العنوان ودلالاته
يعد العنوان (طاقة موجهة، حيث يجسد النص ويبرز واجهته الإعلامية، وقد تكون هذه الطاقة أو القوة إكراهًا أدبيًا لإخضاع الجهة المستقبلة)5. ويرى جاك دريدا أنه يشبه (الثريا التي تحتل بعدا مكانيا مرتفعا يمتزج لديه بمركزية الإشعاع على النص) 6.
وعنوان المقالة القصصية التي بين أيدينا "اللقيطة" وقد جاء العنوان جملة اسميه تدل على الثبات وعدم التحول مما يدل على أن الفتاة ضلت على حالها ولم تتعرف على والديها في نهاية القصة.
ولم يكن العنوان اسمًا لها فقط بل كان وصفًا ملازمًا لها أيضا في جميع أحداث القصة ولم يذكر لنا المؤلف اسما لها سوى اللقيطة مما يحمل شيئًا من الغموض
إن العنوان (يومئ إلى أمر غائب في النص وعلى القارئ أن يبحث عنه لاكتشاف البيئة المولدة للدلالة والجديرة بأولية التحليل) 7.
وقد عكس عنوان المقالة مضمون النص إلى حد كبير، وانطلاقا من دلالة العنوان واتكاء على اسم الكاتب، وبعض الألفاظ والعبارات السردية من قبيل "مر عظيم من عظماء المدينة بزقاق من أزقة الأحياء، وقف الرجل أمام هذا الموقف المحزن، ما اسمك أيتها الفتاة؟، يدعونني اللقيطة، لا أعرف لي أبًا ولا أمًا". فإن النص قيد الدراسة يعد من المقالة القصصية ذات الطابع الاجتماعي الواقعي، حيث تطرق الكاتب لفتاة لقيطة لا تعرف لها أهلا ولا يتجاوز عمرها الرابعة عشرة وما عانته من الرجل اللئيم الذي تبناها، بعد ذلك ظهر رجل عظيم من عظماء المدينة في طريقها وأخذ بيدها، يلي ذلك الأحداث التي حدثت لها في قصر الرجل، وأخيرا النهاية الحزينة لهذه الفتاة اللقيطة. فما الذنب الذي اقترفته هذه المسكينة؟
إن العنوان (اللقيطة) الذي أثبت في سطر العنوان هو قصة متقدمة8 تحمل البداية والعرض والنهاية، كل ذلك يحضر في ذهن المتلقي كلما عنت له لفظة اللقيطة التي حملت قصة كاملة الفصول.
وهكذا يبدو لنا أن العنوان والنص - كما يرى جيرار فينيه - يشكلان بنية معادلة كبرى، فالعنوان هو النص. (ويعني هذا أن العنوان عند  
جيرار فينيه بنية رحمية، تولد معظم دلالات النص، فإذا كان النص هو المولود، فإن العنوان هو المولد الفعلي لتشابكات النص، ومجمل أبعاده الفكرية والأيدلوجية).9
ثانيًا : الأفكار التي عالجها في مقالته القصصية:
أ ـ مشكلة اللقطاء ومصيرهم المؤلم:
1 ـ نجد المقالة القصصية التي بين أيدينا تخص الجانب الاجتماعي؛ إذ تذكر مشكلة الفتاة اللقيطة وما تعانيه من ظلم المجتمع والحياة البائسة والحرمان وإحساسها بالضعف والوحدة.
2ـ لجأ الكاتب إلى الرؤية من خلف ليكشف لنا كل شيء في القصة ولا يدع شيئا مخفيًا أو مبهمًا، فجاءت أحداث القصة محبوكة بدقة، ومسبوكة بعناية وحرفية، مترابطة الأجزاء تتميز بتسلسلها المنطقي وترابطها العضوي ارتباط الجلد بالعظم.
3ـ عمل الكاتب على تبيان ما قد تعانيه الطفلة اللقيطة الوحيدة، التي تتلاعب بها أمواج القدر، فتخلّفها وحيدة دون من يعولها أو يتكفل بها، فتضطر إلى العمل وتحمّل معاملة الآخرين السيئة وظلم المجتمع مقابل أجر زهيد بخس بالكاد يسد رمقها ويؤمّن حاجياتها، وقصد إلى إبراز أن من يعاني إحساسا صعبا كالوحدة يؤلمه أن يرى آخر بنفس مرحلته العمرية، ويعيش طفولته بين والديه مدللاً عزيزًا، فيسعى إلى إسعاد نفسه.
كما أكد على أهمية الإيثار ودوره في إسعاد الآخرين وقد وظّف لذلك شخصيات رئيسة وأخرى ثانوية، والزمان والمكان خدما قصده  
ورؤيته السردية من الخلف، ونصل إلى إثبات صحة الفرضية وانتماء النص إلى جنس المقالة القصصية ويمكن القول إن الكاتب نجح في كشف ما قد تعانيه اللقيطة في حياتها المجتمعية.. كحزنها المستمر وحياتها البائسة القاسية وشعورها بالوحدة المؤلمة وضعفها واحتياجها لأي يد كريمة تساعدها وتعطيها شيئًا من الحنان.



 
ب ـ مشكلة الأغنياء وعدم إشرافهم بأنفسهم على تربية أولادهم وتسليمهم للمدارس الأجنبية:
من المعلوم أنه لا يوجد أب أو أم في الدنيا لا يحب أبناءه ويرغب في العمل لمصلحتهم ولكن من الحب ما قتل؛ فبعض الآباء يفهم خطأ أن الإغراق على الأبناء خاصة من الناحية المادية وتلبية جميع مطالبهم فورا دون أي تأخير هو قمة العطاء والتنشئة الجيدة، ولكن هذا في الحقيقة هو قمة الخطأ؛ فالاعتدال والإعداد الجيد الواقعي للحياة بحلوها ومرها هو ما سيفيد الأبناء حقًا في يومهم هذا وفي غدهم أيضًا. ونظرة واحدة إلى أبناء الأثرياء المدللين تؤكد صحة تلك النظرية، فأغلبهم ليسوا سعداء اليوم بما يغدقه عليهم آباؤهم ولن يكونوا سعداء غدًا سواء استمرت ثروات آبائهم أم لا، فالتدليل المبالغ فيه نتاجه الخسارة.
وقد تناول المنفلوطي ذلك وجسده في شخصية ابنة الرجل الثري التي كانت نهايتها مأساوية على الوالد وابنته.
ج ـ مشكلة احتقار المجتمع للإنسان بسبب وضعه الاجتماعي والاقتصادي الذي غالبا ليس له يد في صناعته:
المشكلة الحقيقية التي يعايشها اللقيط ليست في قلة المصروف أو المأكل والمشرب، بل هي فقدانه لحنان والديه، فالحالة النفسية والوضع الصعب في حكم المجتمع القاسي عليه تجعله أكثر عدوانية؛  
ومن استطاع كفالة هؤلاء فقد نال الأجر والثواب في الدنيا والآخرة !! فاللقيط واللقيطة ليس لهم ذنب فيما حدث لهما، فلماذا لا نقف معهم وقفة إنسانية ونتعامل معهم بما أمرنا به ديننا الحنيف؟ والأكثر إيلاما هو أن هؤلاء مرفوضون من المجتمع وعندما يكبرون يواجهون مصاعب جمة في الحصول على عمل أو في الزواج، كل ذلك بسبب جريمة ارتكبت قبل أن يولدوا.

Post a Comment

Previous Post Next Post