبين أن أمر الندب يجب أن يصدر من سلطة خصها القانون بالتحقيق ، وأجاز لها ندب غيرها. وعلى ذلك فإن لقاضي التحقيق (م70) وللنيابة العامة (م.200) سلطة ندب غيرهم من جهات التحقيق أو أحد مأموري الضبط القضائي. وعلى ذلك فلا يجوز لمأمور الضبط القضائي عند مباشرته بعض إجراءات التحقيق أن ينتدب غيره من مأموري الضبطية القضائية لاتخاذ أي من هذه الإجراءات ، ذلك أن القانون لم يخوله سلطة الندب[13].

وفوق ذلك يتعين أن يكون الآمر بالندب مختصاً نوعياً باتخاذ الإجراء الذي يندب له مأمور الضبط القضائي ، لأن الانتداب تفويض لا اختصاص ، فلا يجوز للسلطة الآمرة أن تندب مأمور الضبط القضائي لمباشرة إجراء لا تملكه. مثال ذلك الندب الصادر من وكيل النيابة لتفتيش منزل غير المتهم ، فهذا الإجراء لا يملكه وكيل النيابة إلا بعد استصدار إذن من القاضي الجزئي ، وبالتالي فهو لا يملك ندب غيره طالما أنه خارج عن حدود اختصاصه[14]. وكذلك لا يجوز للقاضي الجزئي أن ينتدب مأمور الضبط القضائي لتفتيش منزل غير المتهم أو لمراقبة المكالمات التليفونية ، ذلك أنه لا يملك مباشرة هذا الإجراء ، بل تنحصر سلطته في الإذن للنيابة العامة باتخاذ الإجراء ، وللنيابة العامة سلطة ندب من تراه من مأموري الضبط لتنفيذ الإجراء[15]. كما يشترط ألا توجد عقبة قانونية تحول بين الآمر بالندب وأن يقوم بنفسه بالإجراء محل الندب ، كأن تكون الدعوى الجنائية معلقة رفعها على شكوى أو طلب أو إذن[16].

وعلاوة على الاختصاص النوعي يتعين أن يكون الآمر بالندب مختصاً مكانياً بما يندب إليه من أعمال التحقيق ، فلا يكون الندب صحيحا إذا صدر من وكيل نيابة لاتخاذ إجراء في جريمة غير داخلة في دائرة اختصاصه. والاختصاص المكاني يتحدد بمكان ارتكاب الجريمة أو مكان إقامة المتهم أو مكان ضبطه ، فإذا لم تدخل الجريمة في دائرة اختصاص وكيل النيابة بأحد هذه المعايير ، فلا يكون مختصاً بالتحقيق مكانياً ، فلا يجوز له بالتالي أن يندب مأمور الضبط القضائي لمباشرة أي من إجراءاتها[17].

ويجب أن يظل اختصاص سلطة التحقيق قائماً ، وعلى ذلك فلا يجوز إصدار ندب لمأمور الضبط القضائي لمباشرة إجراء من إجراءات التحقيق في جريمة مستقبلة محتملة الوقوع لكونها لم تدخل في اختصاصه بعد[18]. ولا يجوز أيضا أن يصدر عضو النيابة العامة ندباً لمأمور الضبط القضائي في شأن دعوى أصدر فيها أمراً بعدم وجود وجه لإقامة الدعوى الجنائية. ولا يجوز من باب أولى أن ينفذ مأمور الضبط القضائي أمراً كان قد صدر إليه ولم ينفذ حتى صدر أمر بالأوجه لإقامة الدعوى ، فإن الندب ينتهي سريانه بصدور الأمر بالأوجه ، كما ينتهي بطرح الدعوى على قضاء الحكم.



