من الأسباب التي ترفع الإنتاج الزراعي وتدفعه إلى الأمام ألا وهو الإقطاع ، وهو موضوع حديثنا في المطلب الثاني حسب التفصيل الآتي :
*** **** ***
الإقطاع :
( الفرع الأول ) : تعريف الإقطاع :
القطائع : جمع قطيعة ، من قطع الشيء يقطعه قطعاً ، يقال قطع النهر أي : عبره وتعداه ([1])
     والمراد به في مصطلح الشرع : ما يخص به الإمام بعض الرعية من الأرض الموات فيختص به ويصير أولى بإحيائه ممن لم يسبق إلى إحيائه .
** وحكى عياض : ( أن الإقطاع تسويغ الإمام من مال الله شيئاً لمن يراه أهلاً لذلك ) . قال : وأكثر ما يستعمل في الأرض ، وهو أن يخرج منها لمن يراه ما يحوزه إما بأن يملكه إياه فيعمره ، وإما بأن يجعل له غلته مدة . أهـ .
** قال السبكي : والثاني هو الذي يسمى في زماننا هذا إقطاعاً ([2])
الفرع الثاني : أدلة إقطاع الأرضين من السُنة :
     عن أسماء بنت أبي بكر قالت : ( كنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي وهو مني على ثلثي فرسخ ) ، وقد أقطع صلى الله عليه وسلم الزبير أرضاً من أموال بني النضير ([3]) .
     وقد عقد البخاري باباً جاء فيه ( باب ما أقطع صلى الله عليه وسلم من البحرين ) ([4]) وقد أقطع صلى الله عليه وسلم أرضاً بحضرموت لوائل بن حجر ([5]) .
     وعن مجاعة قال : أعطى رسول قال : أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم مجاعة بن مرارة من بني سلمى أرضاً باليمامة يقال لها العوزة قال : وكتب له بذلك كتاباً : ( من محمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لمجاعة بن مرارة من بني سلمي أني أعطيتك العوزة ، فمن خالفني فيها فالنار) ([6]) .
** وعن تميم الداري قال : استقطعت النبي – صلى الله عليه وسلم – أرضاً بالشام قبل أن تفتح فأعطانيها ففتحها عمر في زمانه فأتيته فقلت : إن رسول الله أعاني أرضاً من كذا إلى كذا فجعل عمر ثلثها لابن السبيل وثلثاً لعماريها وثلثاً لنا . رواه الطبراني ورجاله ثقات ([7]) .
* وعن عمرو بن حريث ، قال : ( خط لي رسول الله صلى الله عليه وسلم داراً بالمدينة بقوس وقال : " أزيدك؟".- رواه أبو داود ([8])
     وقد أخرج البهيقي والطبراني ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أقطع الدور وكان ابن مسعود فيمن أقطع ) ([9]) .
     وعن أبي ثعلبة الخشني – قال : أتيبت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله اكتب لي كذا وكذا لأرض من الشام – لم يظهر عليها النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ – فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألا تسمعون ما يقول هذا ! ) فقال أبو ثعلبة : والذي نفسي بيده ليظهرن عليها ، قال : (فكتب لي بها) ([10]) .
* * *   * * *     * * *

الفرع الثالث ( فعل الصحابة )
** إقطاعات الخلفاء الراشدين ومن بعدهم :
     الإقطاع في عهد عمر :
     شجع أمير المؤمنين الرعية على إحياء الأرض الميتة والإقطاع هو إحياء الأرض التي لا مالك لها – ويقطعها الإمام لأحد الرعية لإحيائها .
     وقد روى أن رجلاً من ثقيف – بالبصرة – يدعى (نافعاً أبا عبد الله ) حضر إلى عمر وقال له : ( إن قبلنا أرضاً بالبصرة ليست من أرض الخراج ، فإن رأيت أن تقطعنيها أجعلها مرعى لخيلي . فكتب إلى أبي موسى : إن كانت كما يقول فأقطعه إياها ) ([11]) . وكذلك أقطع عمر رضي الله عنه أرض العقيق للمسلمين ، وشجعهم على فلاحتها . لما علم أن فيها خيراً لمن يريد إقطاعها ([12])
إقطاع عثمان :
     وكذلك عثمان ، أقطع عبد الله بن مسعود أرضاً في النهرين . وأقطع عمار بن ياسر أرضاً بجوار الكوفة ، وأقطع خباباً . وأقطع سعد بن مالك قرية هرمزان([13]) .

