قيود الملكية الفردية:
إن تفاوت الناس في امتلاك الثروة أمر يقره الإسلام، لأن ذلك من مقتضى بقاء الكون وبناء العمران .

وإلاّ فمن ينكر تفاوت الناس في عقولهم وفي قوة أجسادهم وفي طموح بعضهم وقناعة بعضهم الآخر؟
ولو كان الناس يتساوون في امتلاك الثروة ورأس المال، لتعطل الكون وتوقف العمران ، ولم يعد الناس يحتاج بعضهم إلى بعض، ويؤيد ذلك قوله تعالى:  نحن قسمنا بينهم معيشتهم  في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخريا ، ورحمة ربك خيرُ مما يجمعون  ( ).

لكن ليس معنى امتلاك الثروة وإقرار الملكية الفردية أن يستغلها الإنسان لاستغلال أخيه الإنسان أو أن يستغلها فيما حرمه الله تعالى عليه.

ومن هنا جاءت القيود التي وضعها الإسلام على الملكية الفردية. فالمال أولاً: وقبل كل شي مال الله . قال تعالى:  وآتوهم من مال الله الذي آتاكم  ( ). فنسب المال إليه تعالى.

والإنسان ما هو إلا مستخلف على هذا المال، يسيره كيفما أراد الله تعالى.

** يقول المفكر الإسلامي الكبير أبو الأعلى المودودي حول التفاوت:
إن الله تعالى خلق الخلق ولم يجعلهم سواسية في تقسيم النعم والأيادي، بل فضل بعضهم على بعض لحكمته ومشيئته، فهذا التباين بين العباد ظاهر في حسنهم وجودة أصواتهم وقواهم الجسمية وكفاءتهم العقلية، وهكذا أمر الرزق شأنه كشأن المواهب الأخرى، قال تعالى:   والله فضل بعضكم على بعض في   الرزق  ().

ثم يقول المودودي راداً على الشيوعية: ( إن كل مشروع يختار ويدبر أمره لإيجاد المساواة الاقتصادية المدعاة بين العباد باطل من أساسه، حسب ما يراه الإسلام؛ لأن الإسلام لا يقول بالمساواة في الرزق نفسه، وإنما يقول بها في فرص الجد والسعي في اكتساب المعاش والتماس الرزق، والغاية التي يقصدها الإسلام ألا يبقى في المجتمع البشري حواجز وعقبات قانونية أو تقليدية، تعوق الإنسان وتقعده عن بذل جهده واستطاعته في سبيل اكتساب الرزق حسب ما أولاه الله من القوى والمواهب) ( ).

** ثـانياً : من قيود الملكية الفردية
يشترط فيها أن لا تتعارض مع النصوص الشرعية التي قيدت الملكية الفردية.
أولاً: بعدم الإضرار بمصلحة الآخرين وبحقوقهم وحق الصالح العام، ولذلك يمنع الشخص الذي يريد الإضرار بالآخرين بالتي هي أحسن وإلا بالقوة، ودليل ذلك: عن سمرة بن جندب: أنه كانت له عضد من نخل في حائط رجل من الأنصار، قال: ومع الرجل أهله، قال: فكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به ويشق عليه، فطلب إليه أن يبيعه فأبى، فطلب أن يناقله،  فأبى. فأتى النبي- - فذكر ذلك له، فطلب إليه النبي- - أن يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يناقله فأبى، قال: فهبه له ولك كذا وكذا فأبى، فقال: أنت مضار، فقال رسول الله- - للأنصاري: "اذهب فاخلع نخله " ( ).
** عدم الإضرار بالآخرين على حساب المصلحة الشخصية:
وقد تكلم الفقهاء- رحمهم الله- عن ما يسمى (حق الانتفاع)، فهذا ابن رجب يقول:
(منها وضع الجار خشبة على جدار جاره إذا لم يضر به، لقوله :           "  لا يمنعن جار أن يغرز خشبته على جدار جاره  " ( ).

