ألفاظ العلاقة بالإنسان ومناشطه على الأرض:

         فالحياة تخضع لعاملين هما علاقة الإنسان بالبيئة الطبيعية بمعناها الواسع، وعلاقة الإنسان بالإنسان ومن ألفاظ هذا النوع، على سبيل المثال لا الحصر:

         *  المهيَع، وتعني الطريق الواسع، وهي جاهلية لفظاً ودلالة، وقد وردت -فيما نحفظ- في عينية سعدى بنت الشمردل الجهنية ترثي أخاها أسعد الذي قتلته "بهز"، والمحجة، بمعنى الطريق الواسع الواضح السالك، ورد ذكرها في الحديث النبوي الشريف  "المحجة البيضاء" ولكن اللفظين لم يعودا يستخدمان إلا نادراً، غير أن الشاعر ابن المطوع جمع بينهما في بيت واحد(38) إذ قال:
لي فاطر حنينها له تهجراع                     وأنا لها من شوف واره حزين
تذكرت بين الهياتين مهياع                      لا صدّرت تركب محجة معين
وهو في إبله بعد أن قدم بها مع قومه من بلاد العجمان إلى وارة في الكويت، فلم يطب لها المرعى، مما ذكّره ببلاده. ونحن نلاحظ أن الشاعر هنا مد فتحة الياء فإذا هي مهياع. كقولنا في مفتح ومخرز مفتاح ومخراز وهذا باب في العربية واسع مشهور.

         * وقرأت في نوادر أبي زيد الأنصاري قول العرب: جايى الرجل الرجل يجابيه مجاياة ومجايأة إذا مشى إليه وسار نحوه. وعد ذلك في باب النوادر والغريب، ومن الطريف أن هذه الكلمة ماتت في الفصحى من بعد أبي زيد، بيد أنها ظلت حية في الدارجتين الشامية والليبية إلى يومنا هذا، وأطرف من ذلك أن الكلمة عربية المبنى، وهي مشتقة من فعل شائع في الفصيحة والدارجة، في المشرق والمغرب، ذلكم هو الفعل "جاء" وهي على وزن "فاعل" من صيغ الأفعال المزيدة، والمعنى أن هذا جاء في اتجاه الآخر، الذي جاء بدوره في اتجاه صاحبه، فهما شريكان في "المجيء" ذلك أن أهم معاني هذه الصيغة هي المشاركة. قال ابن رويلة المعداني(39):
سرير ورملة تدير سيوف            وهي جاي وهم لا قدّام
         أي: وهي أولاً، أو أدنى، كأنها جاءت .... وهم كأنما ساروا إلى الأمام (قدام)، وقال رحومة ابن مصطفى(4):
وقارات تقول مراكيـب                     بعد فاتـوا عقبنهـم جـاي
                   .........
ولا ركبوا في ازوار سبيب           ولا ظهروا والرومي جاي
         والمعنى: رب مرتفعات صغار تشبه السفن أو الإبل، بدت قريبة منا بعدما قطعوها. ومعنى الثاني: وإذا ركبوا خيولهم (فوق صدروها - وكنى عنها بالسبيب وهو شعر الذيل) وإذا برزوا والروم (الطليان إذ أن الشاعر من ليبيا) دونهم.

* والديموم: بمعنى البحر، والصحراء المترامية المستوية كأنها بحر، كلمة قديمة لدلالتها، ولم تعد تستخدم في الفصيحة، غير أننا نجدها في شعر خالد رميلة الليبي إذ يقول في وصف جواده وهو يجري متتابعاً كأنه أمواج ا لبحر(43):
يجّالب كما موج ديمـــوم                 مســـاره اوقـــات صولانـــه
         أي أنه يتجالب، أي يجلب بعضه بعضا، كناية عن التتابع في الجري كالموج من بحر واسع. ومن ذكرها في الجاهلية قول الأعشى(42):
فوق ديمومة تخيل للسفر قفاراً إلا من الآجال
         أي فوق صحراء واسعة مستوية ....، وتشبيه الصحراء بالبحر كثير في أشعار الجاهلية نظراً لما يخفق فيها من سراب يحيلها (بحراً).

