1- المرأة /الأنثى
     تقول (نوال السعداوي): " إذا حاولنا أن نستقرئ تاريخ المجتمعات، فإننا سنجد أن مركز (البنت) في الأسرة هو منذ البداية مركز ضعيف، مشوب بالكثير من (الدونية) (Inferiorities) فنحن نعرف مثلاً كيف كان وأد البنات عند العرب في الجاهلية نظاماً اجتماعياً متبعاً. أم كانت ترجع إلى دافع ديني بحت على اعتبار أن البنات رجس من خلق الشيطان أو من خلق إله غير آلهتهم، وأن مخلوقاً هذا شأنه ينبغي التخلص منه([1])، فإن من المؤكد أن نظاماً كهذا إنما يصدر عن شعور اجتماعي عام بحقارة شأن المرأة ووضاعة مركزها الاجتماعي وسوء مصيرها في الحياة. وعلى الرغم من أن وأد البنات قد اقترن عند العرب ببداوة الجاهلية، فإننا قد لا نعدم له نظيراً لدى بعض الجماعات الأخرى التي يخلو نظامها الاجتماعي من حضارة. وقد كان اليهودي كما ورد في التلمود يستهل صلاته إلى الله قائلاً: " أحمدك يا إلهي لأنك خلقتني يهودياً لا وثنيا، ذكراً لا أنثى " ! ولا زال وأد البنات سنة متبعة في الكثير من المجتمعات، ولو أننا هنا بصدد (وأد أدبي) نلقي فيه بالأنثى إلى (حفرة) النقص والوضاعة وحقارة الشأن!"([2])
     وتؤكد بعض الشاعرات أن مشكلتهن بدأت بكونهن ولدن إناثاً، وشعور الأم في الشرق بالدونية عند ولادتها وكأنها بذلك قد ولدت عاراً، خطيئة، حذاء..، وتتصور سيطرة الأم على البنت بالضرب والشتم والإيذاء. تقول (عايدة حسنين) في أول قصيدة لها في أول ديوان تنشره، وهي بعنوان (وصمة عار) وقد بنتها بناء دائرياً:
منذ النفس الأول!
   وشمتُ بعار القبيلة
   أنثى !
         خطيئة
في أضلع الشرق
            حذاء !...
أمي!! / أنت لم تعطسي الرذيلة/ أبداً !
عفواً/ أرجوك/ مرة واحدة اسمعيني
ثم قطعي فروعي/ اصفعيني كعادة موروثة
ككل يوم غائب حاضر../ أسامحك أمي مهما فعلت
أمقتك مهما فعلت/ وأهواك!
رغم الصخور/ رغم الصقيع/ رغم القطيعة !!
وأبدأ من حيث أنهيتني/ أبدأ من نهاية النهاية
أنثى ! ( عايدة حسنين، رؤى الياسمين، وصمة عار، ص 1، 3، 4)
     وتركز (ريتا عودة) على (الحقيقة والظل) حيث يعتبر الرجل حقيقة، وتبقى المرأة هي الظل، وهي الآخر. وإذا كانت قصيدتها الأولى في ديوان (ثورة على الصمت) هي (الحقيقة والظل)، فإن الثانية بعنوان (الحقيقة)، والحقيقة أنها تحاول أن تكسر قضبان العزلة، وهذا تكرار للنص السابق وتخرج عن حزنها وصمتها فقد آن الأوان لتعلن بكبرياء، وبملء صوتها أنها قد ولدت منذ الآن ككيان. وقد كان لها قصيدة أخرى في الديوان نفسه بعنوان ( الحقيقة)، فالحقيقة عندها أنها لا تعترض على كونها أنثى ولكن على موقف المجتمع الذكوري من كونها أنثى واضطهاده كل ما هو أنثوي، تقول:
أنا لا أعارض / كوني أنثى
إنما / أعترض/ على موقفكم مني
لكوني أنثى! (ريتا عودة، ثورة على الصمت، الحقيقة، ص15)
     ولكن المجتمع ما زال يعامل المرأة من جانب بيولوجي ولذلك كتبت (ريتا عودة) عن المعلمة (رؤوفة مصاروه)، الواثقة ذات الخبرة العملية التي تمتلك كافة المقومات لتكون نائبة في مدرسة وحتى تمثل عشرات المعلمات الزميلات وعشرات الطالبات ولكنها ردت خائبة وتم تجاهلها وطلبها لأنها أنثى، تقول ريتا عودة عن ذلك كشكل من أشكال التمييز.
لكن../ هي (بيولوجياً)
مجرد امرأة/ آه .. امرأة!. (ريتا عودة، ثورة على الصمت، من وجوه التميز(1)، ص20)
     وتؤكد (أنيسة درويش) أن ذلك العار الذي تعانيه المرأة هو لكونها أنثى، وأنها قد ورثته وورثت كل المشاكل المترتبة عليه، تقول:
أعلم أنك رجل/ حواء جدتي
أورثتني الدروب الشائكة ( أنيسة درويش، وأهون عليك، حواء، ص 35)
     وتقول (نوال السعداوي): " تحت اسم المحرمات يتوقف عقل الأطفال عن طرح الأسئلة الطبيعية، وإن كان الطفل أنثى فإن المحرمات تكون مضاعفة، لأن القيم الأخلاقية والاجتماعية والدينية التي تحكم الذكور ليست هي القيم التي تحكم الإناث. بسبب هذه الازدواجية يتوقف عقل البنت عن التفكير في أشياء قد يفكر فيها أخوها الولد. "([3])
     أما (فاتنة الغرة) فإنها تصور المجتمع يهرب من الاعتراف بوجودها، ويغلق دونها كل المنافذ، ويحرمها حقها كإنسان، كونها أنثى، تقول:
أنا الأنثى تدب خطاي/  فيغلق الهاربون نوافذهم.
كي يناموا..
أنا امرأة ولست نبية
فاعذر الماء إن غافلته قدماي/  وعبرت ( فاتنة، امرأة مشاغبة جدا، ص 79، 82 )
     وكأن (فاتنة الغرة) هنا تقصد من خلال الدال (أنثى) المرأة بتكوينها البيولوجي. وهي تكتب بشكل نسوي لتجاوز الجانب البيولوجي. والحقيقة أن النسوية قد تجاوزت النسائية أي الجانب البيولوجي. فالنسوية مصطلح دال على الحركة النسائية، والفكر النسوي، وإبداعاته، ونظرياته، وأدبه، وهو يعني إجمالاً إعادة التوازن الفكري والعقلي لعلاقات القوى في المجتمع. والنسوية تعني مجموعة من الخصائص التي تحددها الثقافة، والشروط الاجتماعية والاقتصادية مرسومة بها الأدوار بين الرجال والنساء. فالجنس يحدد بيولوجياً أما الهوية الجنسية، فهي مفهوم نفسي يشير إلى هوية مكتسبة ثقافياً. ومن خلال النسوية يكتب الرجل والمرأة حتى يقدمان نصاً نسوياً قادراً على تحويل الرؤية المعرفية والأنطولوجية للمرأة إلى علاقات نصية مهتمة بالأنثوي المسكوت عنه المخلخل للثقافة المهيمنة، والمشكل للهامش.
