تنشيط الإنتاج الصناعي في الإسلام
- المطلب الأول : إقطاع المعادن :
       يقول أبو يعلى الفراء : ( المعادن – هي البقاع التي أودعها الله تعالى الجواهر في الأرض ) –
فهي ضربان :
1)   ظاهرة .
2)   باطنة .
أما الظاهرة – فما كان جوهرها المستودع فيها بارزاً كمعادن الكحل والملح والنفط فهو كالماء الذي لا يجوز إقطاعه والناس فيه سواء وحجة هذا الرأي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقطع رجلاً معدن الملح الذي بمأرب فقيل للرسول صلى الله عليه وسلم إنه بمنزلة الماء العد فرجعه الرسول صلى الله عليه وسلم منه[1] .
أما المعادن الباطنة : فهي ما كان جوهرها مستكنا فيها لا يوصل إليه إلا بالعمل كمعادن الذهب والفضة والصفر والحديد . فهذه وأشباهها معادن باطنة سواء احتاج المأخذ منها إلى سبك أو لم يحتج . فلا يجوز إقطاعها عند جمهور الحنابلة كالمعادن الظاهرة والناس فيها سواء .
لكن إن أحيا مواتاً فظهر فيه معدن ظاهراً أو باطناً ملكه المحيي على التأبيد، كما يملك ما استنبطه من العيون واحتفره من الآبار[2]
ويقول ابن قدامة في الكافي :
وليس للإمام إقطاع المعادن الظاهرة، وقال أصحابنا وكذلك المعادن الباطنة لأنها في معناها ويحتمل جواز إقطاعها ( لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث معادن القبلية جلسيها وغوريها رواه أبو داود ) .
ولأنه يفتقر في الانتفاع بها إلى المؤن فجاز إقطاعها كالموات والمقصود بجلسيها وغوريها مرتفعها ومنخفضها[3]
يقول ابن قدامه في الكافي :
ومن سبق إلى معدن ظاهر وهو الذي يوصل إلى ما فيه من غير مؤنة كالماء والملح والنفط أو باطن لا يوصل إلى ما فيه إلا بالعمل كمعادن الذهب والحديد كان أحق به فإن أقام بعد قضاء حاجته منع منه .
وإن طال مقامه للأخذ ففيه روايتان أحدهما يمنع والأخرى لا يمنع . وإن سبق إليه اثنان يضيق المكان عنهما أقرع بينهما . ومن شرع في حفر معدن ولم يبلغ النيل به فهو أحق به كالشارع في الإحياء ولا يملكه وإن بلغ النيل[4].
يقول الشوكاني حول حديث إقطاع الرسول صلى الله عليه وسلم لبلال المزني معادن القبلية : إن الحديث يدل على أنه لا يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن بعده من الأئمة إقطاع المعادن .
والمراد بالإقطاع جعل بعض الأراضي الموات مختصة ببعض الأشخاص سواء كان ذلك معدناً أو أرضاً بشرط إلا يختص بها أحد[5] . ويقول صاحب الروضة الندية شرح الدرر البهية : ويجوز للإمام أن يقطع من في إقطاعه مصلحة من أرض ميتة أو معادن . وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني، معادن القبلية جلسيها وغوريها[6]،[7] .
وقد قال في المنهاج – المعدن الظاهر لا يملك بالإحياء ولا بالتحجر ولا بالإقطاع لأن به إضراراً بالناس وتضييقاً عليهم ، أما المعدن الباطن وهو الذي يتعب عليه كالذهب والفضة والحديد والنحاس فإنه لا يملك بالعمل في الأظهر وفي رواية يملك وللسلطان إقطاعه ملكاً أو انتفاعاً لكن لا يقطع إلا ما يقدر عليه[8]
ويقول صاحب الغاية القصوى : المعادن وهي ظاهرة وباطنة : فالظاهرة ، كالنفط والمومياء . لا تتحجر، ولا تقطع [ لأن، أبيض بن حمال استقطع من رسول الله ملح مأرب فهم بإقطاعه فقيل له أنه كالعد فقال فلا إذاً ] ولا يملك منها إلا ما أخذ كمياه العيون . أما الباطنة كالذهب فيملك بالإخراج على الأظهر إذ هو محتاج إلى العمل[9] .
