القصيدة الجاهلية
كثيراً من أنواع الأدب الشعبي اليوم تمثل امتداداً لأدب القبائل العربية التي ظلت محافظة على النمط التقليدي للحياة من حيث التماسك الاجتماعي والارتحال طلباً للماء والكلأ، مما انغرس في جوهر حياتهم ولوّن بأصباغه ثقافتهم العامة ووقاهم كثيراً من غوائل الدهر التي من شأنها أن تذيب الشعوب وتشتت شملها أو تسلبها أبرز الصفات التي تميزها عن غيرها من الأمم، وهذا في حقيقة الأمر ما جعل حركة التاريخ ودورته أبطأ في فعلها وتأثيرها في البدو منها في الحواضر، لأنهم كأنهم باستمرار تحركهم وارتحالهم ـ لا يتيحون لعامل التاريخ ممثلاً في منتجات الحضارة المادية ـ أن يعجّل في دورة الحياة، فهم بذلك يصنعون الحياة بهدوء ويصوغونها ببطء، مما يزيد في الاستقرار الثقافي وبروز السمات الذاتية المميزة بشكل واضح. وهذا من وجهة نظرنا ما جعل الروح التي تسود في كثير من القصائد الشعبية المعاصرة صورة أخرى مما تتضمنه القصيدة الجاهلية لولا المستوى اللغوي الذي تمتاز به هذه عن تلك.

         ونعتقد جازمين أن التلاحم الفطري بين العربي والبيئة ببعديها الاجتماعي والطبيعي، هو الذي أدى إلى تلك الاستمرارية، لا سيما أن البيئة الطبيعية هي نفسها التي أثرت في أسلافه من امرئ القيس إلى الأعشى ولبيد والقتال الكلابي والنوابغ وشعراء هذيل وابن احمر وغيرهم من بعد، والترابط الاجتماعي ما زال على ما كان عليه إلى حد كبير، حتى أولئك الذين أقلتهم مراكب الإسلام إلى البر الإفريقي فقد اختاروا لأنفسهم حياة تمثل استمراراً لما كان عليه آباؤهم من التحام بالبيئة مراحاً ومراداً ومرعى ومنهلاً وملعباً، وظواهر طبيعية تتوالى في فصولها، وأجراماً تتلألأ في سمائها، ومن التمسك بالوشائج القبلية التي يلوذ بها الإنسان إذ ضاقت عليه أسباب الحياة.

         ولا يفوتنا هنا أن نذكر بأن القصائد الشعبية التي نعنيها في هذا المقام هي ما يعرف بالشعر النبطي وما يشاكله في البيئات البدوية العربية في ا لخليج والجزيرة العربية وباديتي الشام والسماوة وبوادي مصر وليبيا والصحراء الكبرى وجنوب الجزائر وبلاد مالي وشنقيط (موريتانية)، وقد أتيح لنا أن نعمل في هذه البقاع، وأن نلتقي عدداً من شعرائها، وأن نسمع منهم ونقرأ من إنتاجهم، فشدنا من ذلك:
1-تطابق الأغراض والموضوعات التي يتناولونها في قصائدهم، إذ هي في الغالب متصلة بالبيئة وأوصافها - وهي متشابهة إلى حد كبير - وبشكوى الزمن، والطرد (الصيد) ومقارعة الخصوم، والغزل ونحو ذلك مما نجده في الشعر الجاهلي.
2-جزالة الألفاظ وكثرة الغريب، وهذا في حقيقة الأمر، ما دعانا إلى وضع هذه الدراسة.   إذ أن الطابع الغالب على جل هذه القصائد هو شيوع الغريب فيها مما لم يعد مستعملاً          في الفصيحة ولا نظفر به إلا في أشعار الجاهلية بكثرة، وفي أشعار القرون الهجرية الأربعة الأولى. قد نظفر في الأشعار الأخرى ببعض هذه المفردات، لكن ذلك نادر، وقلما نجد المفردة متداولة في لغة الشاعر. بل نجدها مقحمة في موضوعها، ناشزة.
3-التوافق في شكل القصيدة من حيث مقدمتها وخاتمتها، وهذا ما تناولناه في دراسـة سابقـة، إذ يغلب عليها البدء بحمد الله أو بحكمة، أو بالنداء لغرض الشكوى مثل يا طروش ويا راكب، ويا ونة، وقد يكون المنادى طائراً أو خليلاً على نمط "قفا نبك" والغالب في       خواتيمها أن تكون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل هذا هو ما تمتاز به عن شعر الجاهلية، استجابة لدواعي الإسلام، دين العرب أجمعين.
4-توافق الصور التي يقربون بها المعاني، ويرسمون بها حركة مكوناتها، إذ نجدها مستوحاة من البيئة الطبيعية، وذلك ناجم عن رابطة العشق والتناغم التي تضبط علاقتهم بها.