* وزقو القطا من قول الشاعر الليبي (حسين ياسين)(43) يذكر معركة جيشان جبيل أو يوم الربيع التي انتصر فيها المجاهدون الليبيون على الطليان إذ يقول:
وتما زقاهم م الجّعب في يدينا                  قطا هافّه قبيلي ظما بلحيل
         والمعنى: كانت صرخاتهم ألماً مما يلاقونه من بنادقنا فكأنهم طيور القطا وقد هبتها ريح القبلي الحارة. وان كان الظمأ صفة للريح فالمعنى الريح الجافة جداً، أو للطير فالمعنى الظمأى جداً. والعرب تصف الريح بالظمأى، وهي بمعنى الجافة على نحو ما نجده في قول سوّار بن المضرب(44):
رمى بلد بن بلداً فأمسى            بظمأى الريح خاشعة القنان
         إن هذه الكلمة (زقاهم - زقاؤهم) على وزن فُعال، وهو من أوزان الأصوات (كصراخ ونباح) والأدواء (مثل زُحار وسُعال). وهي من  الفصيح القديم الذي انتهى إلى بطون المعاجم، لولا ما يرد له الحياة من أشعار الأعراب.

*والبيطار:  بمعنى الطبيب الذي يعالج الحيوان، لم يعد في الناس من يستخدم لفظه اللهم إلا اسم علم على جهة اللقب، أما الشائع فهو البيطري نسبة إلى البيطرة اسم المهنة الذي دخل لغات العالم من العربية (Vetrarian: بيطري) ، غير أننا نظفر بالكلمة حية في لهجة أهل الجبل شمال شرقي الأردن وجنوب سورية، يقول خليف الهزاع(45):
وان صرت يا رجّال للشعر بيطار             غيرك ارجال يحكمون احكاره
         والمعنى: أن أردت يا هذا أن تصبح شاعراً حاذقاً فاعلم أن للشعر قواعده وقوانينه.

* ويقول بعد ذلك والأبيات في النصح(46):
واليا قطفت اقطف عذيات الاثمار             واحسب حساب الربح قبل الخسارة
         وهذه الكلمة "عذيات" جمع عَذِيّ من الغريب الذي لم يعد مستخدماً، نعم قد نجد في أخبار الخراج ذكراً للعذي من الزروع، وهو ما يكتفي بماء المطر ولا يسقى، وفيه العشر، غير أن الكلمة من النادر قليل الاستخدام. وفي العربية نقول: ارض عَذاة... لا تسقى، ويطيب زرعها على الرغم من ذلك. ومعنى الشاعر: طيبات الثمار.

قضايا صوتية:

         يعكس الشعر الشعبي العربي لهجات القبائل العربية قديماً وحديثاً، ومن أراد أن يطلع على شاردها وواردها فعليه بالمطالعة في أشعار البادين العرب في أرجاء الوطن الكبير، ليقف على جماع أمر اللهجات وأوصافها في تطبيق عملي ودراسة ميدانية مباشرة.

         ويكفي لاستيضاح ما تقدم أن نستعرض الصور الصوتية التي يلفظ بها حرف القاف هنا وهناك إذ نجده يأخذ عدة أشكال هي:

1- قلب القاف جيماً، وعلى ذلك أهل نجد وما والاها حتى بادية الشام ، ومن ذلك قول          أحدهم، وكان ضيف الله الشلاجي يردده(47):
متى يغرب جيشنا من عكب تشريج ومتى نطالع خشم سلمى وجالي
ومتى نشوف اللي علينا مشافيــج         عفر معفرتات بروس المبانــي
والكلمتان الواردتان في صدري البيتين هما تشريق بمعنى التوجه شرقاً، ومشافيق، جمع      مشفق وهو من يحبك ويرأف بك. ويقول الغياثي مهمّل، وفي رواية فريج الفرج(48) :
خوذوا كلام الصدج ما به تكاذيب           ويا موافجين الخير حنا وياكم
وكتيت بكم راجل ووادي سلاحيب         وبالصبخة لقيت مدافيج ماكم
فالمفردات الصدج، وموافجين ومدافيج هي الصدق وموافقين ومدافيق بالقاف.