     وتعلن (سهام شاهين) رفضها أن تسجن في الدار لأنها أنثى، فتقول:
ما عدت على الدنيا هَمْا
أنثى تقبل سجن الدار.. ( سهام شاهين، الإبحار في المواسم الصعبة، ص16)
     تشير الشاعرة إلى نظرة ما زالت موجودة في مجتمعنا الفلسطيني الذي هو كغيره من المجتمعات العربية المحافظة. فترفض الشاعرة أن تكون هَمْاً كما يقول المثل( هم البنات للممات).
    وتعلن الشاعرة تمردها، فالثورة تبدأ بالتمرد على تلك النظرة الذكورية للمجتمع، فلقد ولدت أنثى، تقول ريتا عودة:
علقوني/ على صليب/ منذ ولدت
وقالوا .. " أنثى"
ثبتوا يدي بالمسامير/ على خشبة الزمن
ثبتوا رجلي بالمسامير/ على خشبة الغبن
وقالوا .. أنثى ...أنثى! (ريتا عودة، ثورة على الصمت، صليب الصمت، ص 13)
     وهي تصور الأنثى تصلب كالمسيح صامتة حتى تفدي بنات جنسها، ولكنه الغبن بعينه.           فإن جوهر الإنسانية واحد في كل من الرجل والمرأة، فالمرأة إنسان والرجل إنسان، وهذا ما يطغى على كل اعتبار عندهما، ولكننا لا نستطيع أن ننكر أن المرأة " وليدة تحكم صناعي أريد به للمرأة أن تكون كائناً ثانوياً لا يعترف له بالحرية والاستقلال والفاعلية "([4]) وليست وليدة واقعها البيولوجي أو تكوينها الطبيعي كما يقرر علماء النفس. مع ذلك فلديها المقدرة على التمرد والتغيير، تقول (فريال جبوري غزول):" إن إمكانية تغيير هذا الواقع، وخرق أقنعته، والثورة على آلياته، سيأتي حتماً من أفراد الشرائح المقهورة، والمغلوبة،  والمهمشة- بما في ذلك النساء في مجتمع بطريركي..فإمكانية خرق التواطؤ الأيديولوجي، ونزع الأقنعة الكلامية، أقوى عندهم، فهم يدركون أبعاد النفاق، والكذب، والتزوير في خطاب السلطة"([5]).
      تقول نوال السعداوي " وأما (المرأة) فقد ظلت هي (الموجود الآخر) أو (الجنس الثاني) الذي كتب عليه أبد الدهر أن يبقى مغلفاً بالأساطير والتهاويل والخرافات! وارتبطت في أذهان الكثيرين خصوصاً في بلاد الشرق كلمة (المرأة) بكلمة (الحريم)، فأصبحت أنثى الإنسان دون غيرها من إناث (المملكة الحيوانية) سرا منيعاً تتضارب حوله الأقوال، ولغزاً صعباً تحاك حوله الأقاصيص والأمثال، دون أن يقوى أحد على إماطة اللثام عما أحاط به من سحر وشعر وخيال!"([6]).
     وتقول (روز شوملي): " الكتابة تعبر عن كاتبها: وأنا إنسان يتسم بالبساطة والعفوية، لكن بعيداً عن السطحية. وقد أعطتني تجربة المرأة الفريدة في خلق الحياة بعداً إنسانياً عميقاً عبرت عنه في كثير من قصائدي. الحياة تبدأ بالأنثى وتنتهي بالأنثى الأرض:
من رحم إلى رحم
رحلة العمر الأبدية (روز شوملي، للنهر مجرى غير ذاته، ناي وريح، ص 31)
     2- الحزن
     الحزن ظاهرة عامة في الشعر الجديد، ولكن لا بد من أن أتناول أحزان الشاعرات التي يعتبرها البعض صفة بيولوجية في المرأة، وأعتقد أن حزن المرأة له مبرراته وأسبابه في هذا الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الممزق فهو حزن من الغربة والضياع والتمزق، وبسبب هزائم الأمة العربية المتتالية، وقلقهن الدائم أمام عالمهن، وما يعج به من أحداث ومآسي وآلام، مما يجعل الشاعرة شاكية باكية، فقد عشن كل المآسي التي مر بها وطنهن والوطن العربي وعانين ظروفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية القاسية.
     فالألم الذي تكثر شاعراتنا من التغني به ووصفه واستعذابه له في حقيقة الأمر واقعه في حياة المرأة، ذلك أن حياتها البيولوجية تفرض عليها كثيراً من المتاعب والآلام والتضحيات، فهي تتحمل الألم وتتقبل التضحية وتحاول التوحد إزاء هذا، بين طبيعتها الأنثوية وقلقها الإنساني، ويدل هذا على رهافة حسها، وتوثب شعورها، ومحاولتها تغيير هذا الواقع المؤلم.
     فللحزن أسباب ذاتية موضوعية ومن الممكن أن نتناول: حزن الخيبة والحرمان وهو لون من الحزن مصدره إخفاق الشاعرة في تحقيق الوطن لانتصارات سياسية، أو إخفاقها وحرمانها في علاقاتها العاطفية والاجتماعية من تحقيق رغباتها الإنسانية والروحية، نتيجة ضغوط وقهر المجتمع إياها. وحزن ناتج عن الخوف من الموت ولكل منهن فلسفة في تفسير الموت حيث تعد تجربة الموت من أقسى تجارب الحياة.
     لقد نسب الحزن إلى المرأة كونها أنثى حيث ارتبطت المرأة بالبكاء وبالدمع، تقول (ريتا عودة):
علموني كل أبجدية الحزن
ألبسوني../ كل أقنعة الصمت
وقالوا / آه أنثى!../ مجرد .. أنثى! (ريتا عودة، ثورة على الصمت، صليب الصمت، ص13)
     ولعل معاناة المرأة من كونها أنثى ونضالها من أجل الحرية والإبداع، والعصاب الذي يصيب المرأة وهي تحاول أن توجد لها دوراً كان يسبب الحزن للمرأة. الذي كان يتطور عند بعض الكاتبات ليصبح مرضياً كما هو الحال عند (مي زيادة وسيمون دى بفوار). وكان يؤدي ببعضهن إلى الانتحار كما حدث مع (فرجينا وولف) في الأربعينات من القرن الماضي.