ألفاظ الفلك والظواهر الجغرافية:

         وهي كما نعرف جميعاً لها علاقة بالحركة إن لم تكن متحركة فعلاً، وإنما نركز على عامل الحركة لأنه يشد المشاهد إليه، ولطالما أغرت السماء بدراريها وصورها النجومية السارين والسمار بمراقبتها والاهتداء بها على نحو ما تعكسه الآيات الكثيرة التي وردت في القرآن الكريم وهي توضح ما للنجوم من أثر في حياة الإنسان، فهي إضافة إلى كونها رجوماً للشياطين وحفظاً، فهي "علامات وبالنجم هم يهتدون" وهي زينة "وزيّنا السماء الدنيا بمصابيح"... وعلى نحو ما نجده في قول الشاعر:
أمّاً بكل كوكب حريد
         أي سيراً قدماً اهتداء بكل كوكب منفرد في جهته. ولا نظن هذا الموضوع بحاجة إلى عرض، لا سيما أن الأدب العربي يحفل بآلاف الشواهد قديماً وحديثا.

         غير أن الأدب الشعبي العربي ما يزال يحتفظ بألفاظ اختفت من الفصحى اللهم إلا في المعاجم، فلم تعد تستخدم إلا نادراً، ومن ذلك جل الألفاظ التي وردت في قصيدة محمد العبد الله القاضي في حساب العام من  البروج والمنازل والنجوم(25) والتي مطلعها:
         سبك لك انجوم الدهر بالفكر حاذق       حوا واختصر مضمونها بأمر خالق

         أما ألفاظ الظواهر الجغرافية، فهي تتضمن ألفاظ المناخ في أحواله المختلفة، والتضاريس والغطاء النباتي، والمياه، ونحو ذلك مما له اتصال بتبدل طبائع الزمان باختلاف مواقع الأرض من الشمس والقمر، وتمثل هذه الألفاظ صلب اللغة وقوامها ذلك لما لمدلولاتها من أثر في توجيه الحياة على الأرض وصياغتها. ونستعرض في ما يلي طائفة من المفردات تجسد ما تقدم، منها:

         * المزن: وهو السحاب الأبيض المطير، وبهذا المعنى ورد ذكره في القرآن الكريم في معرض منّ الله سبحانه وتعالى على الناس الماء الذي يشربون "أأنتم أنزلتموه من المُزن أم نحن المنزلون"(25). كما ورد بهذا المعنى في كل الأشعار التي وقفنا عليها في الأدب الجاهلي كقول امرئ القيس(26):
نشيم بروق المزن أين مصابه                ولا شيء يشفى منك يا ابنة عفزرا
         وقول الشمّاخ بن ضرار(27):
على أنيابها بغريض مـــزن              أحالتـه السحابــة فــي الرصـاف

         ونعتقد أن هذه الصفة - تنزّل المطر - التي تلازم المزن هي التي أغرت العربي قديماً -وما  زالت- بتسميته ابن مزنة، وهو شائع في البوادي العربية، وربما صغروه فقالوا "مزينة" وهو اسم قبيلة عربية عريقة ما تزال توطن أكناف المدينة المنورة.

         ومن ذكر المزن في الأدب الشعبي العربي المعاصر - قول عبد المطلب الجماعي - من أواسط ليبيا(28):
هاللي مثيل المزن طبع ذراها                 الروس الغوالي يدفعوهن فيها
وهو في الإبل، والمعنى أن سنامها مترص شحماً كالمزن الحوافل بالماء. ومثله قول القشاط من مغارب ليبيا أيضاً(29):
مزن اللي يدكان، ظلّم بعصايب            برقه بالهمتان، ينفد في نشايب
والمعنى: المزن يزداد دكنة، كناية عن كثرة ما يحمله من الماء، والتحم بعضه ببعض فغدا مظلماً، والبرق فيه يضطرب ويخفق متتابعاً كمن يخيط حَوِيّة. ويقول محمد القاضي(30):
         وإذا مضى منهن ثلاثين ليلـــــة              تواسى نهاره هو وليله مطابق
وعشر ويبدى المزن ينشي مغرب كما افتر ريدان حداهن سايـق
والمعنى انه بعد الاعتدال الخريفي الموافق 23/9 بعشرة أيام تنشأ السحب المطيرة وتتوالى واحدة اثر أخرى. ومن جميل وصف المزن، وأنها أبداً مطيرة ما قاله غريب الشلاجي(31) في مناخ رم:
مزن مطرها بس دم ودخان                 ولا ينتنا يا ركب الكور سيله
إذ جعل مطرها دماً ودخاناً، لأن البيت والقصيدة في معركة دارت بين قبيلته وقبيلة أخرى.