2- قلب القاف كافاً، وعلى ذلك كثير من العرب، وجل أهل فلسطين يفعلون ذلك ويقول        القشاط(49)
وجيران ما فاد فيهم عملنا المعكد عجامة              ويدبوا كما دبي نحل العدامة
         يريد معقّد ، فقلب القاف كافاً.
3- نطق القاف مشربه بالعين، وعليه أهل شمال فلسطين وبعض أهل لبنان.
4- قلب القاف غيناً، وذلك شائع في لهجة جنوب اليمن والسودان.
5- قلب القاف همزة كما هي الحال في لهجات بيروت ودمشق ونابلس والقدس والخليل           والقاهرة والإسكندرية ولهجة مالطة العربية.
6- قلب القاف جافا Ch  كما هي الحال في لهجة بعض سكان البادية السورية العراقية،وربما تولد هذا من قلب القاف كافاً، إذ أن كثيراً من العرب يقلبون الكاف جافاً Ch  ومنهم من يقلبها ( ts,z بالألمانية) كما هي الحال في نجد. قال الشاعر الشعبي(50):
أنا لقيت الجذب في كل ديرة                 يا حلو، جذب امروّيه علط الارماح
يريد الكذب. وقال خليف مهيزع الهزاع(51) في الإبل يشبهها بالصقور:
راجب سبعه وسبعين                 كلهـن لـون الشياهين
ما رجبهن كل مسكين               غير صاحى الراس يجدين


قضايا صرفية:

         يقف المطالع في الشعر الشعبي على كثير من أوزان العربية المهجورة، فهو يمثل من هذه الناحية ما كانت عليه أشعار الجاهلية من حفولها بشواهد الغريب ولهجات القبائل والمباني النادرة. فكأننا بالشاعر الشعبي المعاصر لا يرى له حداً يقف عنده في التصرف بلغته وسلك ألفاظها بطرق تؤدي غرضه وتعبر عن مكنونه حتى لو جاءت مخالفة لنحو سيبويه والمبرد، ولو لم تأت على سمت أوزان الفحصى... لكأن المهم هو أن يعبر عن مراده بغض النظر عن مستوى العبارة، وهو بذلك يوافق ابن جني في تعريفه اللغة بأنها "أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم".

         ونورد في ما يلي بعض الأوزان النادرة التي نص عليها أهل العربية قديماً مما لم يعد مستخدماً في الفصيحة بكثرة، بينما نجده في الشعر الشعبي هنا وهناك حياً خالداً شاهداً على أن هذا الشعر صالح لأن يرفد عربية هذا العصر بألفاظ وأوزان تسعفها في سد العجز الناجم عن ثورة المعرفة التي تجتاح العالم المعاصر. بل لعل الأعراب أسلم ذوقاً، وأرهف حساً إزاء مسائل التعريب من العلماء، فلا تطرق بواديهم كلمة دخيلة أو "تقنية" حديثة حتى يبادروا، لا شعورياً، إلى إلباسها ثوباً عربياً، أو يستبدلوا الاسم الأعجمي لهذه "التقنية" من آلة أو جهاز أو نحو ذلك باسم عربي كما فعلوا على سبيل المثال: بسجائر Craven A  فعربوها بـ "أبو بس" وببطاريات Riovac  إذ عربوها بأبي مدفع لعلاقته بتوزيع ألوانها حيث يبدو فيها ما يشبه المدفع، ومثل ذلك كثير صالح لولا أن معايير بعض العلماء تحاصره وتحرمه حق الحياة في المحافل العلمية.

*وزن يفعال وتفعال، بمعنى يفعل، كقول القشاط(52) :
مزن اللي يدكان، ظلّم بعصايب
والمعنى يصبح داكناً، والدكنة من الألوان، فكأنه بناه على وزن افعلّ يفعل (مثل احمرّ يحمرّ) فاستبدل الألف (يفعال) بأولى النونين (يدكنّ). وهذا الشاعر نفسه يقول(53):
والخيل اتصلّ تعذر تسماح وتبدان
أي تسمح بجري سريع، أو تغدو سمحة الخلق، والكلمة هنا فعل لا مصدر من جنس ما ورد في الفقرة السابقة، وما نراه هنا إلا مد فتحة الحاء لتصبح ألفا. وقل مثل ذلك في تبدان، أي تبدن، بمعنى تصبح بدينة، وقال بن رويلة المعداني(54):
النجع اللي يونّس  م الخوف                 اليوم دونه جوبة تدغام
         وورد قبله وبعده أبيات تنتهي بالمفردات تسواد تشهاب وكلها لعلاقته باللون، ومن أوزانه افعلّ وافعالّ، ولكنه ليس من أوزان البدانة في "تبدان". ولا السماحة في "تسماح".
*وزن فاعول. ومنه كلمات قليلة في العربية نادراً ما تتردد بها الألسن والأقلام ولكننا نجده حياً في الشعر الشعبي. يقول ابن ربيعة(55):
خذ ما تراه وخل عنك التماني                يا قلب ياللي لك عن الرشد شاطون
         يريد البعد عن الهدى، من الشطن بمعنى البعد.