والذي يظهر لي : أن المسألة ليس فيها حكم قطعي يقوم عليه الاستدلال وإنما يبقى باب الاجتهاد فيها مفتوحاً على حسب ظروف الزمان والمكان . بحيث إذا رأى ولي أمر المسلمين أن المصلحة العامة تقتضي إقطاع بعض المعادن لجماعة من الناس يقومون باستصلاحها وإنتاجها فيقوم بإقطاعهم عملاً بحديث بلال بن الحارث .
وإن رأى أن المصلحة العامة تقتضي ألا يحتكر هذا المعدن جماعة أو فرد فله جعل هذا المعدن تحت تصرف الدولة أو يتركه لعموم الناس بحيث من جاء أو حفر منه وأخذ فله على قدر تعبه ولكن الأصل للجميع أخذاً بحديث أبيض بن حمال .
وبهذه الطريقة يتم تنشيط الصناعة حيث يستمر إنتاج مواردها الأولية كالحديد والنحاس والكحل والنفط على الدوام سواء عن طريق الدولة أو عن طريق الإقطاع المنتج، ولكن ما مدى تدخل الدولة في ذلك هذا هو ما سأتحدث عنه بالمطلب الآتي :
_المطلب الثاني : تدخل الدولة في استخراج المعادن
إن أسلوب الملكية الذي أقره الإسلام هو الأسلوب المزدوج فهناك ملكية خاصة أو ملكية عامة .
ولكل منهما وظيفة ولكل منهما مراقبة الآخر عندما ينحرف في استغلال هذه الملكية أو يستبد بها . فتدخل الدولة في استخراج المواد الأولية للصنعة من معادن ، وطاقة كهربائية ونحوها، وقطاع البترول يعتبر أحياناً أمراً لا بد منه بصفتها ممثلة تمثيلاً شرعياً للمجتمع وبالذات إذا كان هذا المعدن والطاقة والبترول كثيراً يعجز الأفراد عن استصلاحه وتنميته وخاصة في العصور المتأخرة لاحتياج الناس جميعاً إلى مثل هذه المواد .
يقول عيسى عبده في تدخل الدولة في المجال الصناعي :
تستولي الدولة على كافة المواد الصناعية الخام بصورة مباشرة أو غير مباشرة من مواد معدنية ونباتية . وبحكم استيلاء الدولة على هذه المواد يتيسر لها أن تنشئ مؤسسات صناعية كبيرة وتستولي على سير التصنيع في البلاد[10] ، ويقول شوقي دنيا في كتابه الإسلام والتنمية الاقتصادية :
إن الإسلام في تنظيمه الملكية قد أعطى وزناً نسبياً لأهمية الدولة في تعريف الملكية العامة خدمة للمصلحة العامة وذلك بصفتها ممثلة تمثيلاً شرعياً للمجتمع كله حيث وكل لها قطاع المعادن والطاقة والبترول ونحوها .
ولا شك أن هذا القطاعات هي الدعائم الرئيسية للقطاع الصناعي في جملته .
والذي يظهر لي أن تدخل الدولة في استخراج المعادن والاستيلاء عليها هو الذي ترجحه الأدلة وهو الذي تقتضيه المصلحة العامة خاصة إذا كان هذا المعدن كبيراً يستفيد منه أكبر كمية من الأفراد وأن الحديث الذي روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم : " الناس شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار ". يؤيد هذا الرأي بحيث لا بد من تدخل الدولة لاستخراج هذه المعادن لدفع الإنتاج وزيادته واستمراريته . يقول الدكتور زكي محمود شبانه في محاضرة له حول الاقتصاد الإسلامي : ( وبذلك يتعين أن يتم إنتاج الثروات الطبيعية الخام والصناعات الاستخراجية بالتنظيم من السلطة الشرعية ليتاح عن طريقها إقامة مشاريع كبرى لاستثمار تلك الثروات ووضعها في خدمة المجتمع الإسلامي )[11].
