الإنتاج الصناعي في الإسلام :
وتحته تعريف وتمهيد وعدة مباحث :
تعريف الصناعة . .  يقول في مختار الصحاح . الصناعة بالكسر حرفة الصانع وعمله .
ويقول في القاموس المحيط :
والصناعة . ككتابة حرفة الصانع وعمله المصنعة ومنه صنعة الفرس القيام عليه .
وكل هذه التعاريف متقاربة تدور حول تعريف الصناعة بأنها عمل الصانع وحرفته .
وقيل العلم المتعلق بكيفية العمل .
والصناعة حرفة الصانع ، وعمله المصنعة . وصنع الشيء يصنعه صنعا فهو مصنوع وصنيع عمله . والصناع الذين يصنعون بأيديهم .
تمهيد :
اهتم الإسلام بالصناعة ، ولفت النظر إلى أهميتها في قوة الأمم وثرائها ودعا إلى النهوض بها وإلى العناية  بالعاملين بها ضمانا لوفرة الإنتاج وجودته وإعدادا لوسائل القوة والعزة .
ولما كانت الصناعة وسيلة من وسائل تحقيق المصالح بين آحاد الناس وفي الوقت نفسه وسيلة من وسائل تنمية ثروة أفراد المجتمع المسلم وزيادة إنتاجه وزيادة استقراره وأمنه ، فقد أقرها الإسلام ودعا إلى ممارستها بالطرة الشرعية حتى يتسنى للمسلمين عمارة الأرض وتعم السعادة الدنيوية والأخروية كل فرد من أفراد المجتمع المسلم ، وإنه كلما أعتمدت أمة الإسلام على نفسها في تنشيط الصناعة وحمايتها كلما زاد أمنها واستقرت أوضاعها وزاد إنتاجها وبالتالي عم الرخاء كل فرد من أفراد دولة الإسلام ، وكلما رهبهم أعداء الله من الكفار وغيرهم من الأعداء وبذلك تتمكن أمة الإسلام من نشر الدعوة وتأمين طريقها لتصل إلى أركان المعمورة إما سلما أو حربا ، قال الله تعالى : ( وما أرسلناك إلا كافة للناس ) .  وقال تعالى : ( ليظهره على الدين كله ) . وقال تعالى : ( إن الدين عند الله الإسلام ) . وقال تعالى : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) . ويقول تعالى ( وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله ) .
ولكن كيف تتحقق معنى هذه الآيات بالقوة .
قال تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله ) .
والقوة في كل شيء ومنها ما هو موضوع حديثنا القطاع الصناعي ، يقول ابن خلدون في أهمية الصناعة :
       ( إنها ثانية أوجه المعاش الطبيعية بعد الزراعة . لأنها مركبة وعلمية تصرف فيها الأفكار والأنظار ، وقد نسبت إلى إدريس الأب الثاني للخليفة وأنه مستنبطها لمن بعده من البشر بالوحي من الله تعالى )
الأدلة على اهتمام الإسلام بالإنتاج الصناعي :

1)   الأدلة من الكتاب .
2)   الأدلة من السنة . 
3)   فعل الصحابة .
* حكم الصناعة في الإسلام وأقوال الفقهاء في ذلك :
أ- الأدلة من القرآن : قال الله تعالى : )) وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (( [1]. يقول القرطبي :
في قوله تعالى : )) وأعدوا لهم (( أمر الله سبحانه المؤمنين بإعداد القوة للأعداء بعد أن أكد تقدمه التقوى فإن الله لو شاء لهزمهم بالكلام وبحفنة من تراب كما فعل رسول الله e عند الهجرة . ولكنه تعالى أراد أن يبتلي بعض الناس ببعض بعلمه السابق .[2]
قال ابن عباس : القوة هاهنا السلاح والقسي وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله e . وهو على المنبر يقول : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، إلا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي[3].
والقوة لا تقوم إلا على الصناعة، ففي الآية دعوة إليها، والشرائع لا بد لها من قوة تؤيدها، ولذلك عقب الله ذكر إنزال الكتب السماوية مع الرسل بذكر إنزال الحديد الذي هو رمز القوة والبأس، وذكر الله آلات القتال وأدوات الحرب )) لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط . وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز (( [4].