     أما (ليلى علوش) فإنها لا تستطيع أن تداري حزنها وكآبتها ويأسها من الألم الفلسطيني والواقع العربي المهزوم ولذلك تقول في قصيدة بعنوان ( الحزن):
كئيب حزني المعجون بالصبار
يلف القاع كالإعصار/ يحطم حانقاً كبري/ ويستلقي
كسيفَ البال، منهوكاً/ يُظلُّ جدار هذا القلب ( ليلى علوش، بهار على الجرح المفتوح، الحزن، ص 166)
     ولقد جاءت مفرداتها كلها في الجزء السابق حزينة من:( كئيب، حزني، الصبار، القاع، الإعصار، يحطم، حانقاً، كسيفَ البال، منهوكاً).
     وتبث مريم الصيفي حزنها عبر نصها( انطفاء)، تقول:
أرأيت إلى نهر الأحزان/ العارم يجرف/ جذع الصبار المنخور...؟؟
يتدفق يهدر بركاناً .../ حُمَمِّى َّ القذف...
ويلون بالصخب المجنون/ شواطيء ذاك الجرف...؟؟...
نهر الأحزان تفجر/ منبعه.../ مذ كانت تلك المرأة/ ذات نهار...
والفجر الأسود يطرق/ باب الدار...
تنتظر القادم من رحم الأقدار...
فأطل عليها بوم ينعب/ يحمل كل الشؤم على كف دوّار...
    نهر الأحزان جرى/ فارتحل العشب...
وفرت من روضتها/ بسمات الأزهار...( مريم الصيفي، عناقيد في سلال الضوء، انطفاء، ص 63-64)
    وقد كررت الشاعرة الجملة الاسمية (نهر الأحزان جرى)، لتؤكد أن ضياع الوطن قد فجر عندها نهراً من الأحزان. فالمفقود عظيم وكبير ومهم عند الشاعرة وفقدانه أورثها الحزن الجاري بلا حدود. ولقد شبهت العدو القادم (بالبوم) والبوم رمز للتشاؤم والحزن عند العرب، وبذلك كانت رموز الشاعرة ومفرداتها تحمل كل معاني الحزن.
     وتحكي لنا الكثير من الحزن في نصها ( تداعيات حزن)([7])، وفيها تستخدم الدوال (الحزن، الوجع المكتوم، ينفجر، الآلام، الدمعات، يذوب قلبي، يدمي مقلتي، كمد، الشوق، يحرقني، اللهيب الحارق، ناره، الأسى، وجع، جمرة، تستعر، احتراق، تلظى، عذابات، ينفطر، تحرق، هموم، وهنت، الجمر، لا تبقي ولا تذر، غليان، دامسة). وفيها كررت الشاعرة لفظ حزن ( 7 ) مرات.
     والحزن هو العدو الذي امتد في كل شيء منذ احتل الوطن، تقول (عطاف جانم):
والحزن مثل السندباد/ يجوب في أقطابها
وينام حيث يشاء.. يأكل ما/  يريد،
عيونها..أفكارها/ حتى بقايا الابتسامات التي
سخرت بأرزاء السنين/ ترفعا
لتئن فوق شفاهها..
قامت تجرجر كالذبيحة / نفسها
فتحت مصاريع الفؤاد/ هتفت به
- أرجوك .. ارحل من دمي( عطاف جانم، لزمان سيجيء، تشنجات على أوتار مقطوعة، 74-75)
     وهي حزينة لفقدان الوطن، ولعل شعرها يتسم بطبقة من الحزن تغلب عليه، يقول إبراهيم السعافين في مقدمة ديوانها الأول ( لزمان سيجيء)، أن من ملامح قصيدتها: " ذلك الحزن العميق الذي يسري دفيناً في شعرها، ويبدو ذلك الحزن في أحوالها جميعاً، يسم روحها حين تعبر عن ذاتها تجاه الخاص، وتجاه العام، تمزج في روحها الذات والوطن والإنسان..([8]).
     ولقد استشهد أخو (فاتنة الغرة) فانتشر الحزن عندها في كل مكان، وتوقفت عجلة الزمن النفسي عندها، تقول:
الحزن يزرع في شواطئنا وجوهاً
لا سبيل إلي الرجوع إلي الأمام
ولا التقدم خطوتين إلي عدم
لا دمع يرقص فوق أشلاء السوافي
لا فساتيناً تراقب يوم العيد / لا حصاناً مرمرياً
لا جناحاً ينقل الورد المقطر عند زند البندقية
لا فراغاً .. ( فاتنة الغرة، امرأة مشاغبة جداً، تفاصيل ذات معنى أو لا يهم، ص8)
     3- الرثاء:
     جاء شعر الرثاء من أصدق ما قاله الشعراء رجالاً ونساءً، وإن كان قد ارتبط بالنساء بشكل أكبر وأوضح. وقد ربطه البعض بالمرأة بحكم تكوينها البيولوجي. ولقد كان شعر المرأة في العصر الجاهلي يرتكز على محور الرثاء، وهذا ما جعل القارئ يتساءل عن أسباب وجود تلك الظاهرة التي جعلت المرأة تبرز تاريخياً في ذلك الغرض الشعري دون غيره، وهل يرجع ذلك لقدرة النساء على البكاء والتفجع وذلك بحسب طبيعتهن السيكولوجية، أم لما للرثاء من وظيفة حيث يستنهض الرجال من أجل الثأر للقتيل. والدفاع عن الأرض والعرض في الحروب.
     يقول (أحمد الحوفي) إن " الرثاء هو المجال الفسيح الذي تطلق فيه عواطف المرأة، لأنه نوع من النواح والبكاء، وإن المرأة لتلجأ إلى دموعها أول ما تلجأ إذا ضربها الدهر أو كربها القضاء، وأنها لتلتذ الحزن وتستديمه، وتوالي البكاء وتستطيله، وفاءً وحسرة، أو ضعفاً ورقة، ثم تنفس عن نفسها إن كانت شاعرة بمقطوعات تسكب فيها لوعتها أو حسرتها "([9]). وكأن الأدوار في الشعر مقسمة أيضاً بين الرجل والمرأة، حيث تسند وظيفة الكتابة عن الوطن إلى الرجل، وتسند إلى المرأة الرثاء وهذا يدخل في إطار توزيع المهام في المجال الشعري، قياساً على ما قامت به السلطة الذكورية من توزيع للأعمال التي تشمل جوانب الحياة العربية.