ومنها: إجراء الماء في أرض غيره، إذا اضطر إلى ذلك كما قضى به عمر، ومنها: إذا احتاج أن يجري ماءه في طريق مائه، مثل أن يجري مياه سطوحه أو غيرها في قناة لجاره، أو يسوق في قناة عذبة ماء ثم يقاسمه جاره) ( ).

**  وقال القاضي- أبو يعلى- في الأحكام السلطانية:
( فإن نصب المالك تنوراً في داره فتأذى الجار بدخانه أو نصب في داره رحى، أو وضع فيها حدادين أو قصارين فهل يمنع من ذلك؟

قد روى عن الإمام أحمد ألفاظ تقتضي المنع، فقال: في رواية عبد الله في رجل بنى في داره حماماً، أو حُشّاً يضر بجاره، قال النبي- - " لا ضرر ولا ضرار " ( ).

حتى إن للمحتسب منع استعمال المواشي فيما لا تطيق. ويمنع أصحاب السفن من حمل ما لا تقدر عليه) ( ).
ثـانياً :
(عدم الاعتداء على الملكية العامة):
هناك نوع آخر من أنواع الملكية هي الملكية العامة وهي أملاك المجتمع. فالدولة مثلاً تملك كثيراً من المؤسسات قد تكون للإنتاج السلعي أو مرافق خدمة عامة كمرافق المياه والتنقل والمستشفيات ونحو ذلك.

ولقد حمى عمر أرضاً  بالربذة وجعل ما بها للفقراء يرعون بها ماشيتهم ( ). ويقول : " الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ، والنار" ( ). فالأنهار ملكيتها عامة، والحشائش البرية كذلك.

واحتجز عمر الأرض المفتوحة عنوة بالعراق ولم يوزعها على المجاهدين بل حبسها للصالح العام ( ).
 
** ثالثـاً:
(تحريم الكنز وحكمة ذلك):
يمنع الإسلام المسلم أن يكنز المال دون أن يؤدي فيه حقوقه، من مثل أداء الزكاة ونحوها. وذلك أن هذا الكنز بدون مبرر تكديس لهذه الثروة التي من المفروض أن تنزل الأسواق لتحركها وتزيد بالتالي من الإنتاج في الدولة الإسلامية.

قال الله تعالى:  والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون  ( ).
وقد بين ابن عمر هذا المعنى في هذا الحديث:
 ( قال له أعرابي: أخبرني عن قوله تعالى: والذين يكنزون الذهب      والفضة، قال ابن عمر: مَنْ كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له. وإنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت جعلها الله طهراً للأموال) ( ).

وقد روى أبو داود عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآيةوالذين يكنزون الذهب والفضة  قال كبر ذلك على المسلمين، فقال عمر: أنا أُفِّرج عنكم، فانطلق فقال: يا نبي الله ، إنه كَبُر على أصحابك هذه الآية، فقال: إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم، قال: فكبّر عمر)  ( ).

وأما ما روي عن أبي ذر في تفسير الآية:  والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليممن أنه لا يجوز للمسلم أن يبيت في بيته ولديه فضل من المال إلا وزعه على إخوانه من المسلمين.
فيقول القرطبي:
( يحمل على أن الآية نزلت في وقت الشدة، وضعف المهاجرين وقصر يد رسول الله- - عن كفايتهم، ولم يكن في بيت المال ما يسعهم. وكانت السنون الجوائح هاجمة عليهم فنهوا عن إمساك شيء من المال إلا على قدر الحاجة. ولما فتح الله على المسلمين ووسع عليهم أوجب-- الزكاة فكان ذلك منه بياناً لما أجمل في الآية) ( ).