يقول ابن الجوزي في قوله تعالى ))  وأنزلنا الحديد ((  يتحمل أمرين :
أحدهما : أن الله تعالى أنزل مع آدم السندان والكلبتين والمطرقة .
       والثاني : إن معنى أنزلنا أنشأنا وخلقنا وفي قوله تعالى ))  فيه بأس شديد ((  قال الزجاج وذلك أنه أن يمتنع به ويحارب به، وفي قوله : منافع للناس في أدواتهم وما ينتفعون به من آنية وغيرها[5] .
       يقول ابن عباس في تفسير قوله تعالى  ))وأنزلنا الحديد ((  أي خلقناه فيه بأس شديد أي قوة لا تلينه إلا النار وفي قوله :)) منافع للناس((  أي : لأمتعتهم مثل السكاكين والفأس والمبرد وغير ذلك[6] .
ويقول الشوكاني في فتح القدير : وأنزلنا الحديد . أي خلقناه في المعادن وعلم الناس صنعته في بأس شديد، لأنه تتخذ منه آلات الحرب، قال الزجاج يمتنع به ويحارب، والمعنى – أنه تتخذ منه آلة للدفع وآلة للضرب ومنافع للناس – أنهم ينتفعون به في كثير مما يحتاجون إليه في مثل السكين والفأس والإبرة وآلات الزراعة والتجارة والعمارة [7]. ولأهمية الحديد في الصناعة ولأنه يعتبر أهم مواردها الأولية يذكر القرآن الكريم الحديد وفوائده ويلفت نظر الناس إلى استخراجه والانتفاع به خاصة لنصرة الحق .
       يقول تعالى حكاية عن ذي القرنين صاحب السد : )) آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً قال آتوني أفرغ عليه قطراً (( [8] .
       يقول القرطبي : ( قوله آتوني زبر الحديد ) أي : أعطوني قطع الحديد فجمعه وساوى به بين جانبي الجبل ثم صار ذو القرنين يأمرهم بنفخ الأكيار، فصار الحديد كالنار . ثم يؤتى بالنحاس المذاب ويصب عليه إلى أن صار جبلاً صلداً قوياً وارتفاع السد بلغ مائتي ذراع وخمسين ذراعاً[9] . يقول شهيد الإسلام سيد قطب :
       وقد استخدمت هذه الطريقة حديثاً في تقوية الحديد فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته وصلابته وكان هذا الذي هدى الله إليه ذا القرنين وسجله في كتابه الخالد سابقاً للعلم البشري الحديث بقرون لا يعلمها إلا الله [10] .
وقال تعالى مشيداً بنوح عليه السلام عندما كان يقوم بصناعة سفينة النجاة :
)) واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا أنهم مغرقون . ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون((  [11].
يقول القرطبي : عكف نوح عليه السلام مائة سنة يغرس الشجرة ويقطعها وييبسها ومائة سنة يعملها وكان لا يعلم صناعة السفينة فأوحى الله إليه أن اصنعها كجؤجؤ الطائر[12] أي وسط الطائر وشكله .
ويقول ابن الجوزي في زاد المسير : ( واصنع الفلك ) أي اعمل السفينة، فقال : يارب كيف أعملها؟ فأوحى إليه أن اجعلها الرأس كرأس الطاووس والجؤجؤ كجؤجؤ الطائر والذيل كذنب الديك، وعجل فقد اشتد غضبي على من عصاني . واستأجر نجارين يعملون معه وأولاده حتى أتمها [13] .
وقد أشاد القرآن بداود عليه السلام عندما كان يحترف صناعة الدروع. قال تعالى )) وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون(( [14] .
يقول القرطبي في الآية عدة مسائل :
-الأولى : قوله تعالى ))  وعلمناه صنعة لبوس ((  بمعنى اتخاذ الدروع بإلانة الحديد له . واللبوس عند العرب السلاح كله درعاً كان أو جوشناً أو سيفاً أو رمحاً .
- الثانية : قوله تعالى )) لتحصنكم من بأسكم ((   