     يقول عيسى برهومة وكنتيجة توصل إليها في دراسته: " لقد أطبقت الدراسة على أن الاختلاف بين الجنسين مبعثه قيم المجتمع ومسطورات الثقافة، وليس العوامل الفسيولوجية والبيولوجية، ويعضد ذلك ما أجري من بحوث ودراسات في السلوك اللغوي والاجتماعي للجنسين "([10]).
     وإذا تأملنا شعر (الخنساء) وجدناه أبلغ دليل على أن المرأة تعكف على حزنها عند فاجعة الموت، فأكثر شعرها في رثاء أخويها ( صخر) و (معاوية)، وهي تكثر في هذا الشعر من مناشدة عينيها لكي تستمرا في ذرف الدموع حزناً على أخويها.
     ونص الرثاء النسوي يشتمل على: رثاء المرأة لذاتها، ورثاء المرأة للرجل، ورثاء المرأة للمرأة.     
     ولقد رثت فدوى طوقان أخاها والعديد من الشهداء والشهيدات. وكذلك فعلت العديد من الشاعرات خاصة أن الظرف الوطني يساعد على ذلك. حتى باتت الشاعرة نفسها تبدو مقتنعة بأن دورها يكون في الرثاء فهي مثل الخنساء، وأن الذكور في العائلة يريدونها أن تكون كالخنساء، تقول أنيسة درويش:
والله لو أنكرني/ كل ذي علم
ما عابني... وأنا/ شبيهة الخنساء
إذ قالها أخي/ وفَخْرُ أبي ( أنيسة درويش، وأهون عليك، الإهداء إلى أخي، ص 9)
     وتقول في نص (فجيعة) وقد شبهها أخوها بالخنساء:
شبهتني بالخنساء/ وإذ بي أفجع/ بما فجعت به/ الخنساء..
قتلتني/ وكنت موقنة/ بأن لعلتي/ فيك الدواء..
أبكيك دمعاً/ من ينابيع مقلتي/ حتى إذا جفت
تبكيك من قلبي الحزين/ دماء
كم كنت أرجو/ أن أكون /بديلة
ويكتب لك عني/ في الحياة/ بقاء ( أنيسة درويش، وأهون عليك، فجيعة، ص 92-93)
     وهي هنا ترثي أخاها الذي مات بعد أن ذهب إلى الغربة، وقد رثته في نص آخر بعنوان (رثاء أخي)([11]) يتلو النص السابق مباشرة.
     هذه المرثية تؤكد ما قلناه عن استغراق المرأة الشاعرة في مشاعر الحزن العميق، حيث نرى صوراً للألم بالغة القسوة، فالشاعرة كما ذكرنا كانت تتلهف على دواء لجراحها من مصائب الدنيا، وإذا بقلبها المجروح يطعن طعنة أخرى أليمة أيضاً، وهي لا تكاد تذكر أخاها موضوع الرثاء ذلك لأن الحزن أذهلها، ولم تعد تشعر إلا بالألم يغمر كيانها.
     وبهذا يكون الرجل نتيجة وضعه الاجتماعي السلطوي قد أوقف على نفسه كل ما يناسب رجولته في المجال الشعري من فخر، ومدح، وهجاء، وما شابهها. بينما أسند مهمة الرثاء إلى المرأة بحكم حرارة عاطفتها وحضور دمعتها التي عودها المجتمع عليها.
     ولا ترثي الشاعرة الرجال فقط، فلقد رثت (شهلا الكيالي) في نصها ( مرثاة مريم)، مريم ابنة الشهيد (أحمد جابر الحوباني) وقد هدأت بعد أن عانقت أسوار سجن عكا التي ضمت أباها أبا الوليد أكثر من عشرة أعوام لتحوم هذه الروح منتظرة حول أسوار سجن عسقلان التي ضمت أخاها (مجاهد) أكثر من سبعة عشر عاماً ومن ثم لتلحق هذه الروح ببارئها قبل أن يتحرر ابنها (عيسي تايه) من سجن جنيد الذي قضي فيه خمسة عشر عاماً، تقول:
        طفلة من شعاع الشمس/ بللها الندي
يتدلى خيطها/ من رماد الأرض حباة سنابل
والرحى تأتي وتمضي/ وجمار الملح نشوى
وانبثاق الروح يغمرها كطيف/ يفتح الباب ويمضي
لبحار تتجول/ صمتت تنسج اسماً
وسمت بالروح مريم / عند سعفات النخيل
وقف الإيقاع يوماً/ وشطوط الليل غطتها الظلال
أوغلت مريام في نفق العبور
روحها حامت يحاصرها الجفاف
بئرها غصن يحدق/  في هجير من غيوم
عيسها في الريح مسبحة يدور
يأكل الملح ويمضي/ ظامئ يمضي وحيداً
وشواطيها علي البحر تدور
ومضت مريام تبحث/ في خوابي الحزن عن عطش نيام
هدها الصبر/ وجدران السجون ( شهلا الكيالي، عندما الأرض تجيء، مرثاة مريم، ص42-43)
     4- الموت:
     وإذا كان بعض الشعراء يجعلون من قضية الموت فكرة فلسفية، فإن المرأة الشاعرة تقف أمام هذه التجربة بشعورها فقط، ومن هنا يتفجر حزنها عميقاً لأنه لا يعتمد على عزاء فكري. والموت كفكرة إذا سيطر على الإنسان أضاع كل الأفكار الأخرى، تقول (نوال السعداوي):عندما شعرت بأن الموت يقترب منها وهي في ولاية فلوريدا، بسبب العاصفة المسماة (هوريكين فلوريد)، والقادمة من المحيط بقوة لم تحدث منذ ثلاثين عاماً تهدد بتحطيم البيوت والأشجار، قالت: " لم أعرف أين أذهب، بقيت في البيت وحدي أتابع أخبار الهوريكين على شاشة التلفزيون وعيناي تتابعان حركة الرياح خارج النافذة تضرب الأشجار، تخيلت أن الشجرة الضخمة المجاورة للنافذة سوف تسقط على البيت تهدمه وأموت تحت الأطلال... أطرد من رأسي فكرة الموت بالهوريكين في ولاية فلوريدا، أفكر في الورقة التي أكتبها لمؤتمر المرأة في القاهرة، -ثم تقول_ إذا كان الموت يقترب لحظة بعد لحظة فلماذا أسرع بكتابة الورقة بعنوان التمرد والإبداع في حياة المرأة المصرية"؟ -وتقول-: "لكن فكرة الموت تطرد الأفكار الأخرى من رأسي"([12]).