ويجب أن يصدر أمر الندب إلى أحد مأموري الضبط القضائي المختصين مكانياً[19] ونوعياً ، فلا يجوز ندب غيرهم من مرؤوسيهم أو معاونيهم[20] ، ومن باب أولى لا يجوز ندب غيرهم من مأموري الضبط القضائي غير المختصين بالجريمة. على أن هذا لا يمنع من أن يستعين مأمور الضبط الصادر إليه أمر الندب بمساعديه في تنفيذه ما دام ذلك تحت بصره وإشرافه وعلى مرأى منه[21]. ويتعين تحديد مأمور الضبط القضائي في أمر الندب ، ولا يشترط أن يكون هذا التحديد بالاسم بل يكفي التحديد بالاختصاص الوظيفي. وفي هذه الحالة يمكن أن يباشر الإجراء أي مأمور ضبط قضائي ممن يشغلون هذه الوظيفة ، ولو كان غير الذي طلب الإذن به. أما إذا تحدد الندب باسم واحد معين لم يكن لهذا المنتدب أن يندب غيره ما لم يخول ذلك في الأمر[22]. وإذا صدر أمر الندب لأكثر من مأمور ضبط قضائي لتنفيذ الإجراء ، جاز لأحدهم أن يقوم به منفرداً. أما إذا كان أمر الندب استلزم أن يباشر الإجراء بمعرفة جميع من حددوا فيه ، فإنه لا يجوز أن ينفرد أحدهم بمباشرة الإجراء دون اشتراك الباقين معه ، كما لا يجوز من باب أولى أن يندب غيره من مأموري الضبط دون اشتراكه معهم.

ووفقاً لقضاء النقض يلزم أن يكون مأمور الضبط المنتدب للتحقيق عالماً عالما بالإذن قبل إجراء التحقيق[23] ، ومتى توافر له العلم فإن مجرد سهوه عن الإشارة في محضر التحقيق إلى الإذن الصادر إليه لا يكفي للقول بأنه لم يكن عالما به. وهذا القضاء موفق على أساس أن إجراءات التحقيق ليست من الاختصاصات الذاتية لمأمور الضبط القضائي ، بل هي من اختصاص سلطة التحقيق ، وأحاطها المشرع بضمانات معينة حماية لحريات الأفراد ومنعا لاحتمال التعسف معهم.

ويلزم فوق ذلك أن يكون محل أمر الندب أمراً مشروعاً ، وهو لا يكون كذلك إلا إذا انصب أمر الندب على إجراء بعينه يحدد في الأمر. فقد ألزم المشرع قاضي التحقيق "ببيان المسائل المطلوب تحقيقها والإجراءات المطلوب اتخاذها". وتحديد نطاق الندب ومداه قد ورد في القانون "مطلقا يسري على كافة إجراءات التحقيق وينتج أثره بشرط أن يصدر صريحاً ممن يملكه وأن ينصب على عمل معين أو أكثر من أعمال التحقيق"[24]. ومن ثم فإنه يجوز الندب لإجراء الضبط أو التفتيش أو المعاينة أو سماع الشهود. كما يصح ندب مأمور الضبط القضائي لتنفيذ إذن القاضي الجزئي بمراقبة تليفون أو تفريغ التسجيلات الصوتية[25].

غير أنه يحظر أن ينتدب مأمور الضبط القضائي من أجل تحقيق قضية برمتها. ففي ذلك معنى تخلي جهة التحقيق عن السلطة التي قصد المشرع أن يخصها بها توفيراً لضمانات للمتهمين لا تتوافر في مأمور الضبط القضائي[26]. ولا يستثنى من هذا الحظر سوى معاون النيابة الذي أجاز قانون السلطة القضائية عند الضرورة تكليفه لتحقيق قضية بأكملها (المادة 22/2)[27].

