الشرعية الإجرائية أداة لإدارة الصراع :
     لا شك أن لتنظيم الإجراءات الجنائية مفترضات ومرتكزات لا يتسنى دونها وصف الهيكل القانوني للدولة بالمشروعية ، إذ هو يهوي حال إنكارها أو حال عدم تفعيلها نحو دكتاتورية الدولة والنيل من سيادة القانون. ويأتي احترام الشرعية الإجرائية Légalité procédurale – التي تقابل في أهميتها قاعدة شرعية الجرائم والعقوبات - كأحد أهم ما يجب أن تحرص عليه الدولة حال تنظيمها للإجراءات الجنائية. ولا يعلل هذا الأمر – على حد قول البعض[1] – إلا لكون الشرعية الإجرائية أداة تنظيم الحريات وحماية حقوق الإنسان ، ولكونها ضمان للتوفيق بين فاعلية العدالة الجنائية واحترام الحرية الشخصية ، الأمر الذي يمكن من صياغة قانون إجرائي لحقوق الإٌنسان يمثل نموذجاً لما يجب أن يكون عليه قانون الإجراءات الجنائية في دولة القانون. 

ورغم أن الشرعية الإجرائية أحد حلقات ثلاث تكون معاً مبدأ الشرعية الذي يسود القانون الجنائي عامة ، وهى بالأحرى حلقة تتوسط شرعية الجرائم والعقوبات[2] Légalité des délits et des peines  ، وشرعية التنفيذ العقابي أو شرعية تنفيذ الجزاء الجنائي[3]  Légalité de l’exécution des sanctions pénales ، إلا أنها تظل الترمومتر الذي يكشف عما إذا كان نشاط السلطة العامة إزاء حقوق وحريات الأفراد يباعد أم لا بينها وبين مفهوم الدولة البوليسية L’Etat de police[4].

وتبنى الشرعية الإجرائية على افترض براءة المتهم Présomption d’innocence في كل إجراء من الإجراءات التي تتخذ قبله منذ البدء في جمع الاستدلالات وحتى استنفاذ طرق الطعن في الأحكام ، وذلك من أجل ضمان الحرية الشخصية[5]. ولم يكن هذا المعني ليغيب عن المشرع الدستوري المصري الذي نص في المادة 67 من الدستور الحالي لعام 1971 على أن " المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه". وهكذا فإنه إذا كانت الشرعية الإجرائية هى عماد البنيان الإجرائي على المستوى الجنائي ، فإن أصل البراءة المقرر للإنسان هو الركن الركين لتلك الشرعية[6] ، ومن ثم وجبت لهذا الأخير الصدارة حال معالجتنا للعلاقة بين الإجراءات الجنائية وحقوق الإنسان

على أنه لا تتكشف لنا حقيقة الصلة بين الإجراءات الجنائية وحقوق الإنسان إلا عند تحليل الضمانات القانونية المقررة للأفراد حال اتخاذ إجراءات جنائية ماسة أو مقيدة للحرية قبلهم. وهنا يتجلى لنا مقوم آخر من مقومات الشرعية الجنائية والمتمثل في ضرورة استناد الإجراءات الجنائية إلى نص قانون. فإذا كانت المصلحة الاجتماعية تقتضي الحد من حريات الأفراد من أجل المساهمة في كشف الحقيقة بشأن جريمة ما من الجرائم ، ومن أجل تسهيل ممارسة الدولة لحقها في العقاب ، إلا أن خطر المساس بتلك الحريات يجب أن يتعين له سياج من الضوابط ، يتاح للفرد العلم بها من خلال نصوص قانونية تقوم على سنها الهيئة التشريعية صاحبة الحق في التعبير عن إرادة المجموع. فالمشرع وحده – على حد قول محكمة النقض الفرنسية – هو الذي يملك تحديد الأحوال والشروط التي يجوز فيها المساس بالحريات الشخصية للأفراد[7].

