المغزى وعلاقته بتقنية الزمان والمكان:
تركز المقالة القصصية على المغزى، أو وحدة الانطباع، ويجعل كاتب المقالة القصصية المغزى نصب عينيه، ويوليه جل اهتمامه، فهدفه الأول من دمج القصة في مقالته هو الإقناع بالقضية التي يؤمن بها.
والمنفلوطي كانت فكرته الأساسية من مقالته القصصية معالجة مشكلة العلاقات المحرمة، والاهتمام بتربية النشء تربية صحيحة، فجاء عمله القصصي متحدا مع هذا الهدف، وقد هيمنت عليه هذه الفكرة فتفاعلت عناصره القصصية لخدمتها، ومع اهتمام المنفلوطي بالمغزى ونصه عليه في نهاية مقالته إلا أنه نجح في حماية مغزى القصة من الانفصال عن تقنيات السرد المختلفة التي وظفها لإقناع المتلقي بالمغزى الذي رمى إليه؛ فقد جاء مغزاه منسجما نابعا من تفاعل مختلف التقنيات الفنية، فخرج بصورة طبيعية، بل إن الناقد الحصيف يمكنه تسليط عدسته الناقدة لقراءة اللقيطة من زاوية لم  
ينص عليها المنفلوطي في خاتمة مقالته القصصية، ومرجع ذلك هو قدرة المنفلوطي الأدبية في تصويره للبيئة الزمانية والمكانية في العمل القصصي، وقد وقفت على دلالة (النهر) المكان الذي اختاره ليكون نهاية (اللقيطة) والمتلقي يستطيع أن يبحر في دلالة الزمن، ليس الزمن الفيزيائي التاريخي الذي يحسب بالساعات والسنوات، بل الزمن النفسي أو العضوي الذي يقاس بتفاعلنا مع الزمن التاريخي الذي طواه المنفلوطي بنصف صفحة وهو يحكي بداية مأساة (اللقيطة) وأنهاه بالتقرير والوعظ الذي ختم به العمل القصصي، لكن أثر الزمن النفسي الذي تفاعل مع عمر الضحية المظلومة والبائسة اللقيطة ظل ينمو، ويحقق نموا خارج حدوده الزمنية التاريخية كلما قرأنا هذه المقالة القصصية أو عنت بأنفسنا قصة (اللقيطة).
ونستنتج أن الزمان والمكان يشكلان فضاءً تجري فيه الأحداث وتتحرك في ساحته الشخصيات، مؤدية أدوارها متفاعلة فيما بينها.
وقد جرت أحداث القصة في أغلبها ليلاً حيث قابلها الرجل ليلاً، وقرأ الأب الرسالة ليلاً، وقدمت الفتاة اللقيطة تضحيتها في الحديقة ليلاً. هذا عن الزمن الحسي، أما الزمن النفسي فقد ظهر اهتمامه به لارتباطه بتنظيم الحبكة، وذلك لأن الزمن النفسي يتيح للقارئ أن يدخل عقلية الشخصية القصصية، ويبدأ بملاحظة الشخصية مع المشكلة أو الموقف26.