هذا وقد استثنى المشرع من الإجراءات التي تكون موضوعا للندب الاستجواب ، وذلك بصريح نص المادة 70 إجراءات جنائية حيث أجاز الندب لأعمال التحقيق "عدا استجواب المتهم" فهذا الإجراء يلزم فيه أن يباشره المحقق بنفسه. وحكمة هذا الاستثناء أن الاستجواب إجراء خطير ، لأنه قد يؤدي إلى اعتراف المتهم ، لذلك أحاطه المشرع بضمانات كافية تمنع التعسف والإكراه وإساءة استعمال السلطة ، وهذه الضمانات لا تتوافر إلا في سلطة التحقيق. وإذا كان الندب للاستجواب غير جائز ، فإن ذلك يستتبع عدم جواز الندب في الحبس الاحتياطي ، إذ يشترط للأمر به أن يكون مسبوقا باستجواب المتهم وهو ما لا يملكه مأمور الضبط القضائي. هذا فضلا عن أن الحبس الاحتياطي ليس من الإجراءات العاجلة التي تتوفر فيها العلة التي استوجبت تقرير الندب. كما لا يجوز الندب في إصدار أوامر التحقيق ، فلا يجوز للمحقق أن يندب غيره لإصدار أمر القبض أو الإفراج عن المتهم ، لأن الندب تقرر للتخفيف عن المحقق في تنفيذ أوامر التحقيق لا في إصدارها[28].

وتجدر الإشارة إلى أن المشرع قد حظر الندب للتحقيق تجاه بعض الأشخاص أو بغية تفتيش بعض الأماكن. من قبيل ذلك ما قررته المادة 51 من قانون المحاماة رقم 17 لسنة 1983 من أنه "لا يجوز التحقيق مع محام أو تفتيش مكتبه إلا بمعرفة أحد أعضاء النيابة العامة. ويجب على النيابة أن تخطر مجلس النقابة أو مجلس النقابة الفرعية قبل الشروع في تحقيق أي شكوى ضد محام بوقت مناسب". كما تنص المادة 224 من ذات القانون على أنه "لا يجوز تفتيش مقار نقابة المحامين ونقاباتها الفرعية...أو وضع أختام عليها إلا بمعرفة أحد أعضاء النيابة العامة وبحضور نقيب المحامين أو نقيب النقابة الفرعية أو من يمثلها". كما نصت المادة 43/1 من قانون تنظيم الصحافة رقم 96 لسنة 1996 على أنه "لا يجوز التحقيق مع الصحفي بسبب جريمة من الجرائم التي تقع بواسطة الصحف أو تفتيش مقر عمله لهذا السبب إلا بواسطة أحد أعضاء النيابة العامة. وهذه الأحكام ليست من قبيل الإرشاد والتوجيه ، بل يترتب البطلان على مخالفتها. ولا يغير من ذلك عدم ترتيب النص البطلان على مخالفة حكمه ، ذلك أن القانون المصري لا يأخذ بمذهب البطلان التشريعي ، بل يأخذ بمذهب البطلان الذاتي الذي يترك للقاضي تقرير البطلان عند مخالفة إجراء جوهري (م. 231 إجراءات جنائية) ، وليس من شك أن الإشراف القضائي على الإجراءات الجنائية من الإجراءات الجوهرية المتعلقة بالنظام العام[29].

51- الشروط الشكلية للندب :

     استلزم المشرع عدداً من الشروط الشكلية في أمر الندب الصادر إلى مأمور الضبط القضائي ، منه أن يكون الأمر صريحاً. فالانتداب الضمني لا يعتبر انتدابا للتحقيق. ولذلك قضي بأن "مجرد إحالة الأوراق من النيابة إلى البوليس لا يعد انتداباً منها لأحد أعضاء الضبط القضائي لإجراء التحقيق"[30]. ولا يشترط أن يفرغ أمر الندب في صيغة معينة ، فيكفي فيه أن يكون واضح الدلالة على الندب. كما يلزم أن يكون أمر الندب ثابتاً بالكتابة ، بحسبانه بذاته إجراء من إجراءات التحقيق. وعلى ذلك فإنه لا يكفي في الندب للتحقيق مجرد الترخيص الشفوي ، بل يجب أن يكون له أصل مكتوب موقع عليه ممن أصدره إقرارا بما حصل منه[31]. ولا يغني عن شرط الكتابة الانتداب التليفوني حتى ولو كان ثابتاً بدفتر الإشارات التليفونية ، هذا إلا إذا كان للأمر أصل ثابت بالكتابة في الأوراق إلا أنه أبلغ تليفونياً إلى مأمور الضبط القضائي ، إذ لا يشترط أن يكون أمر الندب بيد المندوب حين تنفيذه[32].

