الأدب الشعبي – المفهوم، والمضمون:
في دراساته في القصة والمسرح يقول "محمود تيمور": جرى الاصطلاح بإطلاق صفة (الشعبي) على الوضيع والرخيص أو ما دون المستوى الرفيع، نقول فكرة شعبية، أي أنها مشوبة بمطاوعة الأهواء والنزوات لا سلامة فيها ولا سداد، ونقول نكتة شعبية، نريد أنها لا تخلو من تبذل وإسفاف، ونقول ثوب شعبي للدلالة على أنه من نسيج غير فاخر ولذلك يرخص ثمنه ولا يعز على المقلين شراؤه. فكل ما هو منسوب إلى الشعب، محمول عليه مجانبة السمو، والأصالة والجودة، مفروض فيه الابتذال والتفاهة والهوان(12)، ثم يتساءل تيمور: هل هذا صحيح في ميدان الأدب على وجه خاص؟؟. هل الشعبية في الأدب أن يتصف بالابتذال والضعة، وأن تجانبه خصائص الأدب الرفيع…".؟!.
ويرد تيمور على تساؤلاته: أن الأدب المنحط المبتذل لا يمكن نعته بالشعبي، لأن صفة الابتذال والانحطاط تلحق بكتاب الأدب، لا بالشعب.. إذ بأية حال من الأحوال لا يمكن أن يعني الأدب الشعبي، أدب الانحلال والتبذل والانحطاط(13) ويتفق مع هذا المعنى الدكتور "محمد ذهني"، ففي دراسته لموضوع الأدب الشعبي يسترسل في وضع تعميمات حول مفهوم الأدب الشعبي، وبطريقة استقرائية يفند هذه التعميمات واحدة تلو الأخرى، ومن هذه التعميمات: الأدب الشعبي: أدب عامة، وأدب إسفاف، وتبذل(14)، فما هو مفهوم هذا الأدب إذن؟..
الأدب الشعبي: هو مجمل الفنون القولية التلقائية، وهذه الفنون هي على رأس قائمة فروع التراث، ونقلت هذه الفنون بلهجة دارجة من جيل لجيل، وبشكل شفاهي، وهي تعبير عن تفاعل الإنسان مع الطبيعة، ومع الإنسان، والأدب الشعبي بهذا المفهوم عبارة عن تتويج لخبرات الإنسان ومعارفه، وأحاسيسه، ومشاعره، وتشتمل هذه الفنون على الحكاية الشعبية، المثل الشعبي، الأغنية الشعبية، النادرة والنكتة، نداءات الباعة(15) …الخ.
لا يستطيع أحد أن يدعى إبداع أي موروث شعبي، وهذا لا يناقض القول أن مبدعاً قد وضع حجر الأساس لقصة ما أو مثل ما… في بيئة ما وزمان ما نتيجة تجربة شخصية ما… لكن هذا الأساس هو مركز الدائرة عند رمي حجر في بركة ماء… فالدوائر المتلاحقة لهذا المركز ما هي إلا مشاركات الجماهير الشعبية… عبر بيئاتها المختلفة، وعصورها المختلفة، وطبيعة تجاربها ونفسياتها المختلفة..
من هنا لا يمكن أن يتم هذا البناء والإبداع دفعة واحدة، بل بصورة تراكمية ولكن متناسقة… ففي حكاية الحيوان اجتمع الأسد، والحمار، والبغل في الغابة، وبدأوا يتباحثون في أمر ابن أدم، وقوته، وجبروته.. شكا الحمار من ظلم الإنسان له، وأنه يحمله، أكثر مما يطيق، كذلك البغل أدلى بدلوه.. في الشكوى على الإنسان.. أخذت الحمية الجاهلية ملك الغاب، وثارت ثائرته على قاهر شعبه "الإنسان" فأراد القصاص منه.. مشى في الغاب، وإذا به بحطاب يحتطب الحطب..
- من أنت؟ .. سأل الأسد.
- حطاب..
- ابن آدم؟!
- نعم..
حرك الأسد عنترته وعنتريته.. –أريد أن أصارعك، فاصرعك.. يتهمونك بالقوة والجبروت.. ولا ملك غيري.. ولا جبروت إلا لي..
- لكني تركت قوتي في البيت – أجاب الحطاب…
- هلا رجعت للبيت وأحضرتها.. وأنا في انتظارك.. قال الأسد..
- أخاف أن تهرب قبل أن آتي.. –أجاب الحطاب..
- أهرب؟! قالها الأسد بعنجهية..
- نعم تهرب.. ويا ما غيرك هرب.. وهنا تدارك الحطاب: عندي حل..
- ما هو؟ سأل الأسد؟
- أربطك بهذا الحبل بجذع الشجرة، حتى أحضر قوتي، وأصارعك..
- ولم لا.. قال الأسد بثقة واعتزاز، وشجاعة..
وهنا تقدم الحطاب وربط الأسد..
- والآن قال الأسد: اذهب لإحضار قوتك.
- الحطاب (ضاحكا): هاهي قوتي يا عزيزي.. ستموت وأنت واقف، وتشاهد بنفسك أية ميتة تموتها..
عندها أدرك الأسد الحيلة، والمكر، والدهاء، والذكاء.. وأدرك أين تكمن القوة.. فجسد بلا عقل لا يساوي شيئاً.. والعقل زينة، وقوة..(16).