الفرع الرابع :
( آراء العلماء في مشروعية الإقطاع ) :
** مذهب الحنابلة :
     إن للإمام إقطاع الموات لمن يحييه ، فيكون بمنزلة المتحجر الشارع في الإحياء ودليلهم : ( أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أقطع بلال بن الحارث فلما كان عمر قال لبلال : إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم يقطعك لتحيزه عن الناس ، إنما أقطعك لتعمر ، فخذ منها ما قدرت على عمارته ورد الباقي ) .
** يقول الماوردي ( في الأحكام السلطانية ) :
     وإقطاع السلطان مختص بما جاز تصرفه ونفذت فيه أوامره ، ولا يصح فيما تعين فيه مالكه . وهو قسمان : إقطاع تمليك ، وإقطاع استغلال .
     والموات الذي يجوز إقطاعه على ضربين :
أحدهما : ما لم يزل مواتاً على قديم الدهر ، فلم تجر فيه عمارة ولا يثبت عليه ملك فهذا لاذي يجوز للسلطان إقطاعه لمن يحييه .
ثانيهما : ما كان عامراً فخرب ، فصار مواتاً عاطلاً ، كأرض عاد وثمود ونحوها ، فهي كالموات ، يجوز إقطاعه . وما كان إسلامياً جرى عليه ملك المسلمين ثم خرب حتى صار مواتاً عاطلاً ، فيرى الشافعي عدم إحيائه ، سواء عرف أربابه أم لا ، وقال مالك : يملك بالإحياء ، سواء عرف أربابه أم لا ، وفصل أبو حنيفة فقال : إن عرف أربابه لم يملك بالإحياء وإن لم يعرفوا ملك بالإحياء عن طريق الإقطاع .
     وأما العامر فما تعين مالكه فلا نظر للسلطان فيه ، إلا إن كانت في أرض عدو يرجى أخذها فله ذلك كما فعل( صلى الله عليه وسلم) مع تميم الداري عندما أقطعه أرضاً وماء في الشام قبل فتحها.
     ومن العامر ما لم يتعين مالكه على ثلاثة أقسام :
1- ما اصطفاه الإمام لبيت المال من فتوح البلاد ، فلا يجوز أن تقطع لأنه ملك عام للمسلمين ، كما فعل عمر في أرض السواد .
2- أرض الخراج فلا يجوز إقطاع رقابها تمليكاً .
3- ما مات عنه أربابه ولم يستحقه وارثه بفرض ولا تعصيب فهذا لبيت مال المسلمين ([14])
ب- رأى الكاساني من الحنفية :
     للإمام إقطاع الموات من مصالح المسلمين لما يرجع ذلك إلى عمارة البلاد ، والتصرف فيما يتعلق بمصالح المسلمين . وللإمام كري الأنهار العظام وإصلاح قناطرها ونحوها ([15]) .
جـ- رأى أبي يوسف بالإقطاع :
     أن لا يترك أرضاً لا ملك لأحد فيها ولا عمارة حتى يقطعها الإمام ، فإن ذلك أعمر للبلاد وأكثر للخراج ، ويقول :
     (قد جاءت الآثار عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه أنهم أقطعوا وفي ذلك من الفوائد ما الله به عليم ، إذ يتألف به معه الإسلام وتعمر الأرض ولو لم يكن فيه ثمة فائدة لما باشره أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بعده ) ([16]) .
د- رأي الشوكاني :
     وذهب الشركاني في الدراري المضيئة إلى إجازة الإقطاع مستدلاً بحديث أسماء بنت أبي بكر من أنها كانت تنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ([17]) .
      ولما روي أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- أقطع الزبير حضر فرسه وأجرى فرسه ، حتى قام ثم رمى بسوطه فقال : " أقطعوه حيث بلغ السوط "([18]).
ثم يقول الشوكاني :
     (إن أحاديث الإقطاع فيها دليل صريح على أنه يجوز للنبي –صلى الله عليه وسلم- ومن بعده من الأئمة إقطاع الأراضي وتخصيص بعض دون بعض بذلك إذا كان فيه مصلحة ) ([19]) .    