تأصيل أحرف المباني:

*كثيراً ما نجد في الأشعار الشعبية مفردات جيء فيها بأحرف العلة على حقيقتها دون إعلال، بينما نجدها في الفصيحة تقلب همزة، ومن ذلك بناء وغنّاء، إذ الأصل فيهما غناي وبناي، وهي وأمثالها كثير نجده بالياء، أو بالواو لما كان واوي الأصل، في الشعر الشعبي، لا سيما الليبي منه. يقول رحومة بن مصطفى(56):
النجع اللي فيه لواليــب                            دوازين يجيبوا في الراي
اللي كان مزرب تزريب               على منهل عــز السقـاي
اليوم دونه يشوب تشويب                   سراب يهيل نــاي بنـاي
انزاحوا فرسان التصليب              عرب كون ينغنغ بكــاي
.......................................................................
خذا عون القبلي تشريـب                      رحيل وصمّال ومشــاي
هوينه متنصب تنصيـــب          على قيس يهيل الضـواي
فالكلمات السقاي، ناي بناي، بكّاي، مشاي، ضواي، هي نظير المفردات الفصيحة السقّاء، نأي بنأي، بكّاء، مشّاء، ضواء... ويحسن بنا أن نشير هنا إلى أن الياء في هذه المفردات هي الأصل، والهمزة فرع.

*قلب الحروف على غير قياس. كقلب الواو الأولى ياء في كلمات مثل موجود ومولود، إذ نجدها في اللهجة الليبية، وكذلك في أشعارهم الشعبية ميجود، ميلود وهكذا. يقول حسن لقطع (الأقطع)(57):
مرمرم حساد عنيدين                لهم من ميلود لميلود
         وقد نظفر بهذه الصيغ في لهجات البادين العرب في الجزيرة العربية وبلاد الشام لا سيما عند قول بعضهم الجود من الميجود. ويقول رحومة بن مصطفى(58):
ومع دفة ضحضاح مضيق تلاقن بقصار الميعود   (الموعود)
وبدين لسوام مطاليق   البايع والشاري ميجود  (موجود)
ومن العرب من قلب الواو ألفاً على غير قياس. قال سلامة الغيشان:(59)
ما بقى للخيل شيّاً ينذكــر       أصلح الماجود قلدها حواه
ومرد ذلك إلى أن العرب تستثقل الواو والضم، وهذا موضوع يطول بحثه.


* أوزان غريبة:

         كثيراً ما يقف دارس الشعر الشعبي بأوزان ومبان غريبة، ولكنها مع ذلك تفصح عن معانيها نظراً لبراعة الشاعر في التعبير وصياغة الألفاظ، فاستمع إلى قول القشاط(60) يصف امرأة فيقول:
                   جت ظاهرة تتخنسى                مربوعة القدين طُفلة عنسه
وكأنه يريد "تخنس" فقال لضرورة الشعر تتخنسى، أو يريد "كالخنساء" وهي البقرة الوحشية لجمال عينيها، فاجتهد وصاغ هذا المبنى الذي لم نسمع به من قبل.