هذه يمكن اعتبارها أساس قصة.. إذ احتوت على سرد، وحدث، ونتيجة. أراد القاص أن ينقلها للسامع.. وفي نفس الوقت يمكن اعتبارها قصة كاملة حيث بداية وعقدة، وحل. وفي المثال السابق: لو سرد السامر القصة على الجمع وأكمل بعد النتيجة التي توصلنا لها الآتي:
الأسد مربوط في الشجرة، يفكر بطريقة يحل بها وثاقه.. وهو على هذا الحال إذ بفأر يراقبه تحت شجرة.. عرض الفأر خدماته على الأسد، وأن باستطاعة الفأر أن يحل الأسد من ورطته.. وقبل الأسد المهموم مساعدة الفأر.. فبدأ الفأر بقرض الحبل.. وبعد هنيهة حل الحبل، وفك الأسد من أسره.. هذه الإضافة من القاص أو الإخباري، جاءت لتضيف معلومات جديدة، وتعطي بعداً آخر في القصة لتنهيها بموعظة إضافية، مفادها:
         لا تحقرن صغيراً في مخاصمة                  إن البعوضة تدمي مقلة الأسدِ
ولا يستطيع الإخباري أن يضيف هذه النتيجة إلا على أسس:-
أ- مناسبة النصيحة للموقف "أي لكل مقام مقالاً".
ب- الأخذ بعين الاعتبار نوعية السامعين من حيث ثقافتهم، وأحوالهم العاطفية والنفسية وتقبلهم للسرد والإطناب.
ج- موقف القاص النفسي والعاطفي، ومستواه الثقافي.

ويمكن لقاص آخر أن يأخذ نتيجة من النتيجتين السالفتين، أو يأخذهما معاً ويضيف ثالثة، أو يغير واحدة، بأخرى جديدة، وهذا تبعاً للأسس السابقة.. لتصبح مسائل الحذف والإضافة، والتغيير والتحوير، متواليات عددية متراكمة.. وهذه العمليات لابد إلا وأن  تتفق مع ذوق الجماعة الشعبي.. ويمكن لهذه العمليات أن تتم قبل أن تعترف الجماعة بالحكاية، أو أثناء تناولها وتداولها لها.. لكنها بالتالي تصبح قاسماً مشتركاً للجماعة، وتصدر عن وجدانها الجمعي.

من هنا فإن أي نوع من أنواع الأدب الشعبي يتكون من جزيئات أو مجموعة من الأحداث ترتبط بعلاقة معينة تحدد مساره، ومن هذه الجزيئات والعلاقات يتكون الطراز وهو مجمل النوع الأدبي(17).
فالقصة السابقة مثلاً يمكن تحليلها إلى جزيئات:
اجتماع الحيوانات الثلاثة.
جبروت الأسد.
حوار الأسد والإنسان.
حيلة الإنسان والمكر الذي استخدمه ضد الأسد.
مساعدة الفأر للأسد.
أما ربط هذه الجزيئات بعلاقة (نمط)، فهو الذي حدد مسار القصة، من بداية، لعقدة، لنهاية، ومن هذه الجزيئات وهذه العلاقة، تكون الشكل النهائي للقصة.

Post a Comment

Previous Post Next Post