_ المطلب الثالث : إعانة الدولة للصنّاع :
بما أن الصناعة من فروض الكفاية ولا بد منها فقد اهتم بها الإسلام على مر التاريخ. وأعان الأمراء أصحاب الحرف اليدوية تشجيعاً للصناعة ودعماً لها بما يناسب عصرهم.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يعين الرجل الذي جاءه عاطلاً يطلب المسألة فأعطاه يد القدوم، ليحطب ويبيع)[12].
فبهذه الطريقة ينفع نفسه والمجتمع عن طريق هذه الصنعة وهل رصد الإسلام في ميزانية الدولة بنوداً للإنفاق على العلوم ونشرها والتي هي أساس الإنفاق للدين والمصالح الدنيوية كالصناعة ونحوها – فهذا ابن عابدين يقول : ( يجوز لطالب العلم أخذ الزكاة ولو كان غنياً إذا فرغ نفسه لإفادة العلم واستفادته )[13].

- المطلب الرابع : تشجيع عقد الاستصناع :
تعريف الاستصناع : عرفه فقهاء الحنفية بقولهم : عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل[14]. ويقول العلامة الكاساني في بدائعه :
صورة الاستصناع : هي أن يقول إنسان لصانع من خفّاف أو صفّار أو غيرهما اعمل لي خفا أو آنية من أديم أو نحاس من عندك بيمن كذا أو يبين نوع ما يعمل وصفته فيقول الصانع نعم .
الأصل في جوازه : أما في القياس فلا يجوز لأنه بيع ما ليس عند الإنسان، وإنما رخص فيه استحساناً بالإجماع لأنهم يعملون به في سائر الأعصار والأمصار[15].
شروط عقد الاستصناع :
يرى الأحناف أنه لا بد مما يأتي :
أولاً : بيان جنس المصنوع ونوعه وقدره وصفته .
ثانياً : أن يكون مما يجري التعامل به بين الناس مثل أواني الحديد والرصاص والنحاس والزجاج والخفاف ونحوها .
ثالثاً : ترك المدة لأنه إن حددت له مدة صار سلما وبعض الأحناف يرى أنه لا مانع من المدة [16].

أما حكم الاستصناع :
فهو ثبوت الملك للمستصنع في العين المبيعة في الذمة – وثبوت الملك للصانع في الثمن ملكاً غير لازم .
ويرى أبو يوسف في رواية له أنه لا خيار لهما بعد العمل والشروع فيه ، وذلك أن الصانع قد أفسد متاعه وقطع جلده وجاء العمل على الصنعة المشروطة ولو امتنع المستصنع عن أخذه لكان فيه إضرار بالصانع . وأبو حنيفة يرى التخيير دفعاً للضرر .
هل يثبت فيه الخيار ؟
أبو حنيفة ومحمد، يقولون يثبت فيه الخيار حال الرؤية. سواء وجده على الحالة التي وصفها أم لا، ويقول أبو يوسف : إن وجده على ما وصف فلا خيار له دفعاً للضرر عن الصانع[17].
ولعدم وجود مبرر لفسخ العقد وإلا فما الفائدة من إنشائه أصلاً، وفي الإلزام دفع للصناعة إلى الأمام ولتحقق الاستقرار ( ويرى المالكية – إن عقد الاستصناع جائز ويلحقونه بالسلم)[18] والذي يظهر لي :
إن عقد الاستصناع معاملة ضرورية وبخاصة في العصور المتأخرة للأسباب التالية :
أولاً : احتياج الناس إلى مقاولات عديدة مثل صناعة الأبواب ونحوها وكذلك الصناعات الثقيلة .
ثانياً : أن الجهل بالصنعة يمكن التغلب عليه عن طريق الإحصاءات والمواصفات الدقيقة . وهي مشروعية عقد الاستصناع تنظيم وتنشيط للقطاع الصناعي وضمان استمراره – ولذا فالأولى أن يكون عقده لازماً إذا تحققت المواصفات .