         وأذكر هنا أنني ضللت الطريق من تَنُومَة عسير إلى بلدة ربوع قريش عام 1388هـ، وصرت إلى جبال، فوقع بصري على أحدهم فقصدته سائلاً عن درب الهدى، فأشار إليّ قائلاً بلهجة السؤال: ترى ذيك الصخاليف؟ قلت: أجل، قال: حين تجيها وتفرّع ترى القرية دونك... فشكرته وفعلت، وفعلاً اهتديت، غير أن بالي لم يشتغل كثيراً بمشقات الطريق ووعورته، بل ظل مشتغلاً بالصخاليف، لم أسمع بها قبل ذلك، ولم تمر بي في أثر، ولم يهدأ لي بال حتى سألت، فلم أجد من يرشدني إلى جواب مفيد... فأدركت أن ذلك الرجل اختلق الكلمة فور سؤالي إياه، إذ قلّب بصره فرأى رقاقاً في أعلى الجبل، يخالف لونها لون سائره، فأدرك فيها معنى السخف (الرقة) وأضاف اللام للدلالة على معنى الاتصال، وولّدها من فوره. وذلك هو شأن العربي الأصيل مع لغته، أو لعله رآها كالزحالف (من شعر أوس بن حجر) أو الزحالق، وهي لمعناها نفسه، فتصرف مستعيناً بالإشارة، فوقع الإفهام والفهم... وتلكم لعمري هي اللغة في أبهى معانيها وأخطر وظائفها.

         ومما ينسجم مع ما تقدم هذه المباني التي قفّى بها عبدالله بن سبيل قصيدته التي مطلعها(61):
                   يالله يا عالم خفيات الأسرار          يا عالم ما يطرق المودماني
         ومنها: المعرباني، ومطرباني، وغيرها، إذ المقصود بها الآدمي، ابن آدم، والعربي الذي يفصح بكلامه عما يجد، والمطرب، حيث زاد الشاعر المقطع (آني) على غير قياس اللهم إلا قياس القافية التي اختارها لقصيدته.

         بإجمال: إن دراسة القضايا الصرفية الكثيرة التي يحفل بها الشعر الشعبي العربي لتقفنا على حقائق خطيرة، وتمدنا بفوائد جليلة من شأنها أن تسعف العربية في حاجهتا الراهنة لمزيد من المفردات لتغطية مستجدات الحضارة وتوليد الاصطلاحات المناسبة، غير أن المجال لا يتسع هنا لمثل هذه الدراسة، وإنما ننبه إلى ضرورتها، آملين في أن نوفق، أو يوفق غيرنا إلى الخوض في غمارها، إذ أنها مهمة شاقة، وتقتضي تضافر الجهود بين المشارقة والمغاربة.

قضايا النحو والتركيب:

         المعروف أن الأدب الشعبي متحرر من قيود النحو، وهذه حقيقة لا مراء فيها، غير أننا نجد كثيراً من أمور النحو قد لاذت بالدارجة، واستوطنت الأدب الشعبي مخفية وراءها تاريخاً حافلاً بالتطورات والتغيرات اللغوية. ومن أمور النحو الباقية في الدارجة:

1- تصحيح نوع العدد قياساً بالمعدود، وهذه قضية كثيراً ما يخطئ بها دارسو النحو،      فيذكّرون ما حقه التأنيث والعكس، بينما نجد العوام يتقنون ذلك لا سيما عند استخدام الأرقام من ثلاثة إلى عشرة. فيقولون: ثلاث تيام وأصلها ثلاثة أيام، خمس ترغفة، وأصلها خمسة أرغفة. يقول محمد العبدالله القاضي(62):
         واذا مضى منهن ثلاثيــن ليلــة        تواسى نهاره هو وليله مطابق
         وعشر ويبدى المزن ينشي مغرب       كما افتر ديدان حداهن سايــق
         والمقصود وعشر ليال... وقال قبل ذلك:
         ترى أول انجوم القيظ سبع رصايف....  يريد سبع أنجم، جمع نجمة.

2- قلب تاء جمع المؤنث السالم هاء، وهذا شائع في لهجة رجال المع من تهامة عسير،       وفي لهجة أهل الجبل والحرة بحوران، في سورية والأردن. يقول بشير حامد السبيتان(63):
قولوا لنايف اتــرك الهـــم وغبــون         أبوه شهيد وواحد الحي ساواه
مرحوم ابو نايف يرحمه عالي الكون يدعيه للجنـــة رب السمــواه
والقصيدة هائية... ومما نحفظه من كلام العرب المأثور، وأد البناه من المكرماه.. أي         قتل البنات من المكرمات. بئس من قول!