وهذا الخطاب التشريعي الذي تعبر عنه نصوص قانون الإجراءات الجنائية لا شك يخاطب كافة سلطات الدولة ، على أنه عند الحديث عن ضمانات الحرية الشخصية  يأتي مرفق الضبط القضائي على رأس المخاطبين باحترام الشرعية الإجرائية ، بما يوجب عليه التيقن من أن الإجراء الجنائي الماس بحريات الأفراد - والمزمع اتخاذه قبل أحدهم - قد توافرت بشأنه الشروط والضوابط التي تقررها القواعد القانونية. وهكذا يمكننا القول أن التنظيم الدقيق لعمل مرفق الضبط القضائي – وعلى رأسهم رجال الشرطة -  في علاقته بالحريات الشخصية للأفراد هو استكمال لهيكل دولة القانون التي ينظر فيها للإجراءات الجنائية كأحد آليات حماية حقوق الإنسان ، ويلتزم فيها مرفق الشرطة حال ممارسته لمهمة الضبط القضائي بكافة عناصر وأركان الشرعية الإجرائية ، وعلى رأسها أصل البراءة في الإنسان ولو كان متهما ، وقاعدة أن القانون مصدر للإجراءات الجنائية


[1] د. أحمد فتحي سرور ، المرجع السابق ، ص127-128.
[2] مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات هو الحلقة الأولى للشرعية الجنائية Légalité criminelle ، الذي يتصل على نحو دقيق بتحديد من يئول إليه سلطة خلق القاعدة الجنائية الموضوعية المقررة للأفعال والإمتناعات المحظورة والأجزية واجبة التطبيق حال انتهاك الحظر. ولقد صار دستور القانون الجنائي في هذا الشأن أن يوكل أمر خلق القاعدة الجنائية الموضوعية ، بشقيها التجريم والعقاب ، إلى الشارع أو من يفوضه في ذلك ، بحيث يقع على القاضي من بعد مهمة تطبيقها.  وعلى هذا يتحدد مضمون مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات في أن الفعل لا يكون مكوناً لجريمة إلا إذا نص عليه قانون سابق على ارتكابه ، ولا يوقع بشأن هذا الفعل جزاء جنائي إلا إذا حدد نوع هذا الأخير ومقداره قانون من قبل توقيعه. وهو ما يعبر عنه اختصاراً بالقول اللاتيني الشهير الذي أطلقه الفقيه الألماني أنسلم فويرباخ Anselme Feuerbach (1775– 1833) بأنه "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص" Nullum crimen, nulla poena sine lege. وتحديد مبدأ الشرعية بهذا المضمون يضمن في آن واحد تحقيق مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة. فأما عن مصلحة الفرد ، فلا شك أن التزام مبدأ الشرعية يضع للأفراد الحدود الواضحة للتجريم والجزاء ، الحدود الفاصلة بين المشروع وغير المشروع من الأفعال ، فيستشعر الفرد معنى العدالة ، إذ يضمن الأخير ألا يعاقب عن سلوك لم يرد بشأنه نص تجريم سابق. بل أن الفرد ولو كان مجرماً يجد مصلحته في مبدأ الشرعية ، إذ يدرأ عنه احتمال توقيع عقوبة أشد مما هو مقرر للفعل وقت ارتكابه. ويستبين من ذلك أن مبدأ الشرعية يتوافق على المستوى الفردي مع الأساس الأخلاقي للمسئولية الجنائية الذي هو عصب تلك المسئولية رغم محاولات الفكر الجنائي الوضعي النيل منه. فإذا كانت المسئولية الجنائية ترتكز على توافر ملكتا التمييز والإدراك ثم حرية الاختيار Libre arbitre حتى يمكن القول بتوافر الإذناب Culpabilité في حق الشخص وإخضاعه من ثم للمسئولية الجنائية ، فيجب بالتالي أن تتاح له فرصة الخيار بين طريق الشر وطريق الخير ، ولا يمكن أن تترك له تلك الفرصة بحكم المنطق إلا إذا أنذره الشارع مسبقاً بالمحظور من الأفعال وما ينتظره من عقاب حال المخالفة ، فهنا فقط يتسنى القول بتوافر الإرادة الآثمة ، التي هى أحد مقومات الجريمة.  