المطلب الخامس :
مشروعية الشركة للصناع : جاء في المدونة الكبرى لمالك : ( أرأيت في الصناع يشتركون على أن يعملوا في حانوت واحد وبعضهم أعمل من صاحبه فهل تجوز الشركة بينهم ؟ قال مالك : إذا اشتركوا على أن يعملوا في حانوت واحد فالشركة جائزة . وسئل – عن الحدادين والقصارين والخياطين والخرازين والصواغين والسراجين والفرانين ونحوهم هل يجوز اشتراكهم قال مالك :
إذا كانت الصناعة واحدة كخياطين أو صناعين فذلك جائز[19] )
ولو اختلفت الصنعة فهل يشتركان :
جاء في الإفصاح : ( يرى ابو حنيفة وأحمد صحة شركة الصانعين ولو اختلفت الصنعة سواء عملا جميعاً أو عمل أحدهما دون الآخر مجتمعين أو متفرقين[20]. ويرى مالك عدم صحة ذلك إن اختلفت الصنعة والمكان[21] )
حماية الإنتاج الصناعي
المطلب الأول
تنظيم العلاقة بين الصانع – وصاحب رأس المال:
أن يتقن الصانع صنعته التي طالبه بها صاحب رأس المال سواء كان أجيراً لديه أو شريكاً معه لقوله صلى الله عليه وسلم : "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" [22] رواه البيهقي . وحتى يستمر الإنتاج الصناعي في الدولة الإسلامية لم يترك الإسلام تنظيم العلاقة بين الصانع وصاحب رأس المال . بل وضع لها قواعد وأصولاً تضمن لكل منهما حقه .
       ومن ذلك ما يأتي : تضمين الصناع :
       عن بكر بن عبدالله بن الأشج أن عمر ضمن الصناع الذين انتصبوا للناس في أعمالهم ما أهلكوا في أيديهم[23] ، وكان علي يضمن الخياط والصباغ وأشباه ذلك احتياطاً للناس .
       وقال لا يصلح للناس إلا ذلك[24].
       وسئل مالك رحمه الله عن تضمين الحدادين والصناع فقيل له : ( أرأيت ان حبس الحدادون والقصارون والخياطون وأهل الصناعات، ونحوهم هذه الأشياء فضاع ذلك منهم بعد ما حبسوه . فقال رحمه الله : أما ما ضاع عندهم فليس لهم أجر وعليهم الضمان لأنه لازم بالعقد، إلا إن قامت بينة على الضياع فيبرؤون من الضمان ولا أجر لهم لعدم التسليم [25].
       يقول ابن فرحون المالكي في تبصرة الأحكام ( ومن السياسة الشرعية لقضاء بتضمين الصناع وشبههم – والصناع ضامنون لما استصنعوا أنفسهم لذلك سواء عملوا ذلك بأجر أو بغير أجر إذا عملوه في حوانيتهم أو دورهم مع غيبة صاحب المتاع)[26] .
       وحتى لا يباشر الصناعة من لا يتقنها فيفسد أحوال الآخرين فإنه يضمن ما أفسده .
       يقول شارح الروضة الندية : ( وهكذا من استؤجر على عمل معين فأقدم على العمل فيها غير عالم بالصناعة وأفسدها لتعاطيه ضمن)[27].
       وإن في التضمين فوائد كثيرة خاصة إذا فرط . فمنها أن يأخذ الصانع حذره وهو يباشر الصنعة وكذلك لحماية حقوق الاخرين من عبث الصناع وعدم اهتمامهم وفي هذا حماية للإنتاج الصناعي، ودعم له حتى يستمر مجوداً متقناً .
       ومن مظاهر تنظيم العلاقة بين صاحب رأس المال والصانع : أن يتقن الصانع ما وكل إليه من عمل بحيث يتحرى الدقة أثناء مباشرة العمل .
       ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه "[28]. فكلما أتقنت الصنعة ضمناً استمرار الإنتاج الصناعي بتعاون أصحاب رؤوس الأموال مع اليد العاملة الصانعة .

