آليات إعادة التوازن إلى ميزان المدفوعات
التوازن في ميزان المدفوعات هو افتراض نظري, والوضعية الطبيعية الواقعية لهذا الميزان هي الاختلال سواء كان سلبيا أو إيجابيا, ويمكن التمييز بين نماذج أربعة من الاختلال:
1-     الاختلال الطارئ.
2-     الاختلال الدوري.
3-     الاختلال الناتج عن مستوى الأسعار.
4-     الاختلال البنيوي.
1-      الاختلال الطارئ: وهو يحدث في البلدان التي تعتمد في صادراتها على بعض السلع الزراعية الأساسية, وقد تحدث ضمنه اختلالات موسمية (بعض الدول المصدرة للسلع الزراعية).
2-      الاختلال الدوري: فهو ينتج عن التقلبات الاقتصادية على المستوى الدولي التي تتميز بفترات قصيرة من الازدهار وتليها فترات قصيرة من الركود الاقتصادي.
3-      الاختلال الناتج عن مستوى الأسعار: والذي يمكن معالجته عبر تخفيض سعر صرف العملة الوطنية.
4-      الاختلال البنيوي: وهو الذي ينتج عن عدة أسباب كضعف قدرة البلد الإنتاجية, وارتفاع مستوى تكاليف الإنتاج, تدني المستوى التقني, تحول الطلب العالمي عن بعض المواد الأولية ...إلخ.
وهناك عدة تحليلات عملت على إبراز الآليات التي تحقق العودة إلى التوازن عندما يسجل ميزان المدفوعات عجزا أو فائضا في رصيده, وتصنف تلك الآليات ضمن نموذجين رئيسيين هما:
1-      آليات ناتجة عن حركات الأسعار أو الآثار السعرية Effets- Prix مثبتة من قبل الاقتصاديين الكلاسيك أو الكلاسيك الجدد.
2-      آليات ناتجة عن حركات المداخيل أو الآثار الدخلية Effets- Revenus أثبتها التحليل الكينزي analyse Keynesienne.
1- توازن ميزان المدفوعات عبر حركات الأسعار :
يعتبر الكلاسيك والكلاسيكيون الجدد Néoclassiques أول من تناول بالتحليل توازن ميزان المدفوعات, لقد ميز هؤلاء بين وضعين مختلفين:
الوضع الأول : في ظل نظام القاعدة الذهبية Etalon-or
الوضع الثاني: حيث يسود نظام النقد غير قابل للتحويل إلى ذهب (السعر الإلزامي "Cours forcé").
أ- إعادة التوازن الآلي إلى ميزان المدفوعات في ظل نظام القاعدة الذهبية:
فإذا ما حدث على سبيل المثال تحسن في مستوى الإنتاجية الداخلي فسوف يترتب عن ذلك زيادة في الصادرات المسددة بالذهب, هذه الكمية الإضافية من الذهب تؤدي إلى زيادة الكتلة النقدية للبلد المصدر, وتؤدي بدورها إلى ارتفاع الأسعار الداخلية, إن ارتفاع الأسعار يلغي الميزات النسبية بين الدول ويخفض آليا الصادرات ويحقق العودة إلى حالة التوازن, وفي حالة انخفاض مستوى الإنتاجية الداخلي سوف يحدث خروج للذهب من اجل تسديد العجز في ميزان المدفوعات بالذهب, وهذا يصاحبه انخفاض الكتلة النقدية وتدني مستوى الأسعار الداخلية وهو ما يرفع آليا الصادرات التي تحقق العودة إلى حالة التوازن.
هذا التحليل للتوازن الآلي يرتكز على النظرية الكمية للنقد التي تثبت ان التغيرات في الوفورات النقدية تؤدي بالضرورة لتغير في الأسعار الداخلية, ولكن بعد زوال النظام الذهبي, فقد فقدت هذه النظرية مبررها العملي والعلمي.
ب- إعادة التوازن الآلي إلى ميزان المدفوعات في ظل نظام النقد غير قابل للتحويل وسعر الصرف المرن:
بالنسبة للكلاسيكيين الجدد يتحقق توازن ميزان المدفوعات في ظل نظام النقد غير القابل للتحويل (السعر الإجباري)عبر تغيرات أسعار الصرف, فسعر الصرف يتحدد طبقا لقانون العرض والطلب الذي ينطبق على تبادل العملات عبر العمليات المسجلة في أصول وخصوم ميزان المدفوعات .
وإذا كان سعر الصرف يرتبط بوضعية ميزان المدفوعات, فإن تغيرات الصرف تعيد التوازن إلى الميزان الذي يوجد في حالة خلل.
-       في حالة عجز الميزان المذكور يكون الطلب على العملات الصعبة أعلى من العرض, وبذلك ترتفع أسعار العملات الأجنبية مقارنة مع العملة الوطنية فتصبح المنتجات الأجنبية مرتفعة الأسعار مما يرفع من الصادرات المنخفضة الأسعار وتنخفض الواردات المرتفعة الأسعار مما يقلل الطلب عليها.
-       في حالة الفائض في ميزان المدفوعات يرتفع سعر صرف العملة الوطنية بالنسبة للعملات الأجنبية مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الصادرات وانخفاض أسعار الواردات مما يزيد الطلب عليها.
وفي كلتا الحالتين يعاد التوازن آليا إلى ميزان المدفوعات.