     مع ذلك كان (شوبنهاور) يعتقد أن الموت نعيم لأنه يختم عذاب الإنسان. أما (نازك الملائكة) فقد كان الموت يلوح لها " مأساة الحياة الكبرى" حيث تقول. "لم تكن عندي كارثة أقسى من الموت، وذلك هو الشعور الذي حملته من أقصى أقاصي حياتي إلى سن متأخرة "، وتقول: "لقد بقيت أرفض مسألة فناء الإنسان أشد الرفض وأجد لها في نفسي حز السكاكين فأتعذب بفكرة الدود الذي سيأكلنا والجماجم التي سنصير إليها"([13]). وحكت (فدوى طوقان) كذلك في سيرتها الذاتية عن خوفها الشديد من الموت ومن الديدان التي ستأكل جسدها وهي التي تخاف من الديدان كثيراً.
     وترى (روز شوملي) أن الموت بأي شكل حدث، مأساة جماعية يشترك الجميع في ألمه، تقول في حديثها عن بسام الشكعة الذي تعرض لمحاولة اغتياله أدت إلى أن يفقد قدميه:
أحياناً نختار كيف نموت/ وأحياناً يختارنا الموت
وفي الحالتين/ الموت مذاق جماعي (روز شوملي، للحكاية وجه آخر، يتكسر ولا ينكسر، ص 17)
     ولكن (فاتنة الغرة) تصور الموت يمنحنا الحياة، وشعور الإنسان بأن الموت يقترب منه ويلاحقه يجعله يرى الحياة والجمال بكل ما يحيط به، تقول:
هو الموت ينقلنا للحياة/ ويمسح عنا غبار الأماكن/ والذكريات
هو الموت../ يعطى البلابل شدو الجراح
وينبت من مقلتي الأغاني/ ويزرع في بقايا المساء
هو الموت ../ يترك خلف النوافذ
كونا بلون الرذاذ الأخير من العاصفة
نساء بحجم الفراش المعبد فوق السحاب..
يطير فيرقد فوق المقابر درب الهوى..
وتضيع المسافة/ هو الموت ( فاتنة الغرة، امرأة مشاغبة جداً، حياة، ص33 )
     كررت فاتنة الجملة الاسمية (هو الموت) (3) مرات، في محاولة لتركيز انتباه الملتقي نحو بؤرة النص. أما (سهير أبو عقصة) داود فترى أن الموت هو الرجل والمجتمع الذكوري، تقول:
تفضل أيها الموت/ اعتل صهوة الجسد الصغير/ ولا تغادر
إنك منذ اليوم مولانا/ ومنذ اليوم/ لن تشرق الشمس بدونك
أغني لك يا سيدي الموت/ ألبس عباءتك السوداء
اكتب قليلاً عن الرثاء
عن العمر الذي مضى للريح ( سهير أبو عقصة داود، الخطايا العشر، أغاني الليل، ص71- 79)
     وتتساءل (روز شوملي) عن سبب تفوق الحزن الناجم عن الموت على السعادة القادمة مع ميلاد مخلوق جديد، تقول:
وضعت قذيفة صمتها على حائط/ رأينا كلنا الحدث
وضعت عصفورة عشها/ في المكان ذاته/ لم ينتبه أحد
لماذا يكون الموت
أوضح من شمس الحياة (روز شوملي، للنهر مجرى غير ذاته، مسألة نسبية، ص 13)
ثانياً: التجربة:
     حتى تتطور المرأة فإنها تحتاج بداية إلى وعي لذاتها، فالوعي معلم رئيس في تحديد اتجاه تطورها، ثم تنسيق الجهد النسوي وتدويله متجاوزة البعد المحلي أو الوطني. وكلما زاد وعي الإنسان (امرأة أو رجل) ارتفع هدفه في الحياة إلى المستوى الإنساني والرغبة في تطوير الحياة إلى الأفضل. ولا يقتصر هدفه في الحياة على الجسد أو استخدام أعضائه الجنسية أو ممارسة الجنس.
     ولقد كانت (فرجينيا وولف) كاتبة مهتمة بحالات الوعي على حساب العالم الخارجي والمشكلات الاجتماعية وهي ترى أن "النساء يحدقن في المشهد من الخارج بمعنى عميق من الناحية المجازية عبر النوافذ من الناحية الواقعية، وهن لا منتميات بمعنى عميق من الناحية المجازية، لأنهن محرومات من حق الانتماء الكامل لعالم الثقافة. وتقول: في كتابها(A room for her own) حين تلخص موقف (اللامنتمية): كم من البغيض أن يسجن المرء داخل غرفة، وكم هو أسوأ ربما أن يحرم من دخول غرفة مغلقة، إن اتساع مساهمة النساء في أشكال الكتابة المختلفة في مجالات المعرفة بأسرها، مؤشر على المدى الذي تتحرك فيه النساء خارج حدود إرغامهن على الصمت وقدرتهن على التعبير عن واقع جديد والتعريف بأنفسهن وهن يخضن صراعاً مريراً ضد القيم البطريركية التي تؤيد تبعيتهن، وتسعى إلى إبقاء هذا التأييد مشروعاً "([14]). وفي موقع آخر تقول:"إذا كان الشخص امرأة، فغالباً ما يذهلها الانفصام المفاجئ في وعيها وهي تسير في وايتهول مثلاً، حيث يتحول إحساسها بأنها الوريثة الطبيعية لتلك الحضارة إلى إحساس معاكس بأنها (لا منتمية) لتلك الحضارة، غريبة عنها ومنتقدة لها"([15]).
     يعتقد أولئك الذين يلجئون إلى التجربة الخاصة للمرأة بوصفها مصدراً القيم الأنثوية الإيجابية في الحياة والفن، بأنه ما دامت النساء وحدهن يعانين تجارب الحياة الأنثوية النوعية (الطمث، الوضع ) فهن وحدهن اللائي يستطعن الحديث عن حياة المرأة، يضاف إلى ذلك ما تتضمنه تجربة المرأة من حياة فكرية وانفعالية متميزة، فالنساء لا ينظرن إلى الأشياء كما ينظر إليها الرجل وتختلف أفكارهن ومشاعرهن إزاء ما هو مهم وغير مهم بدراسة التمثيل الأدبي لهن والاختلافات في كتابة المرأة. وقد أُطلق على دراسة التمثيل الأدبي لهذه الاختلافات في كتابة النساء اسم (النقد الأنثوي) gynocritics.
    وإن شعور المرأة في مرحلة مبكرة من الوعي، بسطوة الثقافة الذكورية السائدة، يضطرها إلى استخدام أساليب هذه الثقافة ومحاكاة إنتاجياتها في مواجهة هيمنتها، وتكتشف المرأة بتطور وعيها عبر الصراع أن الثقافة السائدة تتعامل معها كموضوع. وفي مرحلة نضج الوعي تتحدى كتابة النساء الأفكار الجاهزة والمسلمات. ويؤدي اتساع مشاركة المرأة في الفضاء الثقافي إلى ظهور صوت مغاير لصوت الثقافة السائدة ومن الطبيعي أن تشعر الثقافة السائدة بخطر هذا الصوت القادم الجديد المختلف.
