وقفات نقدية على مقالة المنفلوطي القصصية (اللقيطة):
أ‌- الأسلوب:
أحدث المنفلوطي في جيله تغييرا نوعيا في عالم الكتابة، تبشر بانعتاق الكتابة الأدبية من أسر التقليد والصنعة المتكلفة، فهو تخلَّص من ركاكة الأسلوب الغارق في أوحال التراكيب التركية والعامية؛ فوظف الأدب للتعبير عن الواقع الاجتماعي ومعالجته معتمدا على الاقتباس، والإفادة من الأدب الهادف المترجم ونقله في قالب لغوي منفلوطي خاص كان فاتحة القرن العشرين في فن الكتابة الأدبية.
وقد كانت القصة من أبرز أدوات الإقناع عند المنفلوطي في تناوله لمختلف القضايا الاجتماعية في مقالاته الإصلاحية، فقد كتبها، وترجمها. وفي مقالاته جعلها حجة على ما يذهب إليه؛ فما نكاد نقرأ  
عملاً أدبيًا للمنفلوطي يخلو من سرد قصصي، فقد سخر تقنيات القصة من حوار وأحداث وشخصيات لتعبر عن أفكاره الإصلاحية، ومشكلات المجتمع التي كان يبحث عن حلول لها، فيقوم السلوك الاجتماعي ويعالج سلبياته بأسلوب مباشر أحيانا، وبأسلوب قصصي غير مباشر أحيانًا.
وتعد الخطابية من سمات هذه المقالة اللفظية، وقد يؤاخذ الناقد المنفلوطي على خطابيته التي جاءت في خاتمته، ولكن برأيي ان عاطفة المنفلوطي الحارة والصادقة في رغبتها الأكيدة في الإصلاح فرضت عليه مد الصوت بالنداء بأسلوب خطابي منبه محفز لمواجهة هذه المشكلة العظيمة: يقول محمد يوسف نجم: (وامتاز المنفلوطي بأسلوبه الخطابي الذي كان تهذيبًا لأساليب أمراء البيان في عصور العرب الزاهرة، بحيث تلاءم مع حاجات الكتابة العصرية، وقد كان المنفلوطي يفلت من التقيد بتراث السلف في الصور والقوالب، إلا انه احتفظ ببعض لوازم هذا الأسلوب كالإفراط في الترادف والتوازن، والإسهاب في عرض الأفكار وجلائها في أزياء مختلفة).16
لقد أخذ المنفلوطي على عاتقة هم تحريك الناس نحو الفضيلة، وكان دفع الناس للنهوض والسمو على أنفسهم وشهواتهم مغزى وهدفًا له في كتاباته الأدبية على اختلافها؛ فلا غرابة في بروز الخطابية في مقالته.
اهتم المنفلوطي بالتحليل النفسي الدقيق للشخصيات القصصية التي تمثل فئات اجتماعية مختلفة، وقد تميز تحليله بالصحة والمصداقية  
وهذا ناتج عن مطالعته لأحوال الناس ووقوفه على مشكلاتهم حيث تظهر معرفته الثاقبة في طبائع الناس وأخلاقهم.
استطاع المنفلوطي أن يوفر في مقالته عناصر المقالة؛ حيث جدد في أسلوب عرضه للفكرة الرئيسة التي نقدها والمتمثلة في جريمة (الزنا) النكراء، وما تخلفه من آثار وخيمة في المجتمع، وكذلك جدد في عرضه الفكرة الثانية وهي مسألة التربية الصحيحة للنشء، وقد ذكر رأيه وآراء العقلاء من خلال تسليط الضوء على مشاهده السردية التي عرضها في مقالة قصصية واضحة أفضت مقدمتها وأحداثها التي عرضها إلى نتائج مأساوية وفت بالغرض والهدف من كتاباتها، وقد عالج هاتين المشكلتين بأسلوب ظهرت فيه قدرته على الطرح الجديد الممتع الذي لا يصيب القارئ بالملل.