2- توازن ميزان المدفوعات عبر حركات المداخيل :
لقد أدرك الاقتصاديون الكلاسيكيون الجدد تأثير حركات المداخيل على توازن ميزان المدفوعات, لكن كان ينبغي انتظار الكينزين (F.Machlup ,L.A.Metzler &.J.Robinson) للتوسع والتعمق بهذا التحليل, والجدير بالذكر ان كينز لم يتعرض لهذا الموضوع في مؤلفه (النظرية العامة) ولكن تحليل تأثير حركات المداخيل أخذ بالآلية الكينزية في تحديد دخل التوازن لكي تطبق على الاقتصاد المفتوح, فالصادرات تظهر كنوع جديد من الطلب (يضاف إلى الطلب النهائي) مؤهلة لكي تمارس على الدخل القومي أثرا مضاعفا يسهم في إعادة التوازن إلى ميزان المدفوعات.
أ- دخل التوازن في الاقتصاد المفتوح:
قبل معالجة شروط التوازن في الاقتصاد المفتوح يقتضي إلقاء الضوء على شروط التوازن في الاقتصاد المغلق.
أ-1- شروط التوازن في الاقتصاد المغلق: يتكون الدخل القومي في الإقتصاد المغلق من عنصريين أساسيين هما : الاستهلاك والاستثمار Y = C +I .
يتبين أن هناك توازنا بين الدخل من جهة ونفقات الاستهلاك والاستثمار من جهة أخرى, وكذلك من المعلوم أن استخدام الدخل القومي يتوزع بين استهلاك وادخارY=C+S.
وعلى ضوء هاتين المعادلتين المتساويتين, يتضح ان  C + I = C+S  وهذا يعني بدوره أن I = S أي أن الادخار يساوي الاستثمار, لكن الدورة الإقتصادية لا يمكن أن تعتبر متوازنة إلا إذا حدث التساوي بين الادخار والاستثمار المرغوبين "المتوقعين" منذ بداية الفترة (Ex ante) إذا فقط عندما تتطابق الرغبات بالادخار والاستثمار يتحقق التوازن المتوقع (Ex ante).
Ex- ante هي رؤية موجهة نحو الاستثمار, والمصطلح (Ex ante) يقود إلى نشاط إقتصادي لم يحصل بعد, إذ من الممكن أن تكون القيم أو الكميات المتوقعة Ex ante مختلفة عن الأرقام الحقيقية (Ex post) عند وقوع الحدث.
ويُستخدم مفهوم المقارنة المتوقعة للاقتصاد إلى جانب المقارنة المتحققة في التحليل الإقتصادي لتفحص تغير بعض الظواهر الإقتصادية عند الانتقال من وضعية اللاتوازن إلى وضعية التوازن, ومثال ذلك في النموذج الكينزي قد يكون المتوقع لاستثمار المخطط في تحديد الدخل القومي اكبر من الادخار المخطط بحيث يقع النظام الاقتصادي في حالة عجز.
لكن فائض الاستثمار يفيد في حقن المزيد من الدخل في الاقتصاد, ويزيد عبر أثر المضاعف, الدخل والادخار على حد سواء, مما يتيح توازنا نهائيا (متحققا يتساوى فيه الاستثمار المحقق مع الادخار المتحقق), أي انه إذا لم تتطابق هذه الرغبات وكان:
-       الاستثمار أعلى من الادخار المتوقع, فإن آلية مضاعف الاستثمار تحقق التساوي بين الادخار والاستثمار المحققين (Ex post) عبر توسع في الدخل يتولد عن ادخار إضافي.
-       الاستثمار أقل من الادخار المتوقع, فإن آلية مضاعف الاستثمار تحقق التوازن بين الادخار والاستثمار (Ex post) عبر نقص في الدخل يؤدي إلى تخفيض الادخار.
يستنتج من هذا التحليل انه في إطار الاقتصاد المغلق وفي ظل غياب تدخل الدولة يقتضي توفر شرط حتمي لتحقيق توازن الدورة الاقتصادية, ألا وهو التوازن بين الاستثمار والادخار المتوقعين.
أ-2- شروط التوازن في الاقتصاد المفتوح:
يقضي تحديد التوازن في الاقتصاد المفتوح إدخال الصادرات والواردات لكي تُشمل بالتحليل, فالصادرات أي بمعنى آخر المشتريات من السلع الوطنية التي يقوم بها الخارج, تضيف مركبا آخر إلى الطلب الإجمالي, فهي تعتبر بمثابة "ضخ" إضافي (injections) داخل الدورة الاقتصادية, أما الواردات فهي تمارس تأثيرا معاكسا على الطلب الإجمالي, فتظهر وكأنها تسربات خارج الدورة الاقتصادية.
ويجب ان تطرح من الطلب الإجمالي ,وبذلك يظهر الدخل القومي على الشكل التالي:
Y = C + I + (X -M)
حيت: X : تمثل قيمة الصادرات.
       M: تمثل قيمة الواردات.
شرط التوازن المتوقع بعد إضافة الخارج يصبح على الشكل التالي:
C + I+ (X - M) = C + S
بمعنى آخر: I + X = S + M
حسب المعادلة الأخيرة يتبين أن التوازن الإجمالي لا يوافق بالضرورة تحقق التوازن على الصعيد الخارجي.
-       فإذا كان الميزان الخارجي في حالة عجز: الواردات < الصادرات, يصبح الفارق بين الاستثمار والادخار مساويا للعجز الخارجي.
-       فإذا كان الميزان الخارجي في حالة فائض أي الصادرات < الواردات, يصبح الفارق بين الادخار والاستثمار مساويا للفائض الخارجي.
ب- تأثير الخارج على الدخل القومي "مضاعف التجارة الخارجية":
في الاقتصاد المغلق تترتب على زيادة استثمارات القطاع الخاص و/ او انفاق القطاع العام زيادة اكثر أهمية في الدخل القومي, احتساب الزيادة الأخيرة في الدخل القومي يرتكز على آلية المضاعف, فيما يتعلق بالاقتصاد المفتوح عادة ما يحسب مضاعف الاستثمار, لكن لما كان ميزان المدفوعات هو محور الدراسة فإن معالجة مضاعف التجارة الخارجية تصبح فائقة الضرورة.
وبالعودة إلى علاقة التوازن في الاقتصاد المفتوح التي تم التطرق إليها فيما سبق, يتضح انه لم يجري التمييز بين اتفاق القطاع الخاص وانفاق القطاع العام, لذلك فإن صياغة علاقة التوازن سوف يعاد تكرارها مرة أخرى لتأخذ بالاعتبار انفاق القطاع العام.
Y + M = C + I + G + X


