الإنتاج في الدولة الإسلامية :

يمثل موضوع الإنتاج حيزَا كبيرًا من الأهمية في نفوس الناس ، وذلك مع اختلاف درجاتهم لارتباطه بزيادة الدخل  ورفع مستوى المعيشة ، وتوفير الرخاء الاقتصادي، والاستقرار السياسي في الدولة. ومن هنا كان لفقهاء الشريعة الفضل الأكبر في تطوير المسائل التي تتعلق بشؤون الإنتاج في داخل الدولة الإسلامية ، إذ تكلموا كثيرًا عن أهمية العمل - وأحكام الأجير وحقوق العامل. وتكلموا عن المال ودوره في الحياة، والضوابط التي تقيده جمعًا وتفريقًا. وتكلموا عن الأسس التي تضبط العمل - والمال - من ضرورة الخبرة ودعمها، وذلك عند حديثهم على شروط الزكاة ومقدار المكاييل والموازين ونحو ذلك. وتكلموا عن أحكام الزارعة التجارة والصناعة ، وعن ضرورة ودعمها وتنشيطها والطرق السليمة  لحمايتها حتى تؤتي ثمارها. ولم يترك فقهاؤنا من ذلك شيئًا إلا وتكلموا عنه، سواء بالاستنباط من النصوص أو القياس عليها، أو عن طريق المصالح المرسلة ونحو ذلك. ويشهد على علو باعهم في هذه المجالات المالية وما يتعلق بها ، أنهم عنوا بالنظرية العامة للتجارة - من ذلك ما كتبه الغزالي في إحياء علوم الدين - تحت عقد البيع. وكل الفقهاء تكلموا عن أبواب البيع و التجارة وما كتبه أبو جعفر الدمشقي في الإشارة إلى محاسن التجارة- ومن ينكر ما كتبه الإمام محمد الشيباني في كتابه المشهور(الاكتساب في الرزق المستطاب)؟.          
وما كتبه " ابن خلدون " في كتابه  " المقدمة "، والتي أشار بها إلى أهمية دراسة المجتمعات واستقرارها وأثر ذلك على  إنتاجها ، وتطور صنائعها ، ونظريات القيمة والتوزيع والسكان .
ومن هؤلاء الفقهاء : الدلجي في كتابه " الفلاكة والمفلوكون" - أي الفقر والفقراء - حيث وضع وجوه المعاش وأسباب الفقر وحل مشكلة (1) .
وكل الذي ذكره هؤلاء العلماء يصلح أن يكون أساسًا ينبني عليه أحكام كثير من مشاكلنا المعاصرة .
*تنظيم الإسلام للإنتاج :     
فالإسلام في تنظيمه للإنتاج وتشجيعه للاستثمار يتبع خطوطاً عريضة وقواعد واسعة ، تتسع لما يأتي به الزمان وتستحدثه جهود الإنسان ، لكنه يضبط هذه القواعد وتلك الخطوط بحدود تؤكد حق الفطرة البشرية في التملك والتعمير والعمل شريطة أن يكون ذلك في دائرتين هامتين هما:
1- (دائرة الحلال).
2- ( دائرة العدل ).
وبعد أن اتضح لنا أن الإنتاج في الشريعة له أصول وقواعد، ينبني عليها كل ما يجدّ على مر العصور والأزمان. ننتقل الآن إلى الكلام عن الإنتاج في الدولة الإسلامية وهو عبارة عن المبحث الأول:-[1]