إتقان الصنعة ودور الحسبة في ذلك :
يقول ابن تيمية :
       ويدخل في الصناعات مثل الذين يصنعون المطعومات من الخبز والطبخ والعدس والشواء او يصنعون الملبوسات كالنساجين والخياطين ونحوهم . أو يصنعون غير ذلك من الصناعات فيجب نهيهم عن الغش والكتمان، ومنهم الكيمائيون الذين يغشون النقود والجواهر والعطر فيصنعون ذهباً أو فضة او عنبراً أو مسكاً أو جوهراً أو زعفراناً أو ماء ورد و غير ذلك[29].

المطلب الثاني

تنظيم العلاقة بين الصانع والمستهلك
       حتى يستمر الإنتاج الصناعي في الدولة الإسلامية بمرافقه المتعددة فلا بد من التعاون بين من يباشر العمل الصناعي ومن يستفيد من هذه الصنعة في داخل الدولة .
ومن مظاهر هذا التعاون :
أولاً : يحتكر الصناع صناعة معينة ليرفعوا على المستهلكين الأسعار، فهنا لا بد من تدخل الدولة . إما بشراء المصنع لتباشر الدولة العمل به او بفرض سعر عادل بينهما . لقوله صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار " [30] .
       ثانياً : لو مال الصناع إلى صناعة نوع من المعدات والناس بحاجة إلى نوع آخر لأنه يصلح للاستهلاك فلولي الأمر إجبار الصناع على مباشرة هذه الصنعة توفيقاً بين مصلحتهم ومصلحة المستهلكين ، يقول ابن القيم في الطرق الحكمية ( فصل ، ومن ذلك أن يحتاج الناس إلى صناعة طائفة فيلزم الحاكم إلزامهم بذلك[31] ) .
       ويقول ابن تيمية :
       ( في تقدير أجرة الصناع إذا أجبروا على عمل صناعة معينة ) : والمقصود هنا أن ولي الأمر إن أجبر أهل الصناعات على ما يحتاج غليه الناس من صناعاتهم كالفلاحة والحياكة والبناية فإنه يقدر أجرة المثل فلا يمكن المستعمل من نقص أجرة الصانع عن ذلك ولا يمكن الصانع من المطالبة بأكثر من ذلك حيث تعين عليه العمل وهذا من التسعير الواجب .
       وكذلك لو احتاج الناس إلى سلاح للجهاد فعلى أهل السلاح أن يبيعوه بعوض المثل ولا يمكثون من أن يحبسوا السلاح حتى يتسلط العدو أو يبذل لهم من الأموال ما يختارون[32].
       ثالثاً : ومن تنظيم العلاقة بين الصناع والمستهلك أن يعمد ولي امر المسلمين إلى منع الصناع بأنواع صناعاتهم من الغش والتدليس في صنعتهم، حتى تستمر العلاقة بينهما علاقة تعاون وثقة بين الطرفين، وبهذه الطريقة تضمن استمرار الإنتاج الصناعي حيث يؤدي دوره على أحسن مطلوب .
       وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه : " من غشنا فليس منا "[33] خير شاهد على وجوب حماية المستهلك من غش الصانع واحتيالاته المخالفة لأوامر الشرع الحنيف . جاء في معالم القربة في الباب الثامن والثلاثين وما بعده : ( الحسبة على النحاسين والحدادين فلا يجوز لهم إذا اشتروا قطعة نحاس فيها لح0امات إلا أن يطلع المشتري عليها، وإن كانت مما يبيض فيامرهم أن ينقشوا عليها بقلم غليظ حتى يعرفه المشتري ويدخل على بصيرة وإلا اعتبر غاشاً يثبت للمشتري الرد ويعزره المحتسب .
       ثم يقول : ويلزم الصناع ألا يخلطوا النحاس الأحمر مع السيسي ولا ضرب الحار مع البارد، ولا يكثروا الرصاص في النحاس المفرغ فإنه إن فعل منه آنية ونحوها وسقط انكسر سريعاً مثل الزجاج .
       ويقول : ويؤخذ على الحدادين ألا يضربوا سكيناً ولا مقراضاً ونحو ذلك من الحديد المطاوع اللين فإنه لا ينتفع به، فإن فعل ذلك عزره المحتسب ثم إن تكرر منه أقامه من أظهر المسلمين[34].