 
حيث : G :تمثل انفاق القطاع الحكومي
         I : تمثل مجموع الاستثمار.
      X   : تمثل الصادرات.                  ,I G, X هو إنفاق مستقل لا يرتبط بمستوى الدخل القوميy
        Y : تمثل الدخل القومي.
        M : تمثل الواردات.
         C : تمثل الاستهلاك .



A = I + G + X     وهذا يعني أنه يصبح Y + M = C + A
إذا ما تم افتراض أن الدولة قررت زيادة حجم الإنفاق العام, فإن الإنفاق المستقل سوف يرتفع وإذا كان الاقتصاد المذكور يتمتع بطاقات إنتاجية غير مستخدمة, فإن هذا الطلب الإضافي سوف يتولد عنه عرضا إضافيا متأتيا من النظام الإنتاجي نفسه ومن الواردات.
الزيادة الجديدة في العرض تتمثل بمداخيل إضافية يتولد عنها طلبات إضافية على السلع الاستهلاكية ودون ريب, فإن تلك الطلبات ستثير موجة جديدة من الإنتاج الداخلي (القومي) ومن الواردات.
هذا السياق يتتابع باستمرار, وبذلك يجري الانتقال من توازن أساسي يتحدد بـ:
(1)........Y + M = C +A
 إلى توازن جديد يصاغ على الشكل التالي:
(2) ..... Y + ∆Y + M+∆M = C+ ∆C + A + ∆A
حيث:   ∆Y: الزيادة في الدخل القومي.
        ∆M: الزيادة في الواردات.
        C: الزيادة في الاستهلاكات.
         A: الزيادة في الطلب المستقل.
بطرح التوازن الأساسي (1) من التوازن الجديد (2) يتم الحصول على ما يلي:
(3).......  ∆Y + ∆M + ∆C = ∆C + ∆A
(4)................. ∆A =∆Y - ∆C +∆M
ΔC
ΔY