* أسباب المشكلة الاقتصادية :
 تنشأ هذه المشكلة من أحد أمرين أو من كليهما :
الأول : القصور في استخدام الموارد الممنوحة من الله تعالى .
الثاني : سوء توزيع الناتج بين المواطنين .
 * فالأولى : حلها الإسلام عن طريق تشجيع القطاع الزراعي والتجاري والصناعي ، والعناية بتنظيمها وحمايتها.وقد نبه القرآن الكريم إلى امتلاء الأرض بالخيرات . قال تعالى:}وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه{ (1).
 وقال تعالى: ) والأرض بعد ذلك دحاها. أخرج منها ماءها ومرعاها. والجبال أرساها. متاعًا لكم ولأنعامكم إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. ((2).
 وقال تعالى :} وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها فيها أربعة أيام سواء للسائلين [(3).
فالشاهد من الآيات :
_ إن الأرض مليئة بالخيرات مكتنزة بكل ما فيه قوام الإنسان ، فما عليه إلا أن يتحرك ويزيد في الحركة ليكثر الإنتاج ، وبتحسن ، حتى تزول مشكلة التقصير في[2] استخدام هذه الموارد المتاحة. وفي الآيات رد على الذين يقولون بندرة الموارد الطبيعية حيث تشهد بأن الأرض مليئة بالخيرات، فلا وجود  للندرة عالميًا.
(وأما إقليميًا: فإنها قد توجد، ولكن بالبحث عن السبب تزول المشكلة).
فقد يكون السبب تكاثف السكان في منطقة دون أخرى، أو بإهمال الموارد وعدم الاستفادة منها، فلا بد من إصلاح ذلك الخلل (1).
فمما سبق يتبين أن المشكلة منحصرة في استخدام الوسائل المتاحة للإنسان من تسخير الموارد الممكن له استخدامها، والإفادة منها في إشباع حاجاته وتطوير طاقاته. علاوة على كسل الإنسان وتجاوزه الحد في تقدير احتياجاته وعدم توزيعها،كما أراد الله تعالى. ومن هنا  يقول الرأسماليون: إن المشكلة تنحصر في ندرة الموارد وعدم تحقيقها لحاجات الإنسان المتعددة والمتجددة. بينما يصورها أصحاب النظام الاشتراكي علي أنها: "التناقض بين شكل الإنتاج وعلاقات التوزيع"(2): وكلاهما جانب الصواب، إذ الأرض فيها ما يكفي الإنسان إلي قيام الساعة فما عليه إلا أن يطرح جانب الكسل والبطالة وسيجد بغيته وحاجاته في هذه الدنيا0
يقول عبد السميع المصري:( ليس في الأرض ندرة من وجهة نظر الإسلام  - قال تعالي : ] وأتكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها أن الإنسان لظلوم كفار[ (3).وكيف يكون هناك ندرة في الموارد ومساحات عظيمة من أرض الله صالحة للزراعة لم تستغل؟وكيف يكون هناك ندرة ومعظم الفائض من الإنتاج في البلاد الرأسمالية يلقي في البحر أو يحرق؟     
وكيف يكون هناك ندرة والبحر مليء بالأسماك والخيرات. لكن الإنسان يفضل صناعة المدمرات والغواصات على صناعة السفن للصيد ونحوها مما يفيد الإنسانية(4).
وإليك ما قرره القرآن وعلماء الإسلام من الدعوة إلى الإنتاج المثمر والبحث في كنوز أرض  الله المتعددة، ومنها يتبين لنا تفوق الشريعة الإسلامية على الأنظمة الوضعية، أيا كان واضعها. 

** دعوة الإسلام للإنتاج حتى بعد موت الإنسان:
 ومن هنا جاءت مشروعية الوقف ـ والوصية في الإسلام ، لأن ثمارهما يمتدان بعد وفاة الإنسان. وكلام الفقهاء، رحمهم الله، يدل على ذلك.
 يقول أبن قدامة في الكافي:
(الوقف معناه تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة، وهو مستحب لما روي عن النبي r: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " (1))(2).
ويقول الرسول r: " سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته: من علم علماً، أو كرى نهرا، أو حفر بئراً، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجداً، أو ورث مصحفاً، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته". ـ البزار ـ أبو نعيم ـ البيهقي(3).    
ويقول ابن قدامة في الكافي بشأن الوصية:
الوصية: هي التبرع بعد الموت، وهي مستحبة لمن ترك خيراً ـ لما روي عن النبي r : أنه قال:" أن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم زيادة في حسناتكم"(4).  ـ رواه ابن ماجه ـ .
وقد قال  r: في شأن أعلى ما يوصي به المرء من المال " الثلث والثلث كثيرة"(5).(6).
فمن ذلك يتبين لنا حرص الشريعة الإسلامية على استمرار الإنتاج المثمر داخل الدولة الإسلامية، ذلك أن جهد كل فرد من أفرادها سواء في حياته أو بعد مماته، سيصب في حقل الإنتاج الكبير، حيث تصبح دولة الإسلام قوية، مرهوبة الجانب ، قائدة لا مقودة، سيدة لا مسودة.
[3]وهذا ما فهمه فقهاء الشريعة من نصوصها التشريعية، تحقيقاً للإنتاج وزيادة الثروة على ما سيأتي تفصيله.
*** بعض آراء الفقهاء التطبيقية لتحقيق معني الإنتاج:
وقد عقد الفقهاء أبواباً للمعني المقصود من الاستثمار: وهو التنمية: وذلك فيما يسمى القراض ـ المضاربة. جاء في بدائع الصنائع: " المقصود من عقد المضاربة: وهو استثمار المال"(1).
وفي حاشية الصاوي على الشرح الصغير للمالكية:قال: ( إن القراض جائز، لأن الضرورة دعت إليه لحاجة الناس إلى التصرف في أموالهم، وليس كل أحد يقدر على التنمية لنفسه ـ ثم قال في موضع آخر: كل من أخذ مالاً للتنمية لربه بغير قراض كوكيل على بيع شيء، فربح فيه فلا ربح له، بل هو لرب المال) (2).
يقول الدكتور زكي شبانة:
(أكدت التشريعات الإسلامية مبدأ تنمية الإنتاج، الذي يؤمن به النظام الاقتصادي الإسلامي، وينادي بتطبيقه، فقد حكم الإسلام بانتزاع الأرض من صاحبها إذا عطلها أو أهملها، حتى خربت، وامتنع عن إعمارها وفي هذه الحالة يستولي ولي الأمر على الأرض، ويستثمرها بالأسلوب الذي يختاره، كما أن النظام الإسلامي منع الحمى، وهو السيطرة على مساحة من الأرض العامرة وحمايتها بالقوة، دون ممارسة عمل في إحيائها واستثمارها، لأن الإسلام ربط الحق في الانتفاع بالأرض بعملية الإحياء واستثمار الأرض لصالح الإنسان، كما يشترط [4]الاستمرار في عملية الإحياء. وبالإضافة إلى ذلك لم يسمح الإسلام لولي الأمر بإقطاع الفرد شيئاً من مصادر الطبيعة إلا بالقدر الذي يتمكن الفرد من استثماره(1).
ومن هنا يتبين لنا مدى اهتمام فقهاء الإسلام ومفكريه بأهمية ومدى فائدته للفرد والجماعة . لكن ما هي الدائرة التي لها الإنتاج في الدولة ؟ إذ الإنتاج لا يتم إلا بتضافر قوى وعناصر مرتبط بعضها ببعض، وهذا هو ما سأتحدث عنه بالمباحث الآتية.
         