** رأي الشيخ الشنقيطي تجاه رأي أبي ذر- رحمه الله- في تقسيم الفائض من المال:-
يقول: ( إن أبا ذر صاحَبَ الرسول - في أول الدعوة ، عندما كان الرسول -  - يؤاخي بين المهاجرين والأنصار ويدعو إلى ذلك ولما كثر الخير وزادت موارد الدولة الإسلامية، وفرضت الزكاة زاد غنى كثير من الصحابة واقتنوا الأموال الطائلة من مصادرها المتعددة.

وكان معظم وقت أبي ذر في الأيام الأخيرة من حياة الرسول-  - يعيش في البر، وهذا مما دعاه إلى إعلان مذهبه في توزيع الفائض من الحاجة، ولكن لم يوافقه الصحابة على رأيه إنهم فهموا من الأدلة والوقائع في عهد الرسول-  - ما لم يفهمه أبو ذر- رضي الله عنه وأرضاه-) ( ).

** وأما ما روي عن علي- رضي الله عنه- قال: مات رجل من أهل الصفّة فوجد في بردته دينار أو درهمان فقال رسول الله- -   " كيتان صلوا على صاحبكم " ( ).

** يقول القرطبي: ( هذا إما لأنه كان يعيش من الصدقة وعنده التبر، وإما لأن هذا كان في صدر الإسلام ثم قرر الشرع ضبط المال وأداء حقه. ولو كان ضبط المال ممنوعاً لكان حقه أن يخرج كله وليس في الأمة من يلزم بهذا. وحسبك حال الصحابة وأموالهم- رضوان الله عليهم- وأما ما ذكر عن أبي ذر فهو مذهب له رضي الله عنه) ( ).

حتى الصحابة اختلفوا في المراد بآية الكنز:
**  فذهب معاوية إلى أن المراد بها أهل الكتاب- وإليه ذهب الأصم، لأن قوله:
 ( يكنزون) ، مذكور بعد قوله: ( إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليكلون أموال الناس بالباطل) .

* وقال أبو ذر وغيره: المراد بها أهل الكتاب وغيرهم من المسلمين. وقد رجحه القرطبي لأنه قال: ويكنزون- فقد استأنف معنى آخر يبين أنه عطف جملة على جملة وهو مرفوع على الابتداء.

* قال السدي: عنى أهل القبلة ( ).

الراجح في نظري:
أن ما أدّي زكاته ليس بكنز لما سبق من الأدلة. ولأن هذا المال المكنوز متى ما أديت زكاته فالزكاة كفيلة بإفنائه في يوم من الأيام. ولذلك سيبادر إلى تنميته وإخراجه.
*****   *****    *****
رابعـاً :
(إخراج زكاة الأموال المتعددة):
تعريف الزكاة:
لغـةً : النماء والزيادة- يقال زكا الزرع: إذا نما وزاد.
شرعاً : حق واجب في مال خاص، لطائفة خاصة، في وقت خاص.
وتجب الزكاة في سائمة بهيمة الأنعام، والخارج من الأرض والأثمان وعروض التجارة مما هو مفصل في الفقه ( ).
** أهمية الزكاة على الأموال النامية:
تعتبر الزكاة إحدى دعائم الإسلام الخمس، التي لا يكتمل إسلام المرء إلا بها. فهي الفريضة والعبادة الثانية بعد الصلاة، وفي ذات الوقت حق اجتماعي مثلما أنها فرض تعبدي.

وإذا كان فقهاء الشريعة يذكرون الزكاة في باب العبادات باعتبارها شقيقة الصلاة، فإنها تعد في الحقيقة جزءاً من النظام الإسلامي المالي والاجتماعي تهدف إلى تحقيق غايات كبرى لها آثارها الفعالة في البنيان الاجتماعي والاقتصادي.

** فمن آثـارها:
أن لها دوراً في محاربة الفقر والعوز في داخل الدولة الإسلامية لأنها تؤخذ من الأغنياء وترد على الفقراء.

* قال   لمعاذ: " وأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم " ( ) " ().