ومذهب الشافعية لا يخرج عما تقدم ([20]) .
** رأي السيد الوكيل في الإقطاع :
     يقول : ( إن الإقطاع لم يكن محاباة أو تقديماً لقوم على قوم ، وإنما كان من أجل المصلحة العامة للإعمار وتكثير الخراج مما يعود على الأمة بالنفع العظيم بتوسعة البلاد ، وكثرة المباني التي تجعل الناس يغلبون على سكنى هذه الديار وتستفيد الأمة من توسعة الرقعة الزراعية وكثرة خيراتها وتكثير الأرزاق ليستغنوا عن غيرهم ) .
ز- قولي في المسألة :
     إن إقطاع الأراضي الزراعية في الإسلام وجواز ذلك بدليل فعل الرسول –صلى الله عليه وسلم- . لهو دليل على حرص الشريعة الإسلامية على رفاهية المجتمع المسلم بتوفير الثروة وتكثيرها .
     وبما أن القطاع الزراعي يعتبر من مصادر الثروة في الإسلام ، فقد شجعها ودعا إلى تعاطيها حتى يكثر بالتالي الإنتاج ، ومن هنا تأتي أهمية إقطاع الإمام لمن عنده قدرة على الزراعة بإعطائه أرضاً يقوم بحرثها وسقيها وزرعها ، ومن ثم إنتاجها لصالح الفرد والجماعة . فعلى ذلك فالإمام مطالب بالتحري فيمن عنده قدرة واستعداد للإنتاج فيقطع له ، ومن ليس عنده قدرة فيمنع ، وحتى لا تعطل الأراضي الزراعية عن النماء والإنتاج .
     ولا أعتقد أن وضع بعض البنود والشروط لمن سيقطع أرضاً يخالف تعاليم الشريعة ، إذ الهدف الذي ترمي إليه تعاليم الشريعة هو خدمة المصالح العامة .
     ومما تقدم يتبين لنا أهمية الشريعة بإقطاع الأراضي لمن يحيها ويجعلها دائمة الإنتاج . ولما كانت المزارعة والمساقاة مما يساعد على زيادة الإنتاج في القطاع الزراعي فقد شرعها الإسلام ودعا إلى ممارستها . وإليك بالتفصيل في المطلب التالي :
*****   *****   *****


المطلب الثالث
مشروعية المزارعة والمساقاة :
وتحته تمهيد وعدة فروع :
* تمهيد :
     من الطرق التي اتخذها الإسلام لتنظيم وتنشيط القطاع الزراعي أنه أباح التعامل بالمزارعة والمساقاة . إذ إن هذه الوسيلة من أعظم الوسائل لزيادة إنتاج الأرض الزراعية .
     فليس من المعقول أن نبقي الأرض معطلة بيد صاحبها الأصلي لأنه غير قادر على تنميتها لكبر أو مرض أو صغر ونحو ذلك .
     ومن هنا جاءت عين الحكمة في إباحة التعامل فيها ، فمن العامل الجهد ، ومن الطرف الآخر الأرض والنتيجة نماء وإنتاج .
الفرع الأول :
أ- تعريف المزارعة :
في اللغة :من زرع الزرع – أي طرح البذر ، ويطلق الزرع على الإنبات .
يقال : زرعه الله : أي أنبته . ومنه قوله تعالى : " أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون " ([21]) .
وفي الشرع : دفع الأرض إلى من يزرعها أو يعمل عليها ، والزرع بينهما . وهي جائزة في قول كثير من أهل العلم.
     قال البخاري : قال أبو جعفر : ما بالمدينة أهل بيت إلا ويزرعون على الثلث والربع ، وزارع على وسعد وابن مسعود ، وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر ، وآل علي وابن سيرين ، وممن رأى جواز ذلك : سعيد بن المسيب وطاووس وعبد الرحمن بن الأسود وموسى بن طلحة ، والزهري وعبد الرحمن بن أبي ليلى وابنه وأبو يوسف ومحمد ، وهو مذهب الحنابلة ([22]) .