3- التنوين: يعد التنوين من خصائص العربية، وهو من أمور النحو وفصيح الكلام، غير أننا نجد في الدارجة كثيراً من المفردات لا نستخدمها إلا منونة، مثل غصباً، دائماً، جداً، أما في الشعر الشعبي فالتنوين شائع وكثير، ولكنه نادراً ما يكون مطابقاً لمقتضى النحو. قال محمد سعيد القشاط(64):
في البال لا يخطى النظر لا ننسى     ريمن تخنّس للعفي متعني
والمقصود "ريماً" ولكن ا لشاعر نون الكلمة بالكسر، وأثبت التنوين في ديوانه بالنون،     ولا بأس في ذلك إذ هو نون حقاً، ولكن لا وجه للكسر، ونعتقد أن قلب الفتح كسراً هنا، وفي أحوال كثيرة إنما جاء على جهة الإمالة، لأن العرب تميل الألف والفتحة جهة الياء والكسرة بكثرة. ومما نحفظه لأحد شعراء شمّرقوله:
كريم يا برق سرى له رفاريف                قعدت اخيله والعرب نايمين
إذ نونت الكلمتان كريم وبرق بالكسر، وحق الأولى والثانية الضم ويصح في الثانية       الفتح. ونعتقد أن الكسر أكثر انسجاماً مع ميل ا لدارجة إلى التخفيف والتسهيل واقل         اقتضاء لحركة جهاز النطق من الفتح والضم.

ومن الشعراء الشعبيين من يأتي بالتنوين على قياسه، على نحو ما نجده في قول نمر بن عدوان(65):
         زارن وليف الروح غايب زمانا               شكيت له أحزان قلبي ابتوجيع
         حياك ربي يـــا حبيــباً نسانـــا   لوهو نسانا ما شرينا ولا نبيـع
         حيث نون زمانا بالفتح وذلك حقها إذ هي ظرف زمان، وحبيباً، لأنها منادى نكرة غير     مقصودة. ومن ذلك قول موسى حمودة من صحراء وسط ليبيا(66):
         نهاراً ترع دمه جرى من الرمله               ناهو اللي شاهد على مطراهن
إذ نون نهاراً بالنصب على الظرفية قياساً على معايير النحو العربي. ونلاحظ هنا أن         الشاعر حذف همزة "أنا" ومعناه أنني أنا الشاهد على أخبارها، يعني أحداث الحرب ضد الطليان.

4-استخدام النون بدلاً من تاء التأنيث. وهذا من رواسب العربية الجنوبية القديمة، وما   زال عرب تهامة عسير واليمن على ذلك، إذ يقولون: راحن، جن، سرحن في راحت وجاءت وسرحت للغائبة المفردة.
         ومن شأن العرب أن تعامل جمع التكسير معاملة المفرد المؤنث لا سيما إذا كان لغير        العاقل، ولكن الشعراء الشعبيين في بعض البوادي العربية شرقاً وغرباً يستخدمون     النون بدلاً من التاء، ومن ذلك قول موسى حمودة أيضاً - وهو في الخيل(67):
بانن فراسين ع الموت شقّن          وفيهم يزقّن       مداعيات لا تومجن لا تتقن
ادّا عن على الطبجي يسّرنّه         وكوره خذنّه      وتمّن معازيق فيه الحصنّه
والمعنى: بانت (ظهرت) فرسان شقت على الموت (أقبلت) والخيل زقت (صهلت) وهم على ظهورها كما يزقو القطا، وهي تتداعى كارّة، ولا يقال فيها إنها لم تأت بعد (تو: للآن) ولا اتقت وتولت عن الزحف. ومعنى البيت الثاني: أن الفرسان تداعت على آمر بطارية المدافع (الطبجي - وأصلها تركية طوب: مدفع، وجي للنسبة) وأخذته كالكرة تزجيها بين أرجلها، وظلت الخيل تتراكض في الميدان.
         ومن استخدام النون في موقع تاء التأنيث عند المشارقة قول معاهد رواد عودة(68) من شعراء بادية الشام:
سبعين تمّن بالاعداد                  راجن بنا كل البلاد
         والمراد: تمت، وداجت. ولو أرد نون النسوة لقال: تممن ودُجن. غير أن الذي نراه هنا هو أن هذه النون بعلاقة بالتأنيث، أو هي في الأصل نون النسوة، أو نون للتأنيث فصح أن توقع موقع تاء التأنيث.

Post a Comment

Previous Post Next Post