       رابعاً : ومن مظاهر تنظيم العلاقة بين الصانع المستهلك لحماية الصناعة من العبث منع الصناع من صناعة ما حرمه الله تعالى من مثل ما يضر بالعقيدة كصناعة التماثيل ، أو ما يضر بالأخلاق والقيم الإسلامية كصناعة الخمور ونحوها من حبوب مخدرة وما إلى ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا ضرر ولا ضرار " [35]. وقد باشر صلى الله عليه وسلم تكسير الأصنام بيده وهي على الكعبة وهو يتلو قوله تعالى ))وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً (( [36] .
       وقوله صلى الله عليه وسلم في شأن صناعة الخمر وإنتاجها :"  لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه" [37] .
       فالشاهد مما تقدم تحريم صناعة وبيع ما حرمه الله تعالى لتحقق الضرر في الدين والدنيا، وفي هذا أكبر تنظيم وحماية للإنتاج الصناعي المثمر ليتمكن المستهلك من ضمان الحاجات النافعة .
       خامساً : ومن مظاهر تنظيم العلاقة بين الصانع والمستهلك لكي نضمن الإنتاج الصناعي وبالتالي نوفر للمستهلكين ما يحتاجونه من هذا النوع أنه لا يحق لصاحب المصنع في الدولة الإسلامية أن يقوم بإغلاقه دون سبب ذلك ، وذلك تطبيقاً لقاعدة " لا ضرر ولا ضرار "[38].

المطلب الثالث

فرض مكوس على دخول الصناعات الأجنبية
       بما أن الأصل في الإسلام حرية التجارة فبناء على ذلك يجوز للأجانب إذا أذن لهم ولي أمر المسلمين أن يدخلوا صناعاتهم لبيعها في داخل الدولة الإسلامية[39] .
       ولا شك أنهم إذا دخلوا بعد الإذن لهم فلولي الأمر أن يفرض على صناعاتهم وسلعهم كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
       ( يقول أبو عبيد في الأموال ( وكان مذهب عمر فيما وضع من ذلك أنه كان يأخذ من المسلمين الزكاة ومن أهل الحرب العشر تاماً . لأنهم كانوا يأخذون من تجار المسلمين مثله إذا قدموا بلادهم )[40]
       ويقول صاحب الروضة الندية :
       ويجوز لولي الأمر أن يأذن للمحاربين في التجارة وأن يفرض عليهم ما يشاء من المكوس[41] .
       ولا شك أن فرض الضرائب على الصناعات الوافدة الأجنبية سيكون له اثر في دعم الصناعة الإسلامية، وفي ذلك دفع للمسلمين إلى اقتناء الصناعة المحلية فتنمو وتزدهر .
       وسيتجه الناس إلى الصناعات الإسلامية لرخصها وتوفرها في كل لحظة . وفي هذا دعم للإنتاج الصناعي المحلي وحماية والسير به إلى الأمام .
       لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا ضرر ولا ضرار " فكلما زيدت المكوس على صناعة هؤلاء فإن ذلك سيشجع المنتجين المحليين على مضاعفة إنتاجهم ودعم صناعتهم وإنزالها إلى الأسواق بأسعار تناسب الأفراد حتى تكتفي الأمة الإسلامية في يوم من الأيام عن المستورد تصبح أمة الإسلام أقوى الأمم وأعلاها بإذن الله ، يقول محمد عفر حول التبادل الصناعي والتجاري مع العالم الخارجي :

       إن ذلك يقوم على مبدأ تقييد التبادل الاقتصادي الخارجي ووضعه تحت رقابة الدولة . ويتخذ ذلك شمل حواجز جمركية وفرض رسوم وضرائب وغيرها خاصة علىالواردات من السلع الأجنبية وتقف خلف هذه الحماية عدة مبررات :
       منها : تحقيق الاستقلال الاقتصادي والأمن الغذائي ومنها توفير احتياجات الدولة دون التأثير بحالات الحرب أو انقطاع سبل المواصلات أو غيرها من الظروف، ومنها : حماية الصناعة الإسلامية الناشئة حتى تتطور وتستكمل مقومات نموها وإمكانية المناقشة الأجنبية[42] .