 إنتاج المسلم بين الإطلاق والتقييد:
والناظر في تشريعات الإسلام يظهر له بجلاء أن الإنتاج في الدولة الإسلامية ليس مطلقاً وإنما وضعت له ضوابط وقيود للصالح العام .
 قال الله تعالى:( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون) [5](1).
فالآية أشارت إلى أن المسلم أمر بالأكل، وهذا غير ممكن إلا بعد أن ينتج ويجب أن يكون إنتاجه في دائرة الحلال، أخذا من قوله "كلوا من طيبات وغير الطيب يحرم إنتاجه، ولا بد أن يكون الإنتاج شاملاً لجميع السلع والخدمات المفيدة، التي رزقنا الله إياها في الكون، ثم لا بد من شكر الله على هذه النعم، ومن شكرها ألا يستأثر بها أحد دون أحد، إلا بقدر ما يفيد الإنتاج   السليم.  
والمسلم ممنوع من إنتاج ما يؤذي الفرد ويضر المجتمع، وليس أدل على ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم- في شأن الخمر وإنتاجها-: (لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه) رواه أبو داود والحاكم[6](2).
وهكذا يظهر بجلاء أن من القيود التي وضعت على الإنتاج في الإسلام تقييده بعدم الإضرار بالمجتمع المسلم، على عكس الأنظمة غير الإسلامية التي لا تراعي ذلك، ففي المجتمع الرأسمالي مثلاً: لا يبالي بنوعية الإنتاج ما دام يدر ربحاً لصاحبه فهو ينتج مثلاً الخمر والخنزير ووسائل اللهو. فالأرض قد تستغل استغلالاً سيئاً لأجل الربح، فالأرض الزراعية  تترك، أو تزرع بالأزهار أو تجعل للصيد بينما المجتمع مهدد بالمجاعة، وهو في  أشد الحاجة إلى الحبوب


[1](1) النشاط الاقتصادي في ضوء الشريعة الإسلامية / غريب الجمال / ص11 بتصرف.                                                                                                                                            
(1)  سورة الجاثية، آية 13.
(2)   سورة النازعات آية، 30 .
(3)   سورة فصلت، آية10. 
(1)صحيح مسلم /جـ 5 ز ص 73 ز ط:دار المعرفة-بيروت.
(1)  الكافي /لابن قدتمه / جـ 2 /ص 448.
(3)يقول في فيض القدير / الحديث رواه البزار  وابو نعيم والدليمي عن انس وقال فيه المنذري : ان اسناده ضعيف وكذلك قاله الذهبي –أزهـ ز حـ  ص 88.
(2)  ابن ماجه / باب الوصايا/حديث 5 جـ 2 ص 904 وقد ضعف الحديث في الزوائد ويشهد له ما بعده  فهو صحيح.
ومسند أحمد / جـ 6  ص 441 وصايا.
(3)  بخاري /جنائز/ حديث 36 جـ 2 ص98 ط:مكتبة الحمهورية العربية المتحدة.
(4)  الكافي /لابن قدامه /  جـ 2 ص474.
(1)  بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع/ الكاساني / جـ2 ، ص227.
(2)  بلغة السالك لأقرب المسالك/ للشيخ أحمد الصاوي على الشرح الصغير، /للدرديري /  جـ2 ، ص227.
(3) انظر كتاب: أثر تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي في المجتمع، ص354، من مقال للدكتور/ زكي محمود شبانة.
[5] سورة البقرة، آية 172.
[6] الحديث صححه المناوي في فيض القدير ، ج5،ص267،ط الثانية.

Post a Comment

Previous Post Next Post