     وبطبيعة الحال فإن الخبرة العملية الحياتية للنساء هي مصدر إلهام وقوة، من الممكن، إذا تم الاستناد إليها، أن تتحول إلى أداة تغيير للواقع بدلاً من أن تقتصر على كونها تعكس فقط الظلم الذي تعيشه النساء.
     وبتحليل كتابات المرأة نستطيع الوصول إلى شخصية المرأة وخصوصيتها، ومن ثم وضع نماذج جدية تستند إلى دراسة الخبرة الأنثوية، لا إلى تبني النماذج والنظريات الذكورية. ممن يطلق عليها اسم (فاقدات الخصائص النسوية) )gynocritics[16]).
     من هنا تكمن أهمية إشراك المرأة الفلسطينية بكافة القطاعات، في طرح مشكلاتها القانونية والاجتماعية والسياسية، وإشراكها أيضاً في طرح أفضل الحلول لهذه المشكلات على قاعدة الحوار والمشاركة، مقابل نظرية الإسقاط في الحاجات والأولويات كنظرية فشلت في التطبيق العملي، حيث إن مظاهرها السلبية تعانيها المؤسسات النسوية، كما المؤسسات الفلسطينية عامة.
     إن طرح الحلول الواقعية من خلال إشراك النساء سيكون بمثابة محاولة جدية للتغلب على ظاهرة العمل النخبوي، التي ميزت العديد من الفعاليات والأنشطة النسوية. وحتى لا نجلد أنفسنا كنساء، مفيد التنويه إلى أن ظاهرة تغييب المواطن عن المشاركة في طرح همومه ومشكلاته، وبالتالي أولوياته واحتياجاته، هي ظاهرة عامة تعانيه معظم المؤسسات الفلسطينية، سواء على المستوى الرسمي أم الشعبي.
     وقد رأت الكثير من النسوة أن النظرية النسوية المقنعة لا يمكن أن تنبثق إلا من تجربة المرأة أو من (لا شعورها)، أي أن على النساء أن يُنتجنَ لغتهنَّ الخاصة، وعالمهن المفهومي الخاص الذي ربما لا يكون عقلياً عند الرجل. ومع ذلك فإن (هيلين سيكسو) التي تمثل رسولة العالم النسوي والتي تعتمد اعتماداً بيناً على نظريات بارت ولاكان. تقول: "ومهما كانت الصعوبات فإن للنساء الحق في توكيد قيمهنّ، واستكشاف شعورهنَّ، وتطوير أشكال جديدة من التعبير تتطابق مع قيمهن وشعورهنَّ، ولا بد من إعادة تقييم قوانين الماضي الأدبية وإعادة تشكيلها، مع كل تغير في موازين القوى بين النقاد الرجال والناقدات النساء، ومع كل بروز في قضية الجنس في الجدالات النظرية"([17]).
     وخبرة الشاعرة تتوازى مع خبرة المرأة المثقفة، ومعاناتها هي المعاناة ذاتها. ولعل القضايا التي سأتعرض لها والتي توضح خبرات المرأة هي في الأصل قضايا المرأة المثقفة، وما تعانيه من عصاب، ناتج عن قهر وضغط المجتمع. ولذلك فإنني سأتناول منها: العنف، والحب والجنس، والمرأة والزمن، والحرية، والحزن، والقلق والأرق.
 1- العنف
     يمثل العنف عامة آفة البشرية الكبرى، والعنف سلوك مرفوض ومجرم في معظم الدول فهو مسألة ترجع إلى العنف الإنساني بشكل عام بين القوي والضعيف، وهو فكرة رمزية ولكن له انعكاسات سلبية على المجتمع وأمن وحقوق أفراده، وبالرغم أن العنف من الظواهر التي تمتد جذورها إلى حضارات كل الأمم والثقافات والحضارات بدءاً من جريمة القتل الأولى عندما قتل قابيل هابيل إلا أنه مع ذلك يظل سلوكاً مرفوضاً ومشيناً في معظم تداعياته. ويشكل العنف العائلي خاصة تهديداً خطيراً لحقوق الإنسان، خاصة: المرأة، والطفل، وكبار السن، والمعاقين الذين هم أكثر أفراد الأسرة عرضة للعنف فهم ضحاياه.
     في المنجد: العنف ضد الرفق: الشدة والقساوة، وهو خلاف الرفق، وعَنَفَ بالرجل وعليه، لم يرفق به وعامله بشدة، وعنّف عامله بشدة: لامه بشدة. وعند الساسة وعلماء الأخلاق، العنف: استعمال القوة في غير محلها. أو أي قول أو فعل يوجب الاشمئزاز عند الطرف الآخر. ويقابله الرفق وهو كما في كتب اللغة: المعاملة بلطف ولين الجانب. وفي الكتاب العزيز لم يذكر لفظ العنف على الإطلاق وربما لبشاعته ولأنه مرفوض في مجلاته كلها. فالعنف يتناقض تناقضاً صارخاً مع روح الدين الحنيف، فقد قال تعالى في كتابه الكريم" ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون"([18])، كما قال سبحانه وتعالى:" يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا"([19]). وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب الرفق ويعين عليه. وقال: ما اصطحب اثنان إلا كان أعظمهما أجراً وأحبهما إلى الله عز وجل أرفقهما بصاحبه.
     أما عالمياً، فلقد أقر الإعلان العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة الذي تبتنه الجمعية العامة في كانون الأول / ديسمبر 1993 ووافقت عليه جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة التعريف التالي لمصطلح العنف ضد المرأة: " أي فعل عنيف قائم على أساس الجنس. ينجم عنه أو يحتمل أن ينجم عنه أي أذى، أو معاناة جسمية، أو جنسية، أو نفسية للمرأة. بما في ذلك التهديد باقتراف مثل هذا الفعل، أو الإكراه، أو الحرمان التعسفي من الحرية. سواء أوقع ذلك في الحياة العامة، أو الخاصة".
     كما نص هذا الإعلان على وجوب أن يشمل مفهوم العنف ضد المرأة، على سبيل المثل لا الحصر، على ما يلي:
- العنف الجسدي والجنسي والنفسي الذي يقع في إطار الأسرة، بما في ذلك الضرب المبرح، والإساءة الجنسية للأطفال الإناث في الأسرة، والعنف المتصل بالمهر، والاغتصاب في إطار الزوجية، وبتر الأعضاء التناسلية للإناث وغيره من الممارسات التقليدية المؤذية للمرأة، والعنف خارج نطاق الزوجية، والعنف المتصل بالاستغلال.