* ومن آثـارها:
غرس حب البذل والعطاء لدى المسلم، بحيث تنغرس فيه صفة الكرم الذي دعا إليه الإسلام. وتبتعد عنه صفة البخل، هذا الداء الكريه الذي يدعو الإنسان إلى اكتناز أمواله، وعدم إخراجها إلى المجتمع بأية صورة.


* ومن آثارها:
زرع المحبة وابتعاد الحسد والبغضاء في نفوس الفقراء تجاه الأغنياء والعكس بحيث تشيع في نفوس الجميع الرضا والطمأنينة. فالفقراء تهدأ نفوسهم لما يرون من العطف والبذل من قبل الأغنياء. والأغنياء يأمنون جانب هؤلاء الفقراء فيتجهون إلى الكسب والعمل دون خوف إلا من الله تعالى ( )، وتعود مرة ثانية في دولاب الإنتاج عن طريق الفقراء.

* ومن آثارها:
تفتيت الثروات حتى لا تتكدس ويضطر أصحابها إلى اكتنازها وذلك يضطرهم إلى إخراجها إلى المجتمع لتأخذ هذه الأموال دورتها الحقيقية، ومهمتها الأصلية، حتى لا تفنيها عليهم الزكاة ( ).

** خامسـاً :
(تحريم الربا):
وذلك من القيود التي تفرض على صاحب المال، فليس له الحق أن يدعي الحرية بأمواله بحيث يرابي بها مع الناس، لأن المال في الأصل مال الله، وهو مستخلف فيه، وليس له الحق أن يخالف أمر المالك الأصلي- وهو الله-. قال تعالى: ( وأحل الله البيع وحرم الربا ) ( ). وقال : " لعن الله آكل الربا وموكله " ( )..
وفي تحريم الربا أكبر فائدة للإنتاج، حيث يظل مستمراً لا تتخلله الهزات الاقتصادية، كما هو واقع البلاد الرأسمالية، ومن يحذو حذوها في التعامل الربوي.

** سادسـاً :
(تحريم الاحتكار):
كذلك ليس المسلم حراً في رأس ماله، بحيث يتصرف به على حساب مصلحة إخوانه المسلمين، ومن هنا ودعماً للإنتاج- واستمراريته- حرم الاحتكار بأنواعه التي ذكرها الفقهاء- كما سيأتي مفصلاً في مكانه-.
وقد قال : " لا يحتكر إلا خاطئ " ( ). إذ يجب أن يبقى رأس المال في خدمة الفرد والجماعة متحركاً في كل لحظة من لحظات الزمن، لا يوقفه احتكار ونحوه .

** سابعـاً :
(الدعوة إلى الاقتصاد وعدم التبذير والإسراف):
لأنه بقدر ما تلجأ الأمة بمجموع أفرادها إلى الاقتصاد وعدم التبذير والإسراف، يعود هذا المال المبذر والمسرف فيه إلى خزانة الدولة، ومن ثم يعود مرة ثانية يحرك دولاب اقتصاد الأفراد.
وبقدر ما تصاب الدولة بمجموع أفرادها بالترف والإنفاق بغير حاجة أو في معصية الله، تصرف هذه الأموال إلى حاجات تافهة، لا تفيد الفرد ولا الجماعة.

** مثـال:
رجل وأسرته، عددهم ستة أشخاص، يستهلكون في الأسبوع عشرة أكيال طماطم، وعشرة كيلو تفاح، وعشرة كيلو خيار، لكنه تعمد أن يأخذ ضعف هذه الكمية، فالنتيجة الحتمية أنه سيلقي نصف هذه الخضراوات في صندوق القمامة، ومن هنا حرم الإسراف. قال تعالى: ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا ) ( ).
- قال مجاهد:  ( لو أنفقت مثل أبي قبيس ذهباً في طاعة الله ما كان سرفاً، ولو أنفقت صاعاً في معصية الله كان سرفاً  ).
وهذا على من فسر الإسراف بأنه الإنفاق في معصية الله تعالى، ولكن التفسير الأول أظهر( ).