وعلاوة على ذلك يجب أن يكون أمر الندب مؤرخاً ، غير أنه لا يؤثر في صحة الأمر عدم اشتماله على ساعة صدوره ، إلا إذا حدد الأمر مدة سريانه فإن إثبات الساعة لازم في تلك الحالة لتقدير ما إذا كان التنفيذ قد تم في الأجل المقرر أم لا[33]. كما يجب اشتمال أمر الندب على تحديد مصدره ، ومن صدر له ، والمسائل المطلوب تحقيقها والإجراءات المطلوب اتخاذها ، والأشخاص الذين تباشر هذه الإجراءات بصددهم. فإذا جاء أمر الندب مغفلا هذه البيانات كان باطلاً. غير أنه لا ينال من صحة أمر الندب خلوه من بيان صفة المأذون بتفتيشه أو صناعته أو محل إقامتهم ، طالما أنه الشخص المقصود بالأمر[34]. وفي النهاية يلزم أن تتوافر لدى السلطة الآمرة بالندب تحريات جدية وكافية قبل إصداره. فالأصل في القانون أن أمر الندب هو إجراء من إجراءات التحقيق لا يصح إصداره إلا لضبط جريمة جناية أو جنحة واقعة بالفعل وترجحت نسبتها إلى متهم معين ، وأن هناك من الدلائل ما يكفي لأن يتخذ الإجراء محل الندب. وعلى هذا فلا يجوز إصدار أمر الندب لضبط جريمة مستقبلة لم تقع بعد[35]. وتقدير جدية التحريات وكفايتها لإصدار الأمر بالندب هو من المسائل الموضوعية التي يوكل الأمر فيها إلى سلطة التحقيق تحت إشراف محكمة الموضوع[36].