- العنف الجسدي والجنسي والنفسي الذي يقع في الإطار العام للمجتمع، بما في ذلك الاغتصاب، والإساءة الجنسية، والتحرش والترهيب الجنسي في العمل وفي المؤسسات التعليمية وسواها، والاتجار بالمرأة والبغاء القسري.
- العنف الجسدي والجنسي والنفسي الذي تقترفه الدولة أو تتغاضى عنه حيثما وقع.
كما تعتبر الأشكال التالية من العنف ضروباً من الانتهاكات لحقوق المرأة الإنسانية:
- النساء في حالات النزاع المسلح، والنساء المهجرات واللاجئات.
- النساء اللواتي يتم استبعادهن عن مراكز السلطة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية.
- حالات التعقيم القسري والإجبار بالقوة على تناول موانع الحمل، وقتل الأطفال الإناث، واختيار جنس الطفل قبل الولادة.
- أفعال التهديد بالعنف سواء أوقع ذلك في المنزل أو في المجتمع بصورة عامة.
     وتعرف الباحثة سهير سلطي العنف بأنه " أي عمل أو تصرف عدائي أو مؤذ أو مهين      يرتكب بأي وسيلة وبحق أية امرأة، لكونها امرأة ويخلف لها معاناة جسدية أو جنسية أو نفسية، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ومن خلال الخداع أو التهديد أو الاستغلال الجنسي، أو التحرش أو الإكراه، أو العقاب، أو إجبارها على البغاء، أو أية وسيلة أخرى، أو إنكار وإهانة كرامتها الإنسانية أو سلامتها الأخلاقية، أو التقليل من شخصها ومن احترامها لذاتها وشخصها، أو الانتقاص من إمكانياتها الذهنية أو الجسدية، ويتراوح بين الإهانة بالكلام حتى القتل. كما يمكن أن يمارس ضد المرأة من قبل الأفراد أو الجماعات أو المؤسسات بشكل منظم أو غير منظم"([20])
     وفي المجتمع الفلسطيني تشير التقارير والإحصاءات المتداولة إلى انتشار ظاهرة العنف بشكل ظاهر(*[21])، وهناك العديد من التشريعات المجرّمة للعنف العائلي. بالإضافة إلى القوانين الأخرى التي تضمن حقوق الإنسان وحريته. 
     وعلى كل الأحوال فإن العديد من الدراسات والبحوث في مجال العلوم الاجتماعية والتربية وعلم النفس تؤكد على خطورة العنف وانعكاساته السلبية على الفرد في شخصه وعلى الأسرة في استقرارها وعلى المجتمع في نموه وتقدمه.
     والحقيقة أن العنف والتخلف صنوان، فالعنف هو الوجه الآخر للإرهاب والقهر اللذين يفرضان على الإنسان في المجتمع المتخلف. وقد جاء الإسلام ليقرر أن الناس جميعاً متساوون في الحقوق والواجبات. ولقد رفض عمر بن الخطاب رضي الله عنه العنف بقوله: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً".
      ولقد توالت جهود المجتمع الدولي في التصدي لظاهرة العنف عموماً والعنف العائلي على وجه الخصوص، وقد تجسد ذلك في الاتفاقية الدولية لمنع كافة أشكال التمييز ضد المرأة
(CDAW) والتي تبنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر 12/ 1997، والاتفاقية الدولية لحقوق الطفلC.R.C. ، واتفاقية تحريم الاتجار بالنساء والبالغات 7/12/1955، والاتفاقية الدولية بشأن جنسية المرأة المتزوجة.
     لقد كتب الكثير عن العنف الواقع على المرأة، بيد أن الأعم الأغلب قد صاغته أقلام ذكورية أو أقلام نسائية خاضعة لسلطة الثقافة الأبوية. وسأتناول من خلال شعر المرأة الفلسطينية تصويرها لما تعانيه من عنف فقد صورت الشاعرة الظلم الواقع عليها بفعل التقاليد والعادات، وحرمانها الحرية والانطلاق نحو الحياة. والقيود المفروضة عليها، ومعاناتها الشديدة التي تعيش بها. فالقهر مفروض عليها في بيتها، وفي المجتمع الخارجي.
     والمرأة الفلسطينية تعاني، كما الرجل الفلسطيني العنف السياسي، والاقتصادي جراء الاحتلال. كما تعاني من هَمْاً نسوياً شديداً يتجلى في العنف العائلي والذي تنقسم مظاهره إلى عنف جسدي، ولغوي ونفسي، وجنسي. ولكن الملاحظ على الشاعرات أنهن كن يغلبن مشاكلهن الشخصية والاجتماعية على المشاكل الاقتصادية والسياسية.
     وإزاء ما تتعرض له المرأة في هذا المجتمع الذكوري من عنف، تجد أنها لا بد من أن تطالب بحقها بقوة، وألا تتنازل عن أي حق لها، تقول ريتا عودة وبشكل مباشر وصريح(*[22]):
علمتموني/ أن الحق../ لا يعطي رحمة وشفقة!
إنما../ يؤخذ بالقوة!!! (ريتا عودة، ثورة على الصمت، الحقيقة، ص15)
     ولقد حاولت أن أستخرج ما صورته الشاعرات من عنف من خلال الذاكرة الأنثوية، متجاوزة من يتحدثن عن همومهن بطريقة ذكورية، يقول الدكتور عبد الله الغذامي: "ولذا سعت المرأة إلي إعادة اللغة المستلبة إلي ضمير الأنوثة، ولكن هذا غير ممكن الحدوث ما دامت الذاكرة اللغوية ذاكرة فحولة، ولذا رأينا جهوداً في تأنيث الذاكرة، وهذا لا يحدث بتلقائية وسهولة ووراء ذلك معاناة مع الذات والآخر ربما تجد الذات المؤنثة وقد صارت ضد أنوثتها"([23]).


([1]) عن علي عبد الواحد وافي، وأد البنات عند العرب في الجاهلية، مجلة الرسالة، ع 400، 3 مارس سنة 1941، ص264 267.
([2]) نوال السعداوي، المرأة والصراع النفسي، ص 32.
([3]) نوال السعداوي، قضايا المرأة والفكر والسياسية، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 2002، ص15.
([4]) زكريا إبراهيم: سيكولوجية المرأة، دار مصر للطباعة، القاهرة، د.ت.، ص83 94. ورجا سمرين: شعر المرأة العربية المعاصرة، ص117 120.
([5]) فريال جبوري غزول، بلاغة الغلابة، مؤتمر " الفكر العربي المعاصر والمرأة " ( جمعية تضامن المرأة العربية، القاهرة، في 3-5 نوفمبر، 1988).
([6]) نوال السعداوي، المرأة والصراع النفسي، ص3.