اهتم المنفلوطي بأسلوبه وقد صب فكرته بقالب قصصي سخر قدراته اللغوية والتصويرية لبث الحياة والواقعية في قصة اللقيطة لإيصال المغزى الذي رمى إليه للوقوف ضد الجرائم الأخلاقية، وقد اتسم أسلوب المنفلوطي بالوضوح والقوة والإمتاع، وكانت فكرة المنفلوطي الاجتماعية المتمثلة بمواجهة الانحراف الأخلاقي واضحة المعالم لديه لا غبش على رؤيته في مكافحتها وتقويمها لذا كان تعبيره متوافقًا مع أسلوبه الواضح.
عرف عن المنفلوطي عنايته بجمال العبارة وعدم التكلف، وتجنب التعقيد، وكان يهتم بإثارة العواطف، وقد تناسق ذلك مع طبيعة الموضوعات التي كان يتناولها والتي غلب عليها الطابع الاجتماعي والإصلاحي
ب‌- التقنيات الفنية في مقالة اللقيطة:
ترتكز المقالة القصصية على عنصر السرد والوصف والحوار؛ وهذا يدفعنا لإلقاء الضوء على التقنيات الفنية ودورها في المقالة القصصية.
1- السرد:
السرد بنية لغوية تتعلق بحدث حقيقي أو خيالي، أو أكثر يقوم بتوصيله واحد أو اثنان أو عدد من الرواة لواحد أو اثنين أو عدد من المروي لهم 17.
والسرد لغة: التتابع في الحديث. يقال: سرد الحديث ونحوه يسرده سردا إذا كان جيد السياق له. وفي صفة كلامه صلى الله عليه وسلم: لم يكن يسرد الحديث سردا، أي يتابعه ويستعجل فيه 18
والسرد مصطلح نقدي حديث يعني (نقل الحادثة من صورتها الواقعة إلى صورة لغوية).19
ويعرفه الناقد عدي مدانات بقوله: هو (عرض فني للحادثة أو الواقعة التي اختارها الكاتب، وهو أساس القصة وعمودها الفقري) 20. وقد كان السرد من أهم التقنيات التي اعتمدها المنفلوطي في مقالته، حيث كان يعتمده في تتبع الفضاء الزماني والمكاني لربط الشخصيات بالخلفية البيئية، وربطها بالحدث من أجل نقله للمتلقي لإقناعه بالرؤية الاجتماعية والفلسفية التي تبناها المنفلوطي وخطط لإيصالها للمتلقي بتقنية السرد، لذا كان يتوخى  
الدقة اللغوية في مقالته؛ ذلك أن عماد السرد يتمثل بالتراكيب اللغوية، إن السرد أو الوصف يساعد على التطور في الحدث، ونقل الحدث والمشاعر إلى المتلقي بعد أن يرويها بروح الكاتب وثقافته.21
لقد اعتمدت مقالة اللقيطة تقنية السرد والمباشرة والتركيز على الفكرة المعضدة بالتحليل والشرح والتقويم، وإضافة إلى ذلك فإن تقنية السرد تبدو في تتبع الحدث والحوار ورسم الشخصية بأحوالها المختلفة التي تخدم الفكرة التي وضعها الكاتب هدفه ومحل اهتمامه.
2- الشخصيات:
وعندما نعود إلى "اللقيطة" نجد أن الشخصيات قد أدّت في القصة دورًا مهمًا في تحريك الأحداث وتطورها وجعلها مترابطة متكاملة، ونسج خيوطها والسير بها إلى النهاية عن طريق أفعالها وأقوالها وتحركاتها، من خلال شخصيات رئيسة وهي الفتاة اللقيطة والرجل الكريم والرجل اللئيم الذي تبنى اللقيطة وهناك شخصيات ثانوية مثل ابنة الرجل الكريم وشخصية الحبيب الذي تسبب في بداية العقدة والصراع. وبالإضافة إلى هذه الشخصيات نجد شخصية الوالدين اللذين تسببا في إنجاب هذه الفتاة البريئة وتركها وحيدة تصارع الحياة وآلامها.
وتبنت شخصية الفتاة اللقيطة وشخصية الرجل الكريم قيمًا خالصة حميدة مثلتها الفتاة؛ حيث تبنت قيمًا كالصبر والتضحية والكفاح والاعتماد على النفس والإيثار. كما تبنى الرجل الكريم قيم الرأفة وحب الخير ومساعدة الآخرين
اتخذ المنفلوطي الطريقة الإخبارية، وتمثل الأسلوب المباشر الذي يعتمده الكاتب في وصف شخصيات المقالة القصصية، كما يصف الأشياء المتعلقة بها من أوصاف أو تركيبة نفسية أو طريقة تعامل وهكذا.