 
وإذا كانت "C" تمثل الميل الحدي للاستهلاك, أي الاستهلاك الإضافي الناشئ عن توزيع وحدة نقدية من الدخل القومي (دج, دولار أمريكي, ...إلخ), هذا الميل الحدي للاستهلاك هو نسبة الزيادة التي طرأت على الاستهلاكات والزيادة التي طرأت على الدخل:
c  =    أي أن :     ΔC = c. ΔY

ΔM
ΔY




 
أما "m" تمثل الميل الحدي للاستيراد, أي أنها النسبة بين الزيادة في الواردات والزيادة في الدخل القومي أو الزيادة في الواردات الناشئة عن زيادة الدخل القومي (بقيمة وحدة نقدية واحدة).
m  =           أي أن :     ΔM = m. ΔY


فإذا وضعت كل من ΔC, ΔM بقيمتهما في المعادلة (4) تصبح الزيادة في الإنفاق المستقل ΔA مساوية كالتالي :
(5).................                     ΔA = ΔY - cΔY +m. ΔY
(6).......................                     ΔA = ΔY (1- c +m)


0 <  c < 1 : U : ΔY = ΔA ×      1      
   1-c+m
 
 
      




    1   
1- c +m
 
 
                      هو مضاعف التجارة الخارجية, وهذا المضاعف يسمح بالتعرف على التغير الإجمالي في الإنفاق القومي ΔY الناشئ عن تغير أولي في الإنفاق المستقل ΔA عندما لا يوجد أي عائق أمام زيادة الكميات المنتجة, أما الأسعار فيفترض أن تكون مستقرة.
1   
1- c
 
إذا افترضنا أن الميل الحدي للاستيراد مساويا للصفر, فهذا يعني أن الزيادة في الدخل القومي لن ينتج عنها أي زيادة في الواردات.
وعندها يصبح مضاعف التجارة الخارجية مساويا لـ:

إن شراء السلع المستوردة بواسطة المقيمين ينعكس عبر تسديدات مدفوعة إلى الخارج أي غير منفقة من جديد في الدورة الاقتصادية الداخلية, وهذا ما يقلص (يحد) من تأثير التغير الأولي الذي يطرأ على الانفاق المستقل.
بتعبير آخر كلما ارتفع الميل الحدي للاستيراد, ارتفعت تسربات المداخيل إلى الخارج وأصبح المضاعف أقل فعالية, وأي أدنى قيمة.
3- الآثار الدخلية وإعادة التوازن إلى ميزان المدفوعات :
إن تغير الدخل القومي الناتج عن تغير مستقل خارجي يحدد تغيرات الصادرات والواردات التي تتجه إلى تحقيق إعادة التوازن لميزان المدفوعات, هذه العملية يمكن إثباتها من خلال تطورات الميزان التجاري لكلا البلدين (A) و(B), على افتراض أن هذين البلدين يتقاسمان التجارة الدولية.
أ- الأثر الدخلي الناشئ عن تغيرات الدخل القومي للبلد (A):
إن زيادة صادرات البلد (A) تنتج في مراحل أولية زيادة موازية في الدخل القومي للبلد (A), التي تتحدد بـ ΔYA, زيادة في الدخل القومي للبلد (A) تؤدي في مرحلة ثانية إلى زيادة واردات (A) بما يوازي ΔYA×mA (حيث mA تمثل الميل الحدي للاستيراد في البلد A), هذا الارتفاع في الواردات يخفض الفاض في الميزان التجاري الذي نتج عن زيادة الصادرات ΔXA, يلاحظ من خلال ما تقدم أن حركة المداخيل تتطور تباعا في كل فترة محدثة تدفقات إضافية في الواردات.

ب- الأثر الدخلي الناشئ عن تغيرات الدخل القومي للبلد (B):
بالنسبة للبلد (B) زيادة صادرات البلد (A) تنعكس عبر زيادة موازية لواردات البلد (B): ΔMB هذه الزيادة في الواردات تؤدي إلى انخفاض موازي للدخل القومي للبلد (B): ΔYB, وتؤدي في مرحلة ثانية إلى انخفاض واردات البلد B بـ ΔYB×mB (حيث mB تمثل الميل الحدي للاستيراد في البلد B).
انخفاض واردات البلد B هو بمعنى آخر المقابل لانخفاض صادرات البلد (A).
يبين تحليل الآثار الدخلية أن تغيرات الدخل القومي للبلد A (زيادة الدخل) وتغيرات الدخل القومي للبلد B (انخفاض الدخل) تتجه من فترة إلى أخرى نحو زيادة واردات البلد A وتخفيض واردات البلد B, فالتوازن يتجه إلى التحقق في البلد A إذ أن الواردات الاضافية تخفض الفائض التجاري, كما أن التوازن يتحقق أيضا في البلد B حيث أن إنخفاض الواردات يقلص بدوره العجز التجاري.

Post a Comment

Previous Post Next Post