** وقال تعالى محذراً من الترف والإسراف في غير الطريق الشرعي:      ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها  تدميرا )  ().
وعلى القراءتين: (أمرنا) مترفيها، أو ( أمّرنا ) مترفيها. فيكون الترف سبباً للفسق الذي يستحقون من أجله التدمير- أعاذنا الله- ( ).

** يقول سيد قطب: ( إن الآية تقرر سنة الله في الكون، فإذا قدر لقرية أنها هالكة لأنها أخذت بأسباب الهلاك، فكثر فيها المترفون، فلم ندافعهم ولم يؤخذ على أيديهم سلط الله هؤلاء المترفين ففسقوا فعمهم الله بالهلاك والجدب والفقر وغير ذلك) ( ).

** وقوله تعالى: ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) ( ).
قال ابن عباس: (أحل الله في هذه الآية الأكل والشرب ما لم يكن سرفاً أو مخيلة).
وأما ما يحفظ النفس عن الهلاك فمندوب إليه عقلاً وشرعاً، ومن هنا نهى الإسلام عن الوصال في الصوم، لأنه يضعف الجسد ويميت النفس ويضعف عن العبادة.
أولا تسرفوا : في كثرة الأكل والشرب، فعلاوة على ما في ذلك من الترف فإنه يثقل المعدة ويثبط الإنسان عن خدمة ربه، وكان قد أسرف في مطعمه ومشربه ( ).

وقد وصف الله المسرفين بأنهم إخوان الشياطين في قوله تعالى: ( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ) ( ).

** التوسع في معنى الإسراف الممنوع في الإسلام:
والإسلام لا يقصر الإسراف المحرم على الطعام والشراب، بل يجعله عاماً في جميع الأشياء التي تنفق دون أن يستفيد منها الفرد والجماعة.
ومن ذلك مثلاً:
ا- الإسراف بالوضوء، وصب الماء لغير حاجة، قال : "لا تسرف ولو كنت على نهر جار" ( ). وكان   ( يغتسل بصاع، ويتوضأ بمد ) ( ).
2- ومن الإسراف كذلك زيادة الثوب أكثر من الكعبين. فعلاوة على ما في ذلك من دواعي الكبر أحياناً، فإن في ذلك إسرافاً بإتلاف الثوب، حيث يتعرض للبِلَى  بسرعة بسبب ملامسة الأرض باستمرار، وفيه زيادة لا حاجة إليها لمن يرتديه.
3- الإسراف بالنفقة على النفس أو على مَنْ يعول : ولذلك دعا الإسلام إلى الاقتصاد في ذلك. يقول الرسول- -: " من الفقه الاقتصاد في المعيشة " ( ).

** النهي عن الإسراف في الكفن:
عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله- -: " لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سريعاً " ( ).
 

** " الفرق بين الترف والإسراف المحرمين والتزين المباح:
الترف المنهي عنه مرتبط بالبذخ والمغالاة والبطر والاستعلاء، ولذلك نهى الإسلام عن لبس الذهب والفضة والحرير على الرجال، لما في ذلك من الإسراف والترف.

بينما التزين المباح مرتبط بشكر الله على نعمه، فالإسلام يدعو إليه. قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين * قل مَنْ حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) ( ). وقال تعالى: ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) ( ).
وقال رسول الله : " إن الله جميل يحب الجمال، الكِبْر بطر النعمة وغمط الناس " ( ).
** موقف الأنظمة الوضعية من الإسراف والترف:
في بعض البلاد الغربية يصل الأمر إلى إحراق وإغراق وإتلاف الفائض من المحصولات الزراعية من الفواكه والخضروات ونحو ذلك.