أما على المستوى العام فإن مبدأ الشرعية هو الذي يعطي المقبولية من قبل العامة للجزاء الجنائي ، ويعطي لهذا الأخير أساساً قانونياً بحسبانه يوقع في سبيل الصالح العام وباسم القانون. ومن ناحية أخرى فإن الالتزام بمبدأ الشرعية من شأنه تفعيل الجزاء الجنائي ومنحه قوة ردع كبيرة. فتحديد الجزاء الجنائي ومقداره في نص واضح يجعله مؤكد التطبيق عند ارتكاب السلوك الإجرامي ، فتحول الرهبة منه والخشية من توقيعه بين الكثيرين وبين تلمس خطى الإجرام. وهنا يصدق بكاريا حين ذكر أن اليقينية في توقيع العقاب المعتدل هى أكثر ردعاً من احتمالية توقيع العقاب الصارم" ؛ ويصدق كذلك قول مونتسكيو بأن فاعلية العقوبة تقاس بمقدار الخوف من توقيعها ، وهذا الخوف يقاس بدوره بمقدار اليقين في توقيعها لا بمقدار جسامتها ، ولا شك أن قانون العقوبات لا يمكن له أن يصل إلى تحقيق وظيفة الردع تلك ، فضلاً عن دوره التربوي ، ما لم تكن النصوص التي تقرر الجزاء الجنائي واضحة لا تتداخل معانيها. وعلى الرغم من أن مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات هو مولود إسلامي النسب ، إلا أن الشهرة الحقيقية لهذا المبدأ وبمعناه المعروف به حالياً ، لم تبدأ إلا مع اندلاع الثورة الفرنسية نهايات قرن النور Siècle des lumières - القرن الثامن عشر - حين تبناه رجالتها ومنحوه صياغة واضحة ومحددة في إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر في 26 أغسطس سنة 1789 (م.8). وبحسبان أن مصر قد التزمت جانب التأثر بالتشريعات الأوروبية ، وعلى الأخص التشريعات الفرنسية ، فكان لابد لهذا المبدأ أن يجد حظه بين مدونات العقوبات المصرية المتعاقبة (م. 28 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية الصادرة عام  1883 ، م 19 من قانون العقوبات الأهلي لعام 1883 ، م.5 من قانون العقوبات لعام 1904). وقد واظب المشرع الجنائي المصري على منهجه بالنص على هذا المبدأ في قانون العقوبات الحالي لعام 1937 بقوله في عبارة موجزة بصدر المادة الخامسة "يعاقب على الجرائم بمقتضى القانون المعمول به وقت ارتكابها...". ولقد ارتقى مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات - منذ إقراره من قبل رجالات الثورة الفرنسية - من رتبة المبدأ القانوني الذي تقره القوانين العقابية العادية إلى مرتبة المبدأ الدستوري.  فعلى الصعيد المصري ، فإن المبدأ قد لاقى قيمته الدستورية (م.6 من دستور عام 1923 ، م. 32 من دستور 1956 ، م.8 من دستور 1958 ، م. 25 من دستور 1964. وقد وجد المبدأ مستقره أخيراً في الدستور الحالي لعام 1971 الذي أورد في المادة 66 من الباب الرابع الخاص بسيادة القانون قوله أن "...لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي ، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون" (قريب من ذات المعنى م. 187 من الدستور الحالي). راجع حول هذا المبدأ : د. عبد الأحد جمال الدين ، المبادئ الرئيسية للقانون الجنائي ، ج1 ، النظرية العامة للجريمة ، ط5 ، 1997 ، ص70 وما بعدها ، محمود نجيب حسني ، شرح قانون العقوبات ، القسم العام ، ط4 ، دار النهضة العربية ، 1977 ، ص77 وما بعدها ، د. فوزية عبد الستار ، شرح قانون العقوبات ، القسم العام ، دار النهضة العربية ، 1987 ، ص54 وما بعدها ، د. أحمد لطفي السيد ، أصول القسم العام في قانون العقوبات ، 2004-2005 ، ص68 وما بعدها. وحول تطبيق وأثار مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات في قضاء المحكمة الدستورية العليا ، د. أحمد فتحي سرور ، الحماية الدستورية للحقوق والحريات ، دار الشروق ، القاهرة ، 2000 ، ص414 وما بعدها ، د. مجدي مدحت النهري ، تفسير النصوص الدستورية في القضاء الدستوري ، مكتبة الجلاء الجديدة ، المنصورة ، 2003 ، ص195 وما بعدها ، د. أحمد لطفي السيد ، المرجع السابق ، فقرة 46 ، ص94 وما بعدها.
J.-P. Delmas Saint-Hilaire, La crise du principe de la légalité des délits et des peines, Cours de doctorat, Le Caire, 1967, p. 38 ; J. Léauté, Le changement de fonction de la règle nullum crimen sine lege, Mélanges Hamel, Dalloz, 1961, p. 61 et s ; S. Saler, La formation actuelle du principe Nullum crimen, RSC. 1952, p. 11 et s ;  R. Poplawski, La loi pénale et le principe de la légalité des délits et des peines en droit français, 1941, p. 92 et s.