([7]) مريم الصيفي، عناقيد في سلال الضوء، تداعيات الحزن، ص 69-78.
([8]) عطاف جانم، لزمان سيجيء، المقدمة، ص 8.
([9]) أحمد محمد الحوفي، المرأة في الشعر الجاهلي، ص612.
([10]) عيسى برهومة، اللغة والجنس، حفريات لغوية في الذكورة والأنوثة، ص150.
([11]) أنيسة درويش، وأهون عليك، رثاء أخي، ص 94-95.
([12]) نوال السعداوي، قضايا المرأة والفكر والسياسية، ص13-14.
([13]) نازك الملائكة، مقدمة مطولة " مأساة الحياة وأغنية الإنسان"، دار العودة، 1970، ص 45.
([14]) رضا الظاهر، غرفة فرجينيا وولف، دراسة في كتابة النساء، 257- 258.
([15]) Virginia Woolf, A room  for her own, p. 88.
(3) Mary، Eaglton, Feminist literary Theory، p.195.
([16]) رامان سلدن، النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة جابر عصفور، ص216.
([17]) سارة جامبل، النسوية وما بعد النسوية، ص54.
([18]) الروم:21.
([19]) النساء:1.
([20]) المرأة العربية الوضع القانوني والاجتماعي، المعهد العربي لحقوق الإنسان، منشورات المعهد العربي لحقوق الإنسان، تونس، 1996، ص 380.
(*[21]) يمكن إرجاع العنف العائلي كما يحدث في المجتمع العربي الفلسطيني إلى جملة من الأسباب لعل من أهمها ما يلي:
 1.الوضع السياسي العنيف المفروض على الشعب الفلسطيني والقصف والاجتياح المستمر والأسر والتعذيب والتجريف، وردة الفعل المتمثلة بالانتفاضة وآثارها النفسية والسلوكية، والحصار المستمر والحائل دون تحقيق الأماني والأهداف وتوفير الحاجات الأساسية على الأقل، وما نجم عنه من مشاكل أسرية واجتماعية على جميع أفراد الأسرة، ونشوء العديد من الأزمات من جراء الوجود السابق للعدو الصهيوني في بلادنا وما خلفه من مشاكل أسرية ناتجة عن العمالة.
2. الوضع الاقتصادي المتدهور والصعب لبعض الأسر الأمر الذي يترتب عليه عدم مقدرة الأسرة أو نقص إمكانياتها في توفير حاجات أفرادها وغالباً ما ينشأ صراع بين الزوج والزوجة لعدم القدرة على توفير احتياجات البيت خاصة بعد قعود العمال عن العمل في إسرائيل وقد يتطور الصراع إلى نوع من الشجار والضرب وقد يسقط أحد الأبوين غضبه على أبنائه، أو على المعاق نتيجة صعوبة التعامل معه وتكاليفه، أو يسقطها الأبناء على آبائهم كبار السن غضباً لعدم قدرتهم على تحمل واجب رعايتهم والإنفاق عليهم. مما يؤدي إلى أحد أمرين إما الانكفاء على الذات أحياناً، وأحياناً أخرى إلى التماهي بالمعنف.
3.الوضع السكني ويرتبط بحالات العنف العائلي، حيث تبين أن الظروف السكنية الصعبة كضيق المنزل وكثرة عدد العائلات به حيث توجد الأسرة الكبيرة التي بها الجد والجدة والأبناء وزوجاتهم وأبناؤهم ولكل عائلة غرفة صغيرة حيث يقود هذا إلى حدوث نوع من = = الخلاف حول بعض المرافق، كالمطبخ ودورة المياه، واضطرار الصغار للبقاء طوال الوقت في الشوارع والأزقة الأمر الذي يترتب عليه الكثير من مظاهر العنف العائلي وخاصة ضد المرأة والأطفال وكبار السن.
 4. انتشار التخلف الاجتماعي ونقص الوعي الاجتماعي بحقوق الإنسان وبخطورة الممارسات العائلية العنيفة على الجو العائلي ودور الأسرة في التنشئة الاجتماعية وغيرها.
5. انخفاض المستوى التعليمي والأمية التي تؤدي إلى افتقار الأبوين إلى الإلمام بوسائل التربية الحديثة ولجوئهم إلى الضرب والتعنيف في التعامل مع أبنائهم عندما يخطئون. كما أن تفاوت المستوى التعليمي بين الزوجين، ورفض الرجل لأن تكون المرأة وبالأخص زوجته في درجة علمية أعلى منه، يخلق العديد من المشاكل.
6. استمرارية بعض عناصر الثقافة السائدة والتي تميز بين الذكور والإناث وتؤيد فكرة الضرب والمراقبة والتعنيف.
7. وجود حالات من المرض النفسي بين بعض أفراد الأسرة، حيث يتميز بعض من يلجئون إلى العنف عموماً والعنف العائلي على وجه الخصوص بسرعة الغضب وعدم التحكم في مشاعر الغيظ وسرعة الانفعال بسبب ضغط نفسي متعدد الأسباب.
8. وجود نوع من صراع القيم بين الأجيال داخل الأسرة الواحدة، حيث يتبنى الآباء قيماً تقليدية محافظة في حين يميل الأبناء إلى تبني قيم متحررة وبالتالي يميلون إلى التمرد ورفض قيم الآباء الأمر الذي يؤدي إلى نشوب الكثير من الخلافات التي ينجم عنها ممارسات عنيفة ضد الأبناء في الأسرة.
9. يتسبب تعاطي أحد الأبوين للخمور والمخدرات وإدمانها كثير من المشاجرات العنيفة والاعتداء بالضرب نتيجة لتأثير المادة المسكرة أو المخدرة.
10. مشاهدة أشرطة العنف في الإذاعة المرئية، وقد وجد أن الأطفال الذين يشاهدون أشرطة العنف غالباً ما يقلدونها ويكتسبون سلوكيات عدوانية.
11. تقليد الأطفال للسلوك العنيف الذي يقوم به آباؤهم أو مدرسوهم. ( ميّ عمر نايف، من مقال بعنوان: العنف العائلي في المجتمع الفلسطيني- الدوافع والإجراءات الوقائية والعلاجية - والذي عرض في مؤتمر لمعالجة العنف العائلي في قطاع غزة، والمنشور في موقع "أمان" على الانترنت).
(*[22]) وهي تكرر في نص آخر وبكل مباشرة ووضوح:
منذ الآن
أعلمك
أن الحق..
لا يعطى شفقة..
إنما يؤخذ عنوة!. (ريتا عودة، ثورة على الصمت، ثورة على الصمت، ص17)
([23]) عبد الله الغذامي، المرأة واللغة، ص 12.

Post a Comment

Previous Post Next Post