فلكي يتوازن العرض مع الطلب في أسواق البلاد الرأسمالية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وكنذا، فإنهم يعمدون إلى الفائض من القمح والذرة والبن والخضروات والفواكه، ويلقونها بالبحر أو بالبر للحرق، لكي لا يكسد الإنتاج وحتى يحافظ الإنتاج على مستواه وسعره.

** وإليك هذه القصة تحكي ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، بسبب الابتعاد عن منهج الله وتحكيم الأنظمة الوضعية:

* فالقانون الأمريكي ينص على السماح للمزارعين الأمريكيين أن يحددوا كمية المحصول الذي يطرح في الأسواق، من ثمار البرتقال ويسمح لهم أيضاً بإلقاء ما يزيد عمّا  يريدون تسويقه أو بيعه بأنفسهم إلى النفايات أو إلى أعماق البحار.

كل هذا من أجل ضمان أعلى سعر يحددونه هم أيضاً بأنفسهم طبقاً لقاعدة العرض والطلب.

** وبناء على ذلك قررت إحدى المزارع الكبيرة في أمريكا إلقاء ما يقرب من 700 ألف طن من البرتقال الطازج في الصحراء كي تتعرض لحرارة الشمس وتتلف ويُحرم على الإنسان أن يقربها إلا ليدوسها بقدميه.

وقد التقطت- لوزير الزراعة الأمريكي- صورة حية وهو يدعس على البرتقال، نشرتها جريدة الرياض- مشكورة -. ولما سُئل مدير إدارة الزراعة في "سان فرنسيسكو" لماذا لا توزع هذه الأطنان من البرتقال على الفقراء والمساكين من شعوب العالم؟ أجاب بقوله: ( يمكنهم شراء الفيتامينات من الصيدلية ولا داعي لأكل هذا البرتقال) ( ).

** الآثار التي تترتب على الإسراف :
ا- سحب كمية كبيرة من المواد الاستهلاكية، فلربما تسبب في رفع السعر، ومعروف مَنْ  يتضرر في هذه الحالة. فهم الفقراء وأصحاب الدخل المحدود.
2- هذا الفائض من المواد الاستهلاكية الموجودة عنده سيكون مصيره صناديق القمامة ومن ثم لا يستفاد منه.
3- الأولى بهذه النقود التي صرفت لهذه المواد الاستهلاكية الفائضة أن توجه للمواد الإنتاجية، كإنشاء المصانع وتسهيل المزارع وتحريك التجارة بدل صرفها بما لا فائدة منه.
 4- يضطر المنتجون للمواد الاستهلاكية على التركيز عليها لإرضاء أذواق المترفين.

** ومن ثم تحصل عدة مشاكل:
ا- حرمان الطبقة الفقيرة من المواد التي تناسبهم، من حيث قلة التكاليف، حتى تناسب دخولهم الفردية.
2- ينصرف المنتجون عن التركيز على الإنتاج المثمر بسبب عدم حصولهم على أرباح قريبة المدى.
3- تركيزهم على الإنتاج الاستهلاكي قريب الربح بسبب المترفين الذين لا يهتمون بدفع النقود ولو كانت طائلة ( ).


** ومن الآثار السيئة كذلك:
أن الترف يمحق الاستثمار ويستنزفه من جهة ويعوّد أصحابه الكسل والبطالة. وعادة ما يقف المترفون والمسرفون أمام دعاة الحق والعدل والسلام. ويستعينون بهذه الأموال الزائدة على الفسق.

قال تعالى: ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا )  ( ).

ولذلك وعندما لا يكون هناك إسراف ولا ترف، تزيد الأرصدة اللازمة للاستثمار وتتوافر رؤوس الأموال التي نستطيع بها تحقيق الكثير من المشروعات المفيدة، زراعية أم صناعية، أم تجارية. ونتيجة حتمية لتوازن العرض مع الطلب تكون زيادة النماء واستمرار ضمان الحاجات الأساسية لكل فرد في الدولة.