وميزة هذه الطريقة أنها تسرع في تقديم الشخصية للقارئ مما يساعد على فهمها ومعرفتها مبكرا وتوقعه لما يمكن أن يصدر منها، كما يعاب على هذه الطريقة أنها قد تقطع مسيرة التتابع والتدفق في أحداث القصة.
واتبع المنفلوطي الطريقة التحليلية في عرض شخصياته؛ حيث إنه وضح بشكل مبسط كرم الرجل العظيم والقيم الأخلاقية التي تبناها، ومدى أسى الفتاة وقوة الصبر التي تتحلى بها وعفتها وتضحيتها وخوفها على نفسها من الرجل اللئيم، كما وصف ابنة الرجل الكريم المدللة المتغطرسة المتأثرة بالتربية الحديثة.
كما نلاحظ أن المنفلوطي لم يذكر أسماء لشخصياته فهو جاء برجل عظيم نكرة، والفتاة اللقيطة لم يذكر اسمها بما يفتح للمتلقي المجال للإبحار في البحث وراء مدلولات الأسماء. واتخذ المنفلوطي أسلوب الضمير الغائب لسرد القصة.
3- الحبكة:
اعتمد المنفلوطي في عرضه لفكرته بأسلوب قصصي على عنصر الحبكة، وقد جاءت الحبكة في (اللقيطة) منظمة، فلم يقدم حدثا على حدث بل جاءت وفق التنظيم الاعتيادي الذي يسير عليه الحدث القصصي في الواقع.
ومصطلح الحبكة يشير إلى (تخطيط) أو حبك شيء على نحو مقصود مخطط، وهو ما يفعله القاص: فهو يحبك خيوط العمل القصصي  
ليوصل القارئ إلى نتيجة ما. والحدث يكتسب أهميته من خلال الشخصية الرئيسة التي يوظفها القاص تكون مركز الاهتمام أو بؤرة الصراع.22
والمنفلوطي وضع نصب عينيه إيصال فكرته ورؤيته الفلسفية، لذا وظف حبكته الفنية للنهوض بهذا الهدف فجاءت منظمة تسير وفق التنظيم التاريخي الطبيعي للحدث القصصي كما هو على أرض الواقع، فبدأ بعرض القصة من بدايتها، وقدم شخصياته الأساسية (الرجل الغني واللقيطة)، واعتنى برسم البيئة الزمانية والمكانية التي كانت فضاء للحدث الذي بدأت عقدته من أول لقاء حيث أدخلنا إلى الحدث القصصي بصورة تدريجية، وقد جعل شخصية ابنة صاحب القصر مؤثرة في نمو شخصية والدها وكذلك شخصية اللقيطة، وقد كان نموها وتفاعلها مع الحدث لا ينبع من ذاتها بل من سرد القاص، وقد طوّر العقدة بتركيز وسرعة لم تخل برسمه لمعالم الشخصية ظاهريا، حيث استطاع أن يصعد بجميع الشخصيات إلى اللحظة التي بلغت فيها الحبكة أقصى درجات التكثيف والانفعال عندما وجد الرجل الغني الرسالة التي أرسلها الرجل إلى ابنته للخروج معه في الليل، وقد أشرك الفتاة اللقيطة في الحدث فازدادت العقدة تأزما ثم بدأت تنفرج الأزمة بعد أن جعلت الفتاة اللقيطة نفسها مكان ابنة صاحب القصر، وقد كان هذا الحدث بداية لإنهاء التوتر، ولكن المنفلوطي يعود ليؤزِّم الموقف مرة ثانية؛ فقد جعل الأزمة التي رافقت والد الفتاة تستمر بعد أن انتحرت اللقيطة وظهر  
ندمه على طرده لها حيث تتشابك الخيوط أكثر من ذي قبل بعد وفاتها؛ إذ تنكشف ابنته على حقيقتها، ثم تنكشف التضحية التي قدمتها الفتاة المسكينة لستر عار ابنته؛ فقد سجل في حله للأزمة وختامه لها الصراع الفكري والعاطفي والديني الذي عاشته الشخوص التي تآزرت للتعبير عن فلسفة المنفلوطي.