[1] د. محمود نجيب حسني ، المرجع السابق ، ص585 ، د. أحمد فتحي سرور ، المرجع السابق ، ص564 ، د. محمد عيد الغريب ، المرجع السابق ، ص127.
[2] م.د.ع. 2 يونيو 1984 ، الدعوى رقم 5 لسنة 4 قضائية دستورية ، مجموعة أحكام المحكمة الدستورية العليا ، ج3 ، رقم 12 ، ص67.
[3] نقض 6 أبريل 1964 ، مجموعة أحكام النقض ، س15 ، رقم 49 ، ص246.
[4] نقض 15 يناير 1962 ، مجموعة أحكام النقض ، س13 ، رقم 10 ، ص38.
[5] نقض 26 فبراير  1978 ، مجموعة أحكام النقض ، س29 ، رقم 32 ، ص185.
[6] نقض 24 فبراير 1980 ، مجموعة أحكام النقض ، س31 ، رقم 53 ، ص271.
[7] نقض 2 يونيو 1969 ، مجموعة أحكام النقض ، س20 ، رقم 193 ، ص976.
[8] نقض 16 ديسمبر 1940 ، مجموعة القواعد القانونية ، ج5 ، رقم 169 ، ص316.
[9] نقض 26 نوفمبر 1984 ، مجموعة أحكام النقض ، س35 ، رقم 187 ، ص829.
[10] د. مأمون سلامة ، المرجع السابق ، ص545 ، د. أحمد فتحي سرور ، المرجع السابق ، ص376 ، د. عبد الرءوف مهدي ، المرجع السابق ، ص521 ، د. محمد عيد الغريب ، المرجع السابق ، ص140.
[11] د. محمود نجيب حسني ، المرجع السابق ، ص602 ، د. محمد عيد الغريب ، المرجع السابق ، ص141.
[12] راجع بالتفصيل ، د. على عبد القادر القهوجي ، الندب للتحقيق ، مجلة الحقوق للبحوث القانونية والاقتصادية ، ع3 ، 1991 ، ص184 وما بعدها.
[13] نقض 12 فبراير 1962 ، مجموعة أحكام انقض ، س13 ، رقم 37 ، ص125.
[14] نقض 26 مارس 1984 ، مجموعة أحكام النقض ، س35 ، ص341 ، رقم 73.
[15] نقض 25 نوفمبر 1973 ، مجموعة أحكام النقض ، س24  رقم 219 ، ص1053.
[16] في ذات المعنى ، د. عبد الرءوف مهدي ، المرجع السابق ، ص522.
[17] نقض 4 مايو 1983 ، مجموعة أحكام النقض ، س34 ، رقم 123 ، ص618.
[18] نقض 23 يونيو 1970 ، مجموعة أحكام النقض ، س21 ، رقم 216 ، ص915.
[19] ويمكن الاستناد إلى فكرة الضرورة الإجرائية لمد اختصاص مأمور الضبط القضائي ، خارج معايير الاختصاص المكاني العامة. وفي ضوء ذلك يجوز انتداب مأمور الضبط القضائي لمباشرة إجراء معين في دائرة اختصاصه المكاني ولو لم يكن مختصاً بالجريمة ، كانتداب النيابة العامة أو قاضي التحقيق لأحد مأموري الضبط القضائي لسماع أقوال شاهد يقيم في دائرة اختصاصه المكاني. د. محمد عيد الغريب ، المرجع السابق ، ص145.
[20] نقض 6 فبراير 1951 ، مجموعة أحكام النقض ، س2 ، رقم 220 ، ص581.
[21] نقض 25 مارس 1973 ، مجموعة أحكام النقض ، س24 ، رقم 81 ، ص382.
[22] نقض 5 مارس 1963 ، مجموعة أحكام النقض ، س14 ، رقم 32 ، ص158.
[23] نقض 7 يناير 1972 ، مجموعة أحكام النقض ، س23 ، رقم 21 ، ص76.
[24] نقض 4 فبراير 1967 ، مجموعة أحكام النقض ، س18 ، رقم 42 ، ص219.
[25] نقض 11 فبراير 1974 ، مجموعة أحكام النقض ، س25 ، رقم 31 ، ص138.
[26] د. عبد الرءوف مهدي ، المرجع السابق ، ص525.
[27] نقض 21 يناير 1957 ، مجموعة أحكام النقض ، س8 ، رقم 15 ، ص110
[28] د. عبد الرءوف مهدي ، المرجع السابق ، ص526.
[29] د. عبد الرءوف مهدي ، المرجع السابق ، ص527-528.
[30] نقض 19 أكتوبر 1959 ، مجموعة أحكام النقض ، س10 ، رقم 170 ، ص797.
[31] نقض 13 نوفمبر 1967 ، مجموعة أحكام النقض ، س18 ، رقم 229 ، ص1.
[32] نقض 23 ديسمبر 1940 ، مجموعة القواعد القانونية ، ج5 ، رقم 173 ، ص324 ، نقض 17 يناير 1944 ، مجموعة القواعد القانونية ، ج6 ، رقم 288 ، ص385.
[33] نقض 20 ديسمبر 1960 ، مجموعة أحكام النقض ، س11 ، رقم 1802 ، ص933.
[34] نقض 12 مارس 1972 ، مجموعة أحكام النقض ، س23 ، رقم 81 ، ص357.
[35] نقض 12 مارس 1972 ، مجموعة أحكام محكمة النقض ، س23 ، رقم 80 ، ص349.
[36] نقض 11 يونيو 1973 ، مجموعة أحكام النقض ، س24 ، رقم 155 ، ص746.

Post a Comment

Previous Post Next Post