*****   *****   *****
ثامنـاً :
(الحَجر):
وهو في اللغة: التضييق والمنع، ومنه سمي العقل حجراً .
وشرعاً : هو منع إنسان من التصرف في ماله.

وينقسم إلى قسمين:
ا- حَجر لحق الغير: كالحَجر على المفلس.
2- القسم الثاني: الحَجر لحق النفس، كالحَجر على الصغير- والسفيه والمجنون-إذ المصلحة تعود عليهم.
ويكون الحَجر عليهم في ذممهم وأموالهم. ويرفع الحَجر عن الصغير ببلوغه خمسة عشر عاماً.  لما روي عن ابن عمر قال: (عرضت على النبي- - يوم أُحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني ) متفق عليه ( ) ، ().

* ويرفع الحَجر عن المجنون بمجرد أن يعقل. ويرفع الحَجر عن السفيه بمجرد الرشد. قال تعالى: ( ماله فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم )   ( ). والحَجر لا ينفك عنهم حتى ترتفع عنهم الصفات: من جنون وسفه، ولو صاروا شيوخاَ وهو الراجح من أقوال العلماء.

بم يعرف صلاحهم؟
الرشد عبارة عن الصلاح في تدبير المال. لقول ابن عباس في قوله تعالى:   ( فإن آنستم منهم رشداَ فادفعوا إليهم أموالهم ) ( )، ففسر الرشد بأنه الصلاح في تدبير المال. والدليل على ذلك أن يتصرف مراراً  فلا يغبن ولا يبذل ماله في حرام كخمر وآلات لهو ونحو ذلك ( ).

** يقول زين الدين بن عبد العزيز- تلميذ ابن حجر الهيثمي الشافعي-: (فصل: يحَجر على المجنون إلى إفاقته، والصبي إلى بلوغه، بكمال خمس عشرة سنة). وإذا بلغ الصبي رشداً أُعطي ماله.
ثم تكلم عن الرشد: وبيّن أنه الصلاح في الدين وإصلاح المال بما يعود عليه بالفائدة، بحيث لا يبذر المال باحتمال غبن فاحش في المعاملة وإنفاقه في محرم.

ثم يقول: ( إنه بعد إفاقة المجنون وبلوغ الصبي رشيداً يصح منه التصرف المالي).

ثم تكلم عن أحسن الطرق لاستغلال مال القاصر فقال:
( إن ولي الصبي الأب، فأبوه وإن علا، فوصي، فقاضي بلد المولى، يتصرفون بمال القاصر بالمصلحة ويلزمهم حفظ ماله واستثماره قدر المنفعة والزكاة والمؤن)( ) .

*****   *****   *****
تاسعـاً:
(ا لميراث):
لم يجعل الإسلام الملكية الخاصة مقصورة على صاحبها، ولهذا قرر انتقالها  - بعد وفاته- إلى الأشخاص الذين تكون حياتهم امتداداً لحياته. أو يكونون مرتبطين به بحقوق وواجبات: وهم الأولاد والزوجة والأقارب.

** ويقول   : " مَنْ  ترك مالاً أو حقاً فلورثته " ( ). ولا يجوز لمسلم أن ينكر أن الأموال تنتقل بعد وفاة الشخص إلى ورثته. ومَنْ أنكر ذلك فقد أنكر أمراً أجمع عليه المسلمون، وعلم من الدين بالضرورة، وهذا يخرجه من حظيرة الإسلام.
وقد تولى الله قسمة المواريث من فوق سبع سماوات ( ).

** دور الإرث في دعم الإنتاج:
يقول محمد المبارك:
(تبدو لنا حكمة الإرث في استقرار الأسرة واستمرارها، وفي تفتيت الثروة وتوزيعها وهو بذلك حافز للإنسان للاستمرار في العمل، إذا علم أن الثروة ستؤول إلى أهله وأُسرته ولولا ذلك لقل نشاطه في حال كبره، أو استغنائه ولعمد هو وأهله إلى تبديد الثروة إذا كبرت سنه) ( ).
 