ب - الفرق بين المزارعة والمخابرة :
قال النووي –رحمه الله تعالى- :
     ( المخابرة والمزارعة متقاربان ، وهما المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها من الزرع –كالثلث والربع وغير ذلك من الأجزاء المعلومة- . لكن في المزارعة يكون البذر من المالك للأرض ، وفي المخابرة يكون البذر من العامل).
     (هكذا قال جمهور أصحابنا وهو ظاهر نص الشافعي ) ([23]) .
* تعريف المساقاة :
في اللغة :
     من سقاه الغيث ، وقيل سقاه لشفته و أسقاه لماشيته وأرضه . والمساقاة موضع الشرب ([24]) .
وفي الشرع :
     هي أن يدفع صاحب النخل نخله لرجل يعمل بما فيه صلاحها وصلاح ثمرها . ويكون له الشطر من ثمرها وللعامل الشطر فيكون من أحد الشقين رقاب الشجر ، ومن الآخر العمل كالمزارعة ([25]) .
** ويقول في بدائع الصنائع :
     (المساقاة : مفاعلة من العمل . وفي عرف الشرع : عبارة عن العقد على العمل ببعض الخارج مع سائر شرائط الجواز ) ([26]) .


*** خلاف العلماء في المزارعة والمساقاة :
أ- رأي ابن القيم في الطرق الحكمية :
     يقول : هذه المزارعة العادلة هي عمل المسلمين على عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وعهد خلفائه الراشدين  وهي عمل آل أبي بكر وآل عمر وآل عثمان وآل علي ، وغيرهم من بيوت المهاجرين ، وهي قول أكابر الصحابة كابن مسعود وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وهي مذهب فقهاء الحديث كأحمد وإسحاق ومحمد بن إسماعيل البخاري وداود بن علي ومحمد بن خزيمة وأبي بكر بن المنذر . وهي مذهب عامة أئمة المسلمين : كالليث بن سعد وابن أبي ليلى ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن .
ودليلهم هو : ( أنه صلى الله عليه وسلم قد عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من تمر وزرعوا حتى مات وحتى أجلاهم عمر ) ([27]) (**) .
ب- يقول – الكاساني في بدائع الصنائع :
     قال أبو يوسف ومحمد : إنها مشروعة لما روي عنه –صلى الله عليه وسلم- دفع نخيل خيبر معاملة ، وأرضها مزارعة . وأن أدنى درجات فعله –صلى الله عليه وسلم- الجواز .
     وكذا فهي شريعة متوارثة لتعامل السلف والخلف ذلك من غير إنكار ([28]) . وفي المساقاة : قالا إنها مشروعة واحتجا بحديث خيبر ، وأنه –صلى الله عليه وسلم- دفع نخيلهم معاملة ([29]) .
** وجاء في المدونة ما نصه :
     (قلت لعبد الرحمن بن القاسم : أرأيت إن أخذت نخلاً مساقاة على أن لي جميع ما أخرج الله منها ، قال : قال مالك : لا بأس بذلك وأجازها مالك . لأن ذلك بمنزلة المال ، يدفعه إليك مقارضة على أن لك ربحه . ولأنه إذا جاز له أن يترك لك نصف الثمرة بعملك في الحائط جاز أن يترك لك الثمرة كلها . وجوز مالك المساقاة على النصف والثلث والربع أو أقل من ذلك أو أكثر . واستدل بحديث معاملة الرسول –صلى الله عليه وسلم- ليهود خيبر ) ([30]) .
** حجة المانعين وهم (أبو حنيفة وعكرمة والنخعي) :
     ما روي عن رافع بن خديج عن عمه ظهير (ولقد نهانا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن أمر كان بنا رافقاً ، قلت : ما قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فهو حق ، قال : دعاني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال : " ما تصنعون بمحاقلكم ؟" قلت : نؤجرها على الربع وعلى الأوسق من التمر والشعير ، قال : " لا تفعلوا . ازرعوها أو امسكوها " . قال رافع : قلت سمعاً وطاعة) ([31]).
** عن جابر قال : ( كانوا يزرعونها بالثلث والربع والنصف فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- : " من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها ، فإن لم يفعل فليمسك أرضه " ) ([32]) . واحتج بعضهم أن المزارعة من باب الإجازة بعوض مجهول ، والقياس يقتضي تحريمه .
