تعريف المقالة القصصية.
عرفت المقالة بأنها نوع من الأنواع الأدبية النثرية، تدور حول فكرة واحدة، تناقش موضوعا محددا، أو تعبر عن وجهة نظر ما، تهدف إلى إمتاع القراء بفكرة معينة، أو إثارة عاطفة عندهم، ويمتاز طولها بالاقتصاد، ولغتها بالسلاسة والوضوح، وأسلوبها بالجاذبية والتشويق.10
كما أنها تتميز بالطابع الذاتي، وشدة الانفعال، ويتغلب الوجدان بحرارته على رزانة الفكر11
وتتميز المقالة القصصية إضافة إلى ما سبق بارتكازها على عنصر السرد والوصف والحوار، حيث يحتاج كاتب المقال إلى تصوير الأحداث تصويرًا يعتمد على السرد الذاتي؛ إذ يقوم بسرد الأحداث على لسانه، ويتجه إلى تسجيل لقطات حية شاهدها ومواقف اجتماعية وإنسانية عاشها، وقد سخط عليها أو تعاطف معها، الأمر الذي يوفر لها الحيوية والفعالية، ويكسبها بعدا واقعيًا يجعل القراء أكثر قربًا منها وأكثر اقتناعًا بها.
إذن فالمقالي عندما ينزع إلى التصوير القصصي تكتسب كتابته اسم "المقالة القصصية"، وهي قريبة من الأقصوصة إلى حد بعيد؛ إذ تقدم حكاية أو جزءًا من حكاية.
إن هذه المرونة في شكل المقالة جعلت بعض الآثار الأدبية في مكان ما بين القصة القصيرة والمقالة كثيرة جدًا.
إذن فالمقالة القصصية هي ثمرة تمازج فن المقالة وفن الأقصوصة، فهي تبدو للمتلقي بعد أن هدم الفاصل بين هذين الفنين، وبعد أن امتزجا وانسجما أيما انسجام.
لقد نمت المقالة بصورة عامة والمقالة القصصية بصورة خاصة نموا سريعا في ظل الصحافة التي دفعتها إلى الأمام دفعات إيجابية، فوصلت إلى عدد كبير من القراء، وقد أخذت طرقها إلى القلوب والعقول، وما كان تبني الصحافة للمقالة إلا بسبب تلاؤم فن المقالة بطوله وطريقة معالجته مع النشر الصحفي؛ وأسلوب القص يتفوق على غيره من الأساليب حيث يجتذب القارئ ويمسك بزمامه ويستولي على عاطفته وعقله.  
أنواع المقالة القصصية.
1 ـ البنية القصصية الجزئية.
تعني المقالات التي لا تشكل فيها البنية القصصية مساحة كبيرة ولا تكون الغاية الأساسية للمقالة، وإنما تأتي لإلقاء الضوء على غاية المقالة كأن تكون أداة شرح وإيضاح واستدلال.12
2ـ البنية القصصية الكلية.
هي المقالات التي يشكل فيها الطابع القصصي مساحة كبيرة في فضاء المقالة، ويأتي غاية في نفسه أي أن المقالة كتبت من أجله وهو يهيمن على مضمون المقالة حتى عنوانها.13 ومقالة المنفلوطي التي بين أيدينا هي من البنية القصصية الكلية.
ثالثًا: خصائص المقالة القصصية.
لقد لاحظ أحد الدارسين أن بعض مقالات المنفلوطي تقترب من الشكل القصصي، فذكر أنه يمكن أن نعد ذلك من قبيل الأقصوصة المقالية، أو "المقالة القصصية" ذلك لأن هذا الشكل المقالي يجمع بين خصائص المقال وسمات الأقصوصة. ففيه من المقال "السرد والمباشرة والتعويل على الفكرة، مع التعليل والتفسير والتعليق"، وفيه من الأقصوصة "الحدث والحركة والحوار ورسم الشخصية وتصوير المواقف".14 
والمقالة القصصية تتميز عن المقالة بخاصتين هما:
1- أنها أميل إلى الذاتية، فكاتبها يطلق العنان لخواطره ومشاعره، كأنه شاعر ينظم قصيدة غنائية.
2- أن الكاتب يمزج الخواطر والمشاعر بالسرد والوصف، فيحدث في الأسلوب ضربًا من التنويع، وبالتالي يخفف من الطابع الذاتي الذي يغلب على المقالة القصصية 15.