ونظام الميراث له آثار اقتصادية بعيدة المدى، فهو يؤدي إلى تفتيت الثروة تفتيتاً هادئاً ومستمراً، بلا عنف أو ثورة. فيمنع ذلك من تضخم الثروات وتركيزها في أيدي فئة قليلة من أفراد المجتمع، وهو أحد العيوب الأساسية التي يعاني منها النظام الرأسمالي، نظراً لما يؤدّي إليه من تفاوت كبير في الدخول.

فالإسلام لم يجعل التركة خاصة على الذكور فقط، ولا على الابن الأكبر، كما فعلت بعض القوانين الوضعية ( ).

** يقول المودودي:
( إنه في النظم الرأسمالية: لا تتوزع الثروة عن طريق الإرث إلى أجزاء صغيرة إنما تنتقل بكاملها من شخص إلى عدة أشخاص يعدون على رؤوس الأصابع، أحياناً يكون الولد الأكبر فقط) ( ).

*** ***   *** ***

    عاشـراً :
(الطرق الشرعيةلإكتساب الملكية الفردية):
يمكن إيجازها في قواعد عامة مستنبطة من الكتاب والسُّنَّة وأقوال الفقهاء:
أولاً: التملك نتيجة الجهد الشخصي:
كالعمل بأنواعه المشروعة، من زراعة وصناعة وتجارة وصيد واحتطاب، وأنواع العقود كبيع وإجارة ومضاربة وشركة ونحو ذلك.

ثانياً : التملك بحكم الشرع من غير جهد:
وذلك لمصلحة متحققة وحكمة طاهرة. كالنفقة والميراث ولاستحقاق من بيت المال والزكاة، وجائزة السبق والرهان ( ).

ثالثاً : التبادل بين الملكيات ونحو ذلك:

** الباقي من الأموال بعد مصارفه المستحقة:
يقول أبو الأعلى المودودي: ( هو بالخيار إما أن يجمعه ويدخره، وإما أن يقبله في وجوه الكسب والتجارة، بقصد الاستزادة والاستكثار.

إلاّ أن الإسلام وضع له حدوداً في كلتا الحالتين، فإن أراد الجمع فعليه أن يؤدي في كل سنة زكاة إن بلغت هذه الأموال النصاب. وإن أراد قلبها في الزراعة والصناعة والتجارة فلا يجوز أن يقلبها إلا فيما أحل الله من طرق الكسب بهذه الأشياء.
وإن صار بعد ذلك ثرياً لديه أموال طائلة فلا ضير عليه في نظر الإسلام. إذ هي نعمة أنعمها الله عليه وأكرمه بها. ثم إن هذه الثروة الطائلة التي قد جمعت ضمن هذه الحدود المباحة لها يوم ستتفتت فيه وتعود إلى أجزاء صغيرة، وذلك عن طريق الإرث، حيث يوزع على أقارب الميت فور وفاته، ونلاحظ أنه إن لم يكن له ورثة انتقلت أمواله إلى بيت مال المسلمين لتعود وتنفع المسلمين مرة ثانية.

وهكذا يتبين لنا أن علاج الإسلام لرأس المال هو الأصلح، حيث أباح للمسلم حق امتلاك رأس المال. لكنه قيده بقيود تنعكس فوائدها عليه وعلى المجتمع.

فهو يشبع غريزة الإنسان في التملك ويبيح له حرية ممارسة الحقوق التي للفرد على ملكه، وفي الوقت نفسه يمنع من سؤ استغلال الملك بالتشريع الملزم والتوجيه الصحيح وتربية أفراد المجتمع ليعتبروا المال وسيلة لا غاية، والملكية وظيفة اجتماعية مقيدة بالخلافة عن الله فيها ( ).

*****   *****   *****




Post a Comment

Previous Post Next Post