** الرد على المخالفين :
رأي ابن تيمية في المساقاة والمزارعة :
     لما ذكر خلاف العلماء في الجواز وعدمه قال : إن الجواز هو الصواب وهو المقطوع به ، وعليه إجماع الصحابة. وعليه جمهور السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم ، وهو مذهب الليث بن سعد ، وابن أبي ليلى ، وأبي يوسف ومحمد . وفقهاء الحديث كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية ، ومحمد بن خزيمة وأبي بكر بن المنذر والخطابي . ثم قال : والمزارعة أحل من الإيجار بثمن مسمى لأنها أقرب إلى العدل وأبعد من الحظر . فإن الذي نهى عنه –صلى الله عليه وسلم- من العقود منه ما يدخل في جنس الربا المحرم في القرآن ، ومنه ما يدخل في جنس الميسر ، فالأجرة والثمن إذا كانت غرراً مثل ما لم يوصف ولم يرى ولم يعلم جنسه كان عند ذلك غرراً وقماراً .
     ومعلوم أن المستأجر إنما يقصد الانتفاع بالأرض بحصول الزرع له ، فإذا أعطي الأجرة المسماة كان المؤجر قد حصل له مقصوده بيقين ، وأما المستأجر فلا يدري هل يحصل له الزرع أم لا .
     بخلاف المزارعة فإنهما يشتركان في المغنم وفي الحرمان كما في المضاربة فإن حصل شيء اشتركا فيه ، وإن لم يحصل اشتركا في الحرمان . وكان ذهاب نفع مال هذا في مقابلة ذهاب نفع مال هذا ، ولهذا لم يجز أن يشترط لأحدهما شيء مقدر من النماء لا في المضاربة ولا في المساقاة ولا في المزارعة لأن ذلك مخالف للعدل . إذ قد يحصل لأحدهما شيء والآخر لم يحصل له شيء ، وهذا هو الذي نهى عنه النبي –صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث التي روي فيها : ( أنه نهى عن المخابرة ) أو (عن كراء الأرض أو عن المزارعة ) كحديث رافع بن خديج وغيره .
     فإن ذلك قد جاء مفسراً بأنهم كانوا يعملون عليها بزرع بقعة معينة من الأرض للمالك . ولهذا قال الليث بن سعد : إن الذي نهى عنه –صلى الله عليه وسلم- من ذلك أمر إذا نظر فيه ذو علم بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز.
     وأما المزارعة فجائزة بلا ريب سواء كان البذر من المالك أو العامل أو منهما، وسواء كان بلفظ الإجارة أو المزارعة ([33]) .
** الرد عليهم من قبل ابن القيم :
     النهي في الحديث ورد لنوع من أنواع المعاملة فيه ظلم ، إذ كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة معينة ويشترطون ما على الماذيانات وأقبال الجداول وشيئاً من التبن ، يختص به صاحب الأرض ويقتسمان الباقي ، وهذا هو المنهي عنه للجهل والغرر .
     وأما كونهما من باب الإجارة بعوض مجهول فليس ذلك بصحيح . فقول جمهور السلف والفقهاء أن ذلك ليس من باب الإجارة في شيء بل هو من باب المشاركات التي مقصود كل منهما مثل مقصود صاحبه . بخلاف الإجارة فإن هذا مقصوده العمل وهذا مقصودة الأجرة .
** الجواب من حديث رافع بن خديج :
     أما ما احتجوا به فالجواب عن حديث رافع من أربعة وجوه :
أولاً : أنه فسر المنهي عنه في حديثه بما لا يختلف في فساده ، فإنه قال : كنا من أكثر الأنصار حقلاً ، فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه ، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك فأما الذهب والورق فلم ينهانا .
     وفي لفظ : فأما بشيء معلوم مضمون فلا بأس وهذا خارج عن محل الخلاف فلا دليل فيه عليه ولا تعارض بين الحديثين .
ثانياً : إن خبره ورد في الكراء بثلث أو ربع . والنزاع في المزارعة ولم يدل عليها أصلاً ، وحديثه الذي فيه المزارعة يحمل على الكراء أيضاً لأن القصة واحدة أتت بألفاظ مختلفة ، فيجب تفسير أحد اللفظين بما يوافق الآخر .