المطلب الرابع

منع الصناعات الخطرة التي تنافس الصناعات المحلية الإسلامية :
       بما أن الأجانب من يهود ونصارى ومحاربين لا يحق لهم دخول الدولة الإسلامية إلا بعد إذن ولي الأمر خاصة إذا كانوا تجاراً بسلعهم وصناعاتهم .
       فلو تبين أن الأجانب بعد الإذن لهم نافسوا صناعة إسلامية بحيث انصرف الناس عنها إلى تلك الصناعة الوافدة، فمن حق ولي الأمر منع هذه الصناعة من الدخول حماية للمنتج المحلي ودفعاً بالصناعة إلى الأمام – لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا ضرر ولا ضرار "[43] وذلك أنهم يمنعون من شراء ما يقويهم علينا من الصناعات ونحوها – وفي هذا يقول ابن قدامة :
       ( ويمنعون من شراء كل شيء فيه قوة لهم على المسلمين من السلاح والخيل والسرج والنفط والحديد الذي يعمل منه السلاح وكل ما كان عدة من عدد الحرب)[44] .
       يقول ابن رشد في مقدماته : ( ولا يجوز أن يباعوا شيئاً مما يستعينون في حروبهم من كراع أو سلاح أو حديد ولا أي شيء يرهبون به المسلمين في القتال ونحوه كبيعهم الرايات والنحاس لأنهم يعملون منه الطبول فيرهبون بها على المسلمين وإنما يباعون من العروض مالا يتقوى به في الحرب ولا يرهب في القتال كالكسوة التي يتقى بها الحر والبرد والطعام الذي لا يتقوون به ونحو ذلك[45] .
       وأما معاملة التتر فيجوز فيها ما يجوز في معاملة أمثالهم، ويحرم فيها ما يحرم في معاملة أمثالهم فيجوز أن يبتاع الرجل من مواشيهم وخيلهم ونحو ذلك كما يبتاع من مواشي الأعراب والتركمان والأكراد وغيرهم ويجوز أن يبيعهم من الطعام والثياب ونحو ذلك ما يبيعه لأمثالهم .
       فأما إن باعهم أو باع غيرهم ما يعينهم به على المحرمات كبيع الخيل والسلاح لمن يقاتل به قتالاً محرماً فهذا لا يجوز قال تعالى )) وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان (( [46] .
       ذلك أن القواعد العامة في الشريعة لا تعارض هذا المنهج أي : منع صناعتهم عن كانت تنافس صناعة الوطن بل تحبذه لصالح المسلمين . وذلك لقوله تعالى ))  ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار(( [47]


[1] أبو داود / كتاب الإمارة / جـ3، ص 175 / ط : دار الفكر . الترمذي وقد حسنه وصححه ابن حبان وذكر صاحب نيل الأوطار/ جـ5، صـ 349، وانظر كذلك لابن ماجه في سننه / كتاب الرهون / الباب / 17/ جـ2، صـ 827، وانظر الأموال/ أبو عبيد 683، والخراج / يحيى بن آدم 346. والأحكام السلطانية / أبو يعلى الفراء / ص 235، ط : الثانية .
[2] الأحكام السلطانية / أبو يعلى الفراء / ص 236 / ط : الثانية .
[3] ابن قدامة / الكافي/ جـ2، ص 439/ ط : الثانية. قال الشوكاني في الحديث أن في إسناده / أبا إدريس عبدالله بن عبدالله / أخرج له مسلم في الشواهد وضعفه غير واحد / نيل الأوطار / جـ5 / ص 349 . وانظر نيل الأوطار للشوكاني / جـ5، صـ 349/ ط : الحلبي. وانظر أبو داوود / جـ3/ ص173/ ط:  دار الفكر  . وجامع الأصول / جـ1 / ص 582 .
[4] ابن قدامة / الكافي / جت2، ص 441، ط : الثالثة .
[5] نيل الأوطار الشوكاني جـ5، صـ349، الناشر : الحلبي وأولاده – القاهرة، ط : الأخيرة .
[6] أي : العالي والمنخفض فيها .
[7] أبو داود جـ3/173/ جامع الأصول جـ1، ص 582 .