المقالة القصصية ودورها الاجتماعي الإصلاحي:
تتوجه المقالة القصصية غالبا إلى المجتمع لوصف الأحوال الاجتماعية، وبما أن المنفلوطي كاتب هذه المقالة القصصية أخذ على نفسه قيادة الإصلاح في المجتمع فإنه سلط عدسته الناقدة لتتبع الخلل الكبير في المجتمع من خلال استنهاض القيم الإنسانية لمحاربة هذا الخلل، والمقالة القصصية وعاء فني يتميز بمرونته التصويرية والتعبيرية التي تمكنه من عرض المشكلة الاجتماعية؛ فهي أداة مثلى تمكن الكاتب من القيام بدوره الريادي في الإصلاح، لذا فإن توظيف المقالة القصصية ضرورة ملحة للإصلاح الاجتماعي، وليست ترفا فنيا، بل هي قالب فني يسخره الأديب لمواجهة التخلف والجهل ومحاربة الرذيلة، ومواجهة الآثار السلبية الناجمة عن تأثر الشرق بالغرب في الأخلاق، وما سببه من تمييع للغيرة والقيم، وتضييع للفضيلة والحياء، وما تبع ذلك من تبرج واختلاط وسقوط للمرأة في وحل الرذائل. إن هذه الموضوعات وغيرها من أمراض اجتماعية يعد مادة ثرية خصبة لكتاب المقالة الإصلاحيين الذين وضعوا نصب أعينهم هدف التغيير في المجتمع، ولا شك أن مواجهة دعاة التحرر بالأسلوب  
الأمثل للرد عليهم ومواجهة أفكارهم التخريبية سيقوض هذه الدعوات، ويدحضها بأسلوب مؤثر فعال، فالمقال القصصي يستمد قوته من الفكرة الناضجة التي اقتنع بها الكاتب، ومن القالب الفني الفعال الذي كرسه لعرض فكرته على المتلقي من خلال المشاهد القصصية السردية التي أودع فيها أفكاره الإصلاحية للقضايا الاجتماعية.
ومما ساعد على قوة الأسلوب في مقالة (اللقيطة) حيوية القضية وحضورها في المجتمع، وقد أكسب المنفلوطي هذه القضية حيوية من خلال توظيفه للكلمات الموحية والصور الخيالية الرائعة من ذلك قوله): مر عظيم من عظماء هذه المدينة في زقاق من أزقة الأحياء الوطنية في ليلة من ليالي الشتاء، ضرير نجمها، حالك ظلامها، فرأى تحت جدار متداع فتاة صغيرة في الرابعة عشرة من عمرها جالسة القرفصاء وقد وضعت رأسها بين ركبتيْها؛ اتقاء للبرد الذي كان يعْبث بها عبث النكْباء بالعود، وليس في يدها ما تتقيه به إلا أسمال تتراءى مزقها (قطعها) في جسمها العاري كأنها آثار سياط المستبدين في أجسام المستعبدين.. وقف الرجل أمام هذا المشهد المحْزن المؤثّر وقْفة الكريم الذي تؤْلمه مناظر البؤس، وتزْعج نفسه مواقف الشقاء ثم تقدّم نحوها ووضع يده على عاتقها فرفعت رأسها مرتاعة مذعورة وهمّت بالفرار وهي تصيح: لا أعود لا أعود.)
من الواضح حرصه على تنويع الأسلوب بين التقديم والتأخير، والخبر والإنشاء، والوصل والفصل.
وقد أدرك المنفلوطي أهمية توفير الجمال في أسلوبه لإمتاع المتلقي فجاء سرده متسما بلمسات أكسبته الجمالية والتأثير، ولنا مع عناصر القصة التي أثرت في أسلوب المقالة وقفة متأنية.  
سار المنفلوطي في مقالته وفق ترتيب أظهر براعته الأدبية، حيث جعل المقدمة تمهيدا لخص حياة اللقيطة، وجعله متصلا بالعرض، ومنتهيا بصورة طبيعية إلى الخاتمة والنتائج.
وقد ظهر الصدق والعاطفة الحارة في طرحه الذي جمع بين الإمتاع والإقناع ومرجع ذلك حسن اختياره للظاهرة المجتمعية الناتجة من انحراف أخلاقي تعدى حدود القيم والأخلاق بل حدود الإنسانية، ومع أن مشكلة اللقطاء ليست بجديدة إلا أن ملاحظة المنفلوطي الذكية، وعدم تأثره بغيره بأسلوب الطرح والمعالجة، وتأنيه وابتعاده عن إطلاق الأحكام التعميمية، وعدم تسرعه في تقديم النتائج، كل ذلك جعل مقالته القصصية تؤثر بالمتلقين على كافة اختلاف شرائحهم وميولهم ليقفوا وقفة رافضة ومواجهة للانحراف، والتنبه إلى أثر المدارس الأجنبية في الأجيال التي تتلقى في هذه المدارس الأجنبية قيما لا تمت للبيئة العربية بصلة.

Post a Comment

Previous Post Next Post