[3] تعني شرعية التنفيذ العقابي وجوب حرص الجهة القائمة على أمر تنفيذ الجزاء الجنائي بأن يكون هذا الأخير قد اشتمل عليه حكم قضائي صادر من محكمة مختصة بذلك (م. 459 إجراءات جنائية وتنص المادة66/2 من دستور 1971 على أنه "...لا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي" ، وأن يجري التنفيذ وفقاً للقواعد التي قررها الشارع وفي الأماكن المخصصة لذلك ، على أن يتبع في هذا الشأن القواعد المقررة للتنفيذ وقت ارتكاب الجريمة ما دامت هذه القواعد تعتبر جزءاً من النصوص المنظمة للجزاء الجنائي ، ما لم يصدر قانون جديد بعد حكم نهائي يجعل الفعل الذي حكم على المجرم من أجله غير معاقب عليه فيوقف تنفيذ الحكم وتنتهي أثاره الجنائية (م. 5/3 عقوبات). د. أحمد فتحي سرور ، القسم العام ، المرجع السابق ، ص55. ولا نغالي إذا قلنا أن التزام الشرعية في مرحلة التنفيذ العقابي أصبح يفرض تدخل السلطة القضائية في مرحلة التنفيذ ، باعتبار أن المفاهيم الجنائية الحديثة أصبحت تدخل تلك المرحلة ضمن مراحل الدعوى الجنائية وكجزء من الخصومة الجنائية ، وبهذا أوصى المؤتمر الدولي الرابع لقانون العقوبات الذي انعقد في باريس في الفترة من 26 إلى 31 يوليو من عام 1937. ولهذا أصابت الدول التي أخذت بفكرة قاض تطبيق العقوبات Juge d’application des peines الذي يتولى تنفيذ ما جاء بالحكم الجنائي الصادر بالإدانة ، ويوكل إليه أحياناً التعديل في هذا الحكم وفق ما يراه قد طرأ على سلوك المحكوم عليه سلباً أو إيجاباً. راجع د. عبد العظيم مرسي وزير ، دور القضاء في تنفيذ الجزاءات الجنائية ، دراسة مقارنة ، دار النهضة العربية ، 1987 ، د. مرقص سعد ، الرقابة القضائية على التنفيذ العقابي ، رسالة دكتوراه ، القاهرة1972. د. حسن صادق المرصفاوي و د. محمد زيد إبراهيم ، دور القاضي في الإشراف على تنفيذ الجزاء الجنائي , منشورات المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية ، 1970.
Bogdan Zlataric, L’évolution des idées et de pratique dans le domaine de l’exécution des sanctions criminelles, Université de Caire, 1954, p. s4 et s ; Sliwowski, Caractère judiciaire ou administratif de l’exécution de la peine au regard du problème de son contrôle, RIDP. 1965, p. 82.
[4] د. أحمد فتحي سرور ، الشرعية والإجراءات الجنائية ، دار النهضة العربية ، 1977 ، وخاصة ص106 وما بعدها ، ولذات المؤلف ، الدستور والقانون الجنائي ، دار النهضة العربية ، 1992 ، ص11 وما بعدها. وراجع د. عبد الأحد جمال الدين ، المرجع السابق ، ص143 وما بعدها.
[5] كما توجب تلك الشرعية بأن يكون القانون هو مصدر الإجراءات الجنائية ، وألا يقضي في المواد الجنائية إلا الهيئة التي ناط بها القانون القيام بهذه الوظيفة. لذا تقرر المادة 167 من الدستور أن القانون هو الذي يحدد الهيئات القضائية واختصاصاتها وينظم طريقة تشكيلها ويبين شروط وإجراءات تعيين أعضائها ونقلهم. وكذا توجب الشرعية الإجرائية ألا يحرم المتهم من المحاكمة أمام قاضيه الطبيعي (م. 68 من الدستور) ، وألا يدان شخص إلا بعد دعوى تراعى فيها الإجراءات والضمانات التي قررها المشرع وتحت إشراف القضاء.
[6] للشرعية الإجرائية – في رأي البعض - أركان ثلاثة : ففضلاً عن أصل البراءة ، فإن لا شرعية دون أن يكون القانون هو مصدر الإجراءات الجنائية ، كما لا شرعية دون أن تخضع هذه الأخيرة لضمان القضاء. د. أحمد فتحي سرور ، المرجع السابق ، ص166 ، ولذات المؤلف ، الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية ، ط7 ، دار النهضة العربية ، 1993 ، ص52.
[7]  Cass. Crim. 1er janv. 1956, D. 1956, p. 365.

Post a Comment

Previous Post Next Post