[8] الروضة الندية شرح الدرر البهية / جـ2، ص 137، 138 – الناشر : مكتبة دار التراث بالقاهرة .
[9] الغاية القصوى / في دراية الفتوى / على محي الدين ، جـ3، ص 640، 639 .
[10] النظم المالية/ عيسى عبده / ص 74 .
[11] ينظر أثر تطبيق النظام الإسلامي في المجتمع/ من البحوث المقدمة لمؤتمر الفقه الذي عقدته جامعة الإمام محمد بن سعود سنة 1396 ص 353 .
[12] رواه أبو داوود في سنته / جـ1، ص 121 . وكذلك ابن ماجه في سنته / جـ2، ص 740 .
[13] حاشية ابن عابدين / جـ2، ص 91 .
[14] بدائع الصنائع الكافي / جا5، ص 21 .
[15] بدائع الصنائع جـ5، ص4 .
[16] بدائع الصنائع جـ5، ص4 .
[17] بدائع الصنائع / الكاساني / جـ5، ص2 بتصرف .
[18] الشرح الصغير الصاوي جـ2، ص 92 .
[19] المدونة / جـ4، ص 23 .
[20] الافصاح / ابن هبيرة جـ2، ص5 .
[21] انظر المدونة جـ4، ص 23، وذلك الافصاح جـ2، ص6 .
[22] رواه أبو يعلى – والعسكري عن عائشة، رواه البيهقي بلفظ ( أن يحسن) ورواه الطبراني عن عاصم بن كليب عن أبيه ( يحب الله العامل إذا عمل أن يتقن) وقال في كشف الخفاء جـ1، ص 246، بعد تعديد الروايات والجهات المختلفة لهذا الحديث- إن صنيع الأئمة يقتضي ترجيح هذه الأسانيد وقال فيه الزرقاني في مختصر المقاصد : إن الحديث وارد ص 73 تحقيق محمد الصباغ / الذي علق قائلاً أن الحديث بمجموع طرقه يصل إلى درجة الحسن .
[23] كنز العمال جـ3، ص 922 .
[24] كنز العمال جـ3، ص 924 .
[25] المدونة الكبرى/ الإمام مالك / جـ3، ص 440 ط: دار الفكر بيروت .
[26] تبصرة الأحكام / للقاضي محمد بن فرحون المالكي وهي على هامش فح العلي لمالك في الفتوى على مذهب مالك / للقاضي عليش جـ2، ص 330 ط: دار المعرفة .
[27] الروضة الندية / شرح الدرر البهية / صديق البخاري / جـ2، ص 136 .
[28] البيهقي – وتقدم تحقيقه.
[29] الحسبة في الإسلام / ابن تيمية ص9، ط : الثانية .
[30] تقدم ذكره .
[31] ابن القيم ( السياسة الشرعية) ص 224 .
[32] الحبسة في الإسلام / ابن تيمية ص 16-17، ط : الثالثة .
[33] رواه مسلم / باب الإيمان – 164، وأبو داوود / بيوع – 50 ، ومسند أحمد / جـ2، ص 50 .
[34] معالم القربة/ القرشي/ ص 231، 232، بتصرف .
[35] تقدم تحقيقه ، ص 424 .
[36] الإسراء ، ىية 81 .
[37] الحديث رواه أبو داوود – والحاكم في مستدركه وصححه المناوي في قبض القدير جـ5، ص 267.
[38] تقدم ص 8424 .
[39] وتقدم أقوال العلماء، في ذلك في مبحث التجارة .
[40] الأموال / أبو عبيد / ص 473 .
[41] الروضة الندية / جـ1، ص 215 .
[42] السياسات الاقتصادية في الإسلام / محمد عفر / ص 302 .
[43] ص 424 من الرسالة .
[44] المغني ابن قدامة / جـ1، ص 481 . 
[45] مقدمات ابن رشد / بهامش المدونة الكبرى / مالك / جـ3، ص 348 .
[46] الماسئل الماردينية / ابن تيمية / ص 132، ط: المكتب الإسلامي – بيروت .
[47] هود / آية 133

Post a Comment

Previous Post Next Post