ثالثاً : أحاديث رافع مضطربة اضطراباً شديداً ومختلفة اختلافاً يوجب ترك العمل بها لو انفردت ، ثم في أحاديثه ما يخالف الإجماع وهو النهي عن كراء المزارع على الإطلاق وتارة يحدث عن بعض عمومته وتارة عن سماعه وتارة عن ظهير بن رافع ولذلك فإن حديث (خيبر) أثبت وأشهر .
رابعاً : وحتى لو امتنع التأويل وتعذر الجمع يجب حمله على النسخ أي أنه منسوخ ، وما دام حديث خيبر قد عمل به في عهد الرسول –صلى الله عليه وسلم- وقد عمل به بعد موته فتحقق أن حديث خيبر ناسخ لحديث رافع ([34]) .
** ويقول محمد الصنعاني في (سبل السلام) :
     وفي النهي عن المزارعة أحاديث ثابتة ، وقد جمع بينهما وبين الأحاديث الدالة على جوازها بوجوه أحسنها :
     أن النهي كان في أول الأمر لحاجة الناس وكون المهاجرين ليس لهم أرض ، فأمر الأنصار بالتكرم والمواساة وذلك مثل لحوم الأضاحي عندما أمروا بعدم الادخار في أول الأمر ، ثم أبيح لهم ذلك بعد توسعة مال المسلمين ([35]).
وقد أنكر فقيهان من فقهاء الصحابة روايات رافع أحدهما :
زيد بن ثابت : قال عن حديث رافع لما بلغه : ( أنا أعلم بذلك منه ، وإنما سمع النبي –صلى الله عليه وسلم- رجلان قد اقتتلا فقال : إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع ) ، رواه أبو داود .        
** والفقيه الثاني : ما روى البخاري عن عمرو بن دينار قال : قلت لطاووس : لو تركت المخابرة ، فإنهم يزعمون أن النبي –صلى الله عليه وسلم- نهى عنها ، فقال : إن ابن عباس أخبرني أن النبي –صلى الله عليه وسلم- لم ينه عن ذلك ، ولكن قال : " أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليه خراجاً معلوماً " . وصح عن ابن عباس –رضي الله عنه- : ( أن النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يحرم المزارعة ولكن أمر برفق بعضهم ببعض ) ([36]) .
** القياس يقتضي جواز المزارعة :
** يقول السفاريني :
     ( إن القياس يقتضي الجواز ، فإن الأرض عين تنمى بالعمل فجازت المعاملة عليها فبعض نمائها كالمال في المضاربة والنخل في المساقاة ) ([37]) .
     وعلية أقول : تبين مما سبق جواز المزارعة وأن أدلة المجيزين لها أقوى من المانعين ولأن في جوازها تشجيعاً للإنتاج وزيادة النماء في الدولة الإسلامية ، وهذا هو ما فهمه كبار الصحابة وعملوا به في حياة الرسول –صلى الله عليه وسلم- وبعد وفاته . وبعد ذلك لنرى حكم تأجير الأرض البيضاء بنقود ونحوها، لأن ذلك من عوامل الإنتاج وزيادة النماء في داخل الدولة ، وإليك الحديث عن تأجير الأراضي البيض وبيان الراجح من أقوال العلماء في ذلك فيما يأتي .
** إجارة الأرض البيضاء :
     وقد عقد عبد الرزاق الصنعاني باباً لتأجير الراضي ، أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة عن ابن المسيب وسالم بن عبد الله وإبراهيم النخعي (كانوا لا يرون بكراء الأرض بأساً ويكرون أرضهم ) .
** وعن ابن عباس كان يقول : ( إن خير ما أنتم صانعون في الأرض البيضاء أن تكروا الأرض البيضاء بالذهب والفضة ) .
** وعن حماد بن إبراهيم وسعيد بن جبير أنهما قالا : ( لا بأس بكراء الأرض البيضاء ) .
** وأخبرنا الثوري عن إبراهيم النخعي (أنه استأجر أرضاً بيضاء إلى أجل معلوم بذهب) .
** وسئل ابن عمر عن كراء الأرض فقال : (أرضي وبعيري سواء ) ([38]) .
يقول السفاريني في جواز كراء الأرض البيضاء :
     (دلت الأحاديث على جواز كري الأرض بالذهب والفضة المعلومين ) . فلا يصح كون الأجرة بشيء غير معلوم المقدار عند العقد ([39]) .
