يمكن أن نقسم الغضب حسب ما ورد في الأحاديث النبوية الشريفة إلى نوعين، ولكل منهما حالاته ومقاماته وسلوكياته، وآثاره على النفس والمجتمع، من سعادة أو شقاء، وهي كما يلي:
وهو ما كان لله ولحرماته، ولم يكن للنفس فيه نصيب، ويكون هذا النوع من الغضب بسبب اعتداء على حرمة من حرمات الله، من هجمة على العقيدة أو خلل فيها، أو بدعة في أداء عبادة، أو قتل نفس مسلمة، أو أخذ مال بغير حق، أو اعتداء على أرض، أو انتهاك عرض، أو فشو معصية وغيرها من الحرمات والمحظورات التي نهي عنها في دين الله، ففي مثل هذه الحالات يكون الغضب واجبًا ومحمودًا، يقول الله تعالى: ((قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ)) ((وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ))([1]). وقــال تعــالى: ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ))([2]). وقال جل ذكره: ((يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ))([3]).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء يؤتى إليه حتى يُنتهك من حرمات الله فينتقم لله»([4]).
وجاء في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم «كان أشد حياء من العذراء في خدرها فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه»([5]).
فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم - وهو القدوة والأسوة لنا في أمورنا كلها - لم يغضب لنفسه قط، ولم يضع للدنيا في خاطره شيئًا يساوم فيه الناس ويحاكمهم، وإنما كان غضبه إذا تجاوز فيه أحد حدًا من حدود الله أو تعدى إنسان على حرمة لله، فقد روت عائشة رضي الله عنها أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فاختطب فقال: أيها الناس إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»([6]).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل، فلما رآه هتكه، وتلّون وجهه وقال: «يا عائشة: أشدّ الناس عذابًا عند الله يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله»([7])، القرام: الستر الرقيق.
والوعيد شديد للذي لا يغضب في هذه الحالات، يقول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون أن يغيروا فلا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب»([8]).
من هذا كله تبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يغضب وفي الوقت نفسه لا يغضب إلا إذا انتهكت حرمات الله لكن السؤال: ما حدود هذا الغضب؟ وهل هذا الغضب يخرج الإنسان عن القدرة على التوازن في التفكير، أو التعدي بالقول، أو العمل؟ لا شك أن المحلل لغضب النبي صلى الله عليه وسلم يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يتصرف وهو بكامل عقله وتصرفاته؟
فالغضب المراد هنا أن لا يخرج الإنسان عن وضعه الطبيعي حال هدوئه فيتصرف تصرف الإنسان في حال طبيعته قبل غضبه فلا يتعدى بالقول أو الفعل، فهذا الغضب أفاد فوائد عدة منها:
 أ - أنه أعطاه دفعة نفسية لتغيير هذا المنكر.
ب - أن تغير ملامح الإنسان بسبب هذا الغضب يدل على عظم هذا المنكر فليس أمرًا طبيعيًا.
ج - أن المشاهد والمستمع لهذا الغضبان يحرص على الاستجابة لما يرى من شدة تأثر المتكلم فيكون هذا الغضب دافعًا للاستجابة.
أما إذا خرج به الغضبان عن الحد الطبيعي وتجاوز الحدود الشرعية كأن يتعدى في أحكامه، أو أقواله، أو تصرفاته، أو لا يدري ماذا يقول، أو لا يضبط ألفاظه، أو يزيد في الكلام عن الأمر المراد، أو يضرب ... كل هذه وأمثالها نقلت هذا الغضب من كونه محمودًا إلى أن أصبح مذمومًا.
وهو ما كان انتقامًا للنفس، وهذا الغضب تترتب عليه نتائج خطيرة على الإنسان ذاته وعلى مجتمعه، وهو الذي حذرنا منه الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، ومناسبات عدة، كما في حديثنا الذي جعلناه منطلق الحديث.
وهذا - أعني الغضب المذموم - هو الذي نبسط الكلام عليه في الأسطر القادمة.
والغضب كما سبق حالة نفسية وغريزة بشرية كسائر الغرائز التي أودعها الله في الإنسان، ولكن تأثيره على النفس البشرية يختلف من إنسان لآخر، وكذلك السلوك الذي يسلكه الإنسان عند الغضب يتباين من إنسان لآخر، وصدق الله تعالى إذ قـال: ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا)) ((فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا))([9])، فالنفس العامرة بتقوى الله تعالى وطاعته، والعارفة حدود الله، وما أعده الله للذين لا يتبعون طريق الشيطان ولا يخضعون للوسواس الخناس، هي النفس لا يؤثر فيها الغضب ذلك التأثير الجامح الذي يجعلها تتصرف بغير حكمة وعقل. وأما النفس التي خلت من الإيمان أو ضعف فيها وتمكن منها الشيطان فهي المناخ المناسب لأن يتفرخ فيها الشيطان ويوسوس لها ما يشاء ليضلها ضلالاً بعيدًا، وللغضب في هذه النفس مجال كبير ودور فاعل وعظيم، لأن لها قابلية لاستقبال أي انفعال أو مرض نفسي فتراها إذا غضبت، خرجت من طورها الطبيعي ويصبح الإنسان حينها كالمجنون تتغير ملامحه، ويلفظ بأسوأ الكلمات، ويتحول إلى ثورة من النار، لا تميزه من المجنون في هذه الحالة، وهذا ما دعا كثيرًا من علماء النفس أن يقولوا «بأن الغضب صنف من الجنون القصير المدى وإن الأعمال تجري في أثنائه بعد أن يتوقف العقل فما يعمل»([10]).
ومهما يكن فإن الغضب لا يأتي من الفراغ، وأي انفعال يعتري الإنسان يكون له دوافع وأسباب، وهذه الأسباب لا يمكن عدها وحصرها، فهي كثيرة جدًا، حسب المواقف والحالات التي يمر بها الإنسان، فحصرها محال، ولكن يمكن أن نذكر بعضًا منها، والتي انتشرت في هذا العصر بشكل كبير، فهي تمس واقعنا وحياتنا واليومية.


([1]) سورة التوبة، الآيتان 14، 15.
([2]) سورة الفتح، الآية 29.
([3]) سورة التحريم، الآية 9.
([4]) صحيح البخاري، رقم 6853، ص1181.
([5]) صحيح البخاري، رقم 6102، ص1064.
([6]) صحيح مسلم، رقم 4410، ص 748.
([7]) صحيح مسلم، رقم 5527، ص943.
([8]) سنن أبي داود، رقم 4338، ص 609-610.
([9]) سورة الشمس، الآيتان 7، 8.
([10]) قوة الصوم في مواجهة الغضب، د. فوزي عبدالقادر الفيشاوي، الفيصل، ع255، ص41.

Post a Comment

Previous Post Next Post