* وانظر إلى هذه الصورة التي يرسمها محمد بن علي العذيمان يصف صدر امرأة قائلاً(31):
ولي صاحبن ما شفت جنسه بالاجناس               وصدره مفج البرق بالخلمسيّة
والمعنى أن بياض صدرها في سواد ثيابها كلمع البرق في ليل عكامس شديد الظلمة، وهذه الكلمة "الخلمسية" من الغريب الغريب.

*  ومن شعر لسالم القنصل سنة 1916 م نقف عند هذا البيت(33):
شوف الرعايــا واردات ع الابيـار             تقل ثماـل ع الثمـد وارديــن

         والمعنى أن الرعاة وردوا بإبلهم ومواشيهم على آبار الزراع، فكأنهم أذواد إبل وردت ماء الثمد الواقع إلى الشرق من بلدة مأدبا في الأردن. وجدير بالذكر أن الثمد في العربية يعني الماء القليل ثم أطلق علماً على مكانه، وثمة مواقع كثيرة في الجزيرة العربية وغيرها تحمل هذا الاسم، ومن ذلك هذا الثمد المذكور، والثمد الواقع إلى الجنوب من خيبر الشمال في المملكة العربية السعودية،  والكلمة وردت لدلالتيها في شعر الجاهلية، وما أرى بي حاجة إلى شاهد. والثميل أيضاً والثميلة هي الماء القليل يزدحم عليه السقاة، وربما اضطروا إلى وضع حجر كبير فيه ليرفع منسوبه، وليقف عليه المستقون كيلا يخوضوا فيه فيعتكر، ويسمونها في العربية أتان الثميل وأتان الضحل. قال عمرو بن قميئة(34) وهو جاهلي قديم:
بضامرة كأتان الثميل               م عيرانة ما تشكّى الكلالا
         وقد استخدمت كلمة "الثمايل" في بيت القنصل بمعنى جماعة الإبل التي ترد الثميل فتكتظ عليه، وأنت تلاحظ كيف تطورت دلالة الكلمة عبر الزمان، وهي مع ذلك كلمة من الغريب كانت وما تزال.

         والصُوح، صفحة الجبل العالي العريض، لم تعد تستخدم اليوم، وهي قديمة جاهلية لدلالتها قال تأبط شراً(35):
وشعب كشل الثوب، شكس طريقه             مجامع صُوحيه نطاف مخاصر
أي رب واد ضيق بين جبال عالية متقاربة، وعر الطريق، ترى في ملتقى صوحيه، أي طرفي الجبلين اللذين يكتنفانه - نقراً امتلأت بماء بارد، وقد وردت هذه الكلمة لدلالتها لكن علماً على جبل بعينه تنطبق عليه الدلالة في شعر محمد بن بُلَيهد النجدي(36):
يالله عسى برق ورا النير له ضوح          لا حنّ رعاده وهبـت لــه الريــح
يمطر على دار محاذ لها صـــوح                           غرب وهـي شـرق عن ام المـراويح

*والقيظ، هذه الكلمة العربية الموغلة في القدم، حتى أننا لنجدها في فروع العربية العاديّة -نسبة إلى عاد- ونعني بها ما يسميه المستشرقون ومن حذا حذوهم باللغات السامية، إذ هي قيط بالطاء في السريانية والآرامية، وقيتص بالعبرية -ما تزال مستخدمة في اللهجات الدارجة في الجزيرة العربية والصحراء الكبرى للدلالة على فصل الصيف أو جزء منه أو فاكهته، غير أنها لم تعد تستخدم في ا لفصيحة إلا نادراً. يقول ناصر بن بندر (عور المقرن)(37):
في القيظ مقياظه طوارف حمرّة              وعن خشم هكران العفر ما يروح
والمعنى أن هذا الأعرابي ينتجع الأماكن القريبة من حمرّة، فلا تراه بعيداً عن مقدم جبل هكران الأعفر (الأبيض).

         وقد يطول بنا الحديث حول هذا الموضوع، فهو واسع سعة اللسان العربي وممتد امتداد التاريخ العربي، والأرض العربية، غير أن في ما تقدم غناء للدارس العارف بلغته وآدابها.

Post a Comment

Previous Post Next Post