** ويقول في مختصر الطحاوي : ( ويجوز استئجار الأرض للمزارعة ) ([40]) .
** ويقول أبو يوسف : ( أحسن ما سمعنا أن كراء الأرض جائز مستقيم ، وهو عندي بمنزلة مال المضاربة  ، فقد يدفع الرجل إلى الرجل المال مضاربة بالنصف والثلث فيجوز مثل هذا وهو مجهول ليس فيه خلاف بين العلماء ، فكذلك الأرض هي عندي بمنزلة المضاربة للأرض البيضاء ذات النخل والشجر سواء ) ([41]) .
     وقد عقد صاحب المغني فصلاً حول ذلك فقال : ( تجوز إجارة الأرض بالورق والذهب وسائر العروض ) .
     ونقل عن ابن المنذر إجماع عوام أهل العلم على أن اكتراء الأرض وقتاً معلوماً جائز بالذهب والفضة .
     وهذا الرأي يقول به رافع بن خديج وابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب وعروة ومالك والليث والشافعي وأبو ثور . وحجة أصحاب هذا الرأي : ( ما روي عن رافع بن خديج قال : أما بالذهب والورق فلم ينهانا ) ([42]). أي الرسول –صلى الله عليه وسلم- ، وأما حديث : (نهي –صلى الله عليه وسلم- عن كراء المزارع ) ([43]) ، فيفسر بما رواه رافع في رواية أخرى .
     نهي –صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض قال : قلت بالذهب والفضة ؟ قال : إنما نهى عنها ببعض ما يخرج منها ، أما بالذهب والفضة فلا بأس ([44]) . فرواية رافع فيها رواية عامة وخاصة فيحمل العام على الخاص مع موافقة الخاص لسائر الأحاديث وللقياس ولأكثر أهل العلم ([45]) .
ويقول صديق -صاحب الروضة الندية- :
     ( ويجوز أن يكري العين مدة معلومة بأجرة معلومة وذلك لما ورد من إكراء الأراضي في عصره –صلى الله عليه وسلم- .
     فعن رافع بن خديج ، قال : ( كنا أكثر الأنصار حقلاً ، فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه ، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه ، فنهانا عن ذلك ، فأما الورق فلن ينهانا ) ([46]) .
** ثم يقول : ( ذهب عامة أهل العلم إلى جواز كراء الأرض بالدراهم والدنانير وغيرها من صنوف الأموال سواء كانت الأرض مما ينبت أو لا ينبت ، إذا كان معلوماً بالعيان أو الوصف فكل ما جاز بيعه جاز إجارته ) ([47]) .


([1]) مختار الصحاح ، الرازي ، ص542 ، ترتيب محمود خاطر .
([2]) فتح الباري ، ج5 ص47.
([3]) أنظر فتح الباري شرح صحيح البخاري ، كتاب الخمس ، الباب 19 ،ج6،ص252
([4]) أنظر فتح الباري شرح صحيح البخاري ، كتاب الجزية ، الباب 4 ، ص268 ، ج6.
([5]) رواه أبو داود ، كتاب الإمارة ، ج3 ، ص173 ، ورواه أحمد في مسنده ، ج6 ، ص399 . ورواه الترمذي وصححه . وكذلك رواه ابن حبان وصححه ، أنظر سيل السلام ، للصنعاني ، ج3 ، ص83 ، المكتبة التجارية الكبرى – مصر .
([6]) رواه الطبراني ، وقال عنه في مجمع الزوائد : أن رجاله رجال الثقات ، مجمع الزوائد ، ج6 ، ص9 .
([7]) رواه الطبراني ، ورجاله ثقات ، أنظر مجمع الزوائد ، ج6ص8 .
([8]) رواه أبو داود ، وقال عنه الشوكاني في نيل الأوطار : أن الحافظ ابن حجر حسن إسناده . نيل الأوطار ، للشوكاني ، ج5 ، ص351 . 
([9]) قال عنه الشوكاني ، في نيل الأوطار : أن إسناده قوي ، أنظر ج5 ، ص353 . 
([10]) يقول الهيثمي : الحديث رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ، أنظر مجمع الزوائد ، ج6 ، ص8 . 