وقد جاءت حبكة المنفلوطي حبكة صاعدة23 حين أبرز نجاح شخصية اللقيطة في واقعها النفسي والعقلي؛ فقد ألقت بنفسها بعد أن أحست أنها ردت جميل من أحسن إليها.
وكانت حبكته حبكة نازلة 24 في ما آلت إليه شخصية صاحب القصر الذي تحطم نفسيا وعاطفيا وعقليا بعد أن جاءت نتيجة تعليمه لابنته وإنفاقه عليها وتضحيته من أجلها انحرافا وخيانة وتمردا على الفضيلة والعفاف والقيم النبيلة.
استطاع المنفلوطي أن يسمعنا صوته في (اللقيطة)، ويمكن أن نصنفه بأنه (الراوي الكلي العلم)25.
لقد كان المنفلوطي ينتقل بين شخصياته ويتحرك معلقا على تصرفاتها محللا لمواقفها من وجهة نظره، مصادرا لصوتها الداخلي في أغلب الأحيان، لذا لم نجد حضورا للمونولوج الداخلي. والمنفلوطي  
مصلح اجتماعي فلا غرابة ان يصادر صوت الشخصيات، وينطقها بما يراه مناسبا، ومتوافقا مع ما حدده من معلومات أراد أن يوصلها إلى القارئ، ومع أنه عني بإيصال ما حدده من معلومات إلا أن سرده اتسم بإجادة الحبكة الفنية التي حمت عمله القصصي من السرد الإخباري البحت، ويلحظ المتلقي عدم تسليم المنفلوطي لشخصياته زمام السرد، بل تولى ذلك، وشخصية المنفلوطي ومكانته الأدبية والإصلاحية أعطت المتلقي الثقة بطرحه، بل لا يكاد يختلف اثنان على أن تعليلات المنفلوطي وتفسيراته ناتجة عن بنيته العقلية والنفسية التي اتفقت مع شخصياته التي تتفق مع الواقع الاجتماعي.
4- لحظة التنوير.
النهاية تفصح عن البداية المجهولة التي أتى بها المنفلوطي؛ ففي النهاية أتى بالعتاب على الوالد القاسي المتسبب في إيذاء براءة طفلة وجعل حياتها حياة بائسة حزينة كسيرة القلب. "فيا أيها الوالد المجهول، الذي قذف بتلك الفتاة البائسة في بحر هذا الوجود الزاخر، أعلمت قبل أن تفعل فعلتك التي فعلت أنك ستبرز إلى هذا العالم فتاة تلاقي شقاءه وآلامه ما لا قلب لها باحتماله ؟؟
كما أتى بالنصح إلى جميع الآباء. "ويا أيها الآباء العظماء: إن كنتم تريدون أن تسلموا بناتكم إلى هذه المدينة الغريبة تتولى شأنهن وتكفل لكم تربيتهن فانتزعوا من جنوبكم قبل ذلك غرائز الشهامة والعزة والإباء والأنفة حتى إذا رزأكم الدهر فيهن وفجعكم في أعراضهن وقفتم أمام ذلك المشهد هادئين مطمئنين لا تتعذبون ولا تتألمون".

ويا أيها الناس جميعًا: لا تحلفوا بعد اليوم بالأنساب والأحساب، ولا تفرقوا بين تربية الأكواخ وتربية القصور، ولا تعتقدوا أن الفضيلة وقف على الأغنياء وحبائس على العظماء، فقد علمتم ما أضمر الدهر في طيات أحداثه من رذائل الشرفاء وفضائل اللقطاء.
هكذا استطاع المنفلوطي أن يجمع فكرته الرئيسة في نهاية مقالته القصصية وأوقف المتلقي بصورة مباشرة أمام المغزى من هذه المقالة القصصية، وأبرز هدفه من مقالته بأسلوب مباشر، ومع ذلك لم تذهب هذه المباشرة في الحديث رونق القصة الفني ولم تخل بأسلوبها المؤثر، ولا غرابة في ذلك فقد سطرها فارس من فرسان البيان، ومصلح اجتماعي حمل كلمته الرسائل الهادفة لبناء المجتمع وإصلاحه.

Post a Comment

Previous Post Next Post