وقد ارتبط الزمن الحسي (الليل) بظلامه الدامس مع طبيعة المشكلة الأخلاقية التي أنتجت مأساة اللقيطة، وبالتالي اتفق مع الزمن النفسي، وميزة الزمن النفسي في مقالة المنفلوطي القصصية أنه أظهر انفعالات اللقيطة، وعواطف الرجل الكريم تجاهه التي شهدت تحولاً وتغيرًا من الشفقة والرحمة إلى القسوة والازدراء، ثم إلى الألم والندم في نهاية القصة.
وإذا ولينا وجوهنا شطر الفضاء المكاني، نجد أن القصة حدثت أولاً في زقاق من أزقة الأحياء الوطنية حيث قابل الرجل الكريم الفتاة اللقيطة، ثم في القصر وحديقة القصر حيث وقفت الفتاة في موقف التضحية، ثم انتهى بها الحال إلى النهر.
والمنفلوطي جعل الزقاق نهاية مرحلة عاشتها اللقيطة جاوزت العشر سنوات، وهذه النهاية رسمت ما طواه الزمن من أحداث جلاها الحوار المكثف الذي دار بين الرجل الكريم واللقيطة عندما قابلها في الزقاق فلخصت له ما حوت السنوات في إجابتها التي لا تتجاوز خمس العمل السردي، وأما الفضاء الثاني فهو القصر وحديقة القصر، وقد شهد هذا الفضاء المكاني اصطراع الشخوص وانفعالاتها فيما بينها وفي ذواتها، وقد نجح المنفلوطي في تقريبه للحدث السردي وجعله ممكنا وقريبا من الواقعية من خلال تفعيل الفضاء الزماني والمكاني وتسخيرهما لحكاية الحدث؛ فقد كان المنفلوطي دقيقا في وصفه للبيئة المكانية؛ ففي الكتاب الذي يحمل موعدا بين ابنة صاحب القصر وعشيقها يقول: (دخل صاحب القصر قصره ليلة من الليالي، فبينما هو صاعد في السلم عثر برقعة ملقاة، فتناولها فقرأ فيها هذه الكلمة: (سيدتي: أنا منتظرك عند منتصف الليل في بستان القصر تحت شجرة السرو المعهودة حبيبك). 
المنفلوطي في وصفه يرسم ملامح البيئة المترفة التي تجذب الأنظار، بينما نراه عند نقله للحوار بين الرجل الكريم والفتاة اللقيطة يظهر تواضعه وعدم تكبره، حيث أجرى على لسانه الحوار التالي: (أيتها الفتاة إني أحسنت إليك، واستنقذتك من يد البؤس والشقاء، فأسأت إليّ بما فعلت، حتى كدت أهلك حزنا وكمدا وألصق بابنتي ذنبك وأحمل عليها عارك، فاخرجي من منزلي، فاللئيم ليس أهلا للإحسان).
ودلالة الاسم (منزلي) لا يخفى على المتلقي ما تحمله من تواضع وعدم مباهاة، وهو بذلك جعل القارئ يقف على بعد من أبعاد شخصية هذا الرجل الثري الذي لم يؤثر الثراء على شخصيته فيتكبر ويعامل الفتاة معاملة فوقية قائمة على الفروق المادية.
أما الفضاء الثالث الذي شهد نهاية الحدث القصصي فهو النهر الذي يحمل دلالة الاتساع والاحتواء والنقاء والطهارة والحياة والغرق والموت والتلاشي، وقد جعل المنفلوطي هذا الفضاء (النهر) يحمل نهاية مأساوية، ولكنها مرضية لشخصية بطلة قصة اللقيطة: (فخرجت خائبة تتعثر في أذيالها، حتى وصلت إلى شاطئ النهر، وهنالك أخرجت مذكرتها من محفظتها، وكتبت فيها آخر كلمة خطتها أناملها: أحمد الله إني قدرت على مكافأة الرجل الذي أحسن إليّ بستر عاره، وإزالة همه وحزنه). ثم ألقت بنفسها في النهر، وما هي إلا دورة أو دورتان حتى افترق ذلك الصديقان الوفيان: جسمها وروحها، فطفا منهما ما طفا، ورسب ما رسب. وفي صباح تلك الليلة عثر رجال الشرطة على جثة الفتاة الشهيدة، فعرفوها، وعادوا بها إلى منزل سيدها، فبكاها بكاء كثيرا وندم على ما أساء به إليها من ردها وإزعاجها ثم أمر بدفنها، ولم يبق في يده من آثارها غير حقيبتها
لقد نجح المنفلوطي في تحميل المكان (النهر) دلالة الطهارة والاحتواء والنقاء، ومع أن الموت والغرق كان معنى ماديا حقيقيا برزت دلالته في الحدث الواقعي إلا أن المنفلوطي جعله مقبولا لدى المتلقي من خلال سرده الموحي الذي بيّن أن هذه النهاية كانت مرضية للبطلة التي أنهى المنفلوطي حياتها بمصير يشبه مصائر الأبطال، والمنفلوطي أراد هذه النهاية لإخراج مغزاه من مقالته القصصية من خلال تقنيات العمل القصصي الحدث والشخصية المتلبسة به.
إن المكان الذي لم يسهب المنفلوطي في وصفه عايشته الشخصيات والمتلقي معايشة وجدانية وفكرية جاءت من امتزاج استجاباتهم الجمالية وانفعالاتهم بانفعالات الشخصيات القصصية في مواقفها، وقد جاء الزمن الحسي الذي غلب عليه الليل، وكذلك الزمن النفسي الذي اتحد مع المكان باختلاف فضاءاته وأشكاله جزء لا يتجزأ من حبكة القصة، وفاعلا في تسيير الحدث، وقد أجاد المنفلوطي بإسباغ الوحدة على عمله القصصي مما ساعد على دعم مقالته القصصية بحجاج قصصي خاطب العقل فأقنعه والوجدان فأترفه وأمتعه.

Post a Comment

Previous Post Next Post