([11]) الأموال ، أبو عبيد ، ص277 ، عمر قاضياً ومجتهداً ، فهمي ، 146 .
([12]) أبو يوسف ، ص62 ، الخراج ، ط 1399هـ .
([13]) الخراج ، ص62 .
([14]) ينظر الأحكام السلطانية ، للماوردي ، ص190 وما بعدها ، بتصرف ، ط : أولي .
([15]) بدائع الصنائع الكاساني ، جـ6 ، ص194 . 
([16]) أبو يوسف ، الخراج ، ص62 ، ط: 1399 هـ .
([17]) رواه البخاري ومسلم .
([18]) رواه أحمد وأبو داود ، جـ3 ، ص178 ، ويقول الشوكاني إن في إسناد الحديث عبد الله بن عمر ابن حفص وفيه مقال ضعيف .
(*) ينظر الدراري المضيئة ، شرح الدرر البهية ، للشوكاني جـ2 ، ص123 .
(**) عناية الإسلام بتخطيط المدن وعمارتها ، محمد السيد الوكيل ، ص116 .
([19]) ينظر الشوكاني ، فتح القدير ، جـ5 ، ص352 .
([20]) الأم للشافعي ، جـ4 ، ص50 .
([21]) سورة الواقعة ، آبة (64) .
([22]) المغني والشرح الكبير ، لابن قدامة ، جـ5 ، ص583 .
([23]) ينظر : عون المعبود –شرح سنن أبي داود- جـ9 ص269 . 
([24]) مختار الصحاح ، ص305 .
([25]) عون المعبود –شرح سنن أبي داود- ، ص272 .
([26]) بدائع الصنائع ، الكاساني ، جـ6 ، ص185 .
([27]) انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري ، كتاب الحرث ، الباب الثامن ، ج5 ، ص13 . وانظر صحيح مسلم ، كتاب المساقاة ، الحديث الأول ، ج5 ، ص26. 
(**)  الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ، ابن القيم ، ص294 .
([28]) بدائع الصنائع ، جـ6 ، ص175 .
([29]) نفس المرجع ، جـ6 ، ص185 .
([30]) المدونة الكبرى ، مالك ، جـ4 ، ص2 ، ط : دار الفكر .
([31]) فتح الباري شرح صحيح البخاري ، كتاب الحرث والمزارعة ، الباب 18 ، جـ5 ، ص22 .
([32])فتح الباري شرح صحيح البخاري ، كتاب الحرث والمزارعة ، الباب 18 ، جـ5 ، ص22 .

([33]) ينظر : فتاوى ابن تيمية ، جـ5 ، ص61-62 .
([34]) ينظر : المغني والشرح الكبير ، ابن قدامة ، جـ5 ، ص584 .
([35]) سبل السلام ، شرح بلوغ المرام ، الصنعاني ، جـ3 ، ص77 .
([36]) السفاريني ، شرح ثلاثيات مسند أحمد ، جـ1 ، ص111 ، طبع المكتب الإسلامي .
(*)  أحمد وابن ماجة وأبو داود والترمذي .
([37]) شرح ثلاثيات مسند أحمد ، السفاريني ، جـ1 ، ص112 ، طبع المكتب الإسلامي .
([38]) ينظر لهذه الآثار : في مصنف عبد الرزاق الصنعاني ، جـ8 ، ص93-94 ، ط : الأولى ، الناشر : المجلس العلمي ، تحقيق حبيب الأعظمي .
([39]) شرح ثلاثيات مسند أحمد ، السفاريني ، جـ1 ، ص112 .
([40]) مختصر الطحاوي ، ص132 .
([41]) الخراج ، أبو يوسف ، ص88 ، ط: 1399 هـ ، دار المعرفة ببيروت .
([42]) متفق عليه .
([43]) متفق عليه .
([44]) متفق عليه .
([45]) ينظر : المغني ، لابن قدامة  ، جـ5  ، ص25 .
([46]) ينظر بما معنى هذا الحديث في فتح الباري ، باب كراء الأرض بالذهب والفضة ، جـ5 ، ص25 .
([47]) الروضة الندية ، شرح الدرر البهية ، صديق حسن البخاري ، جـ2 ، ص134 ، الناشر : دار التراث – القاهرة .

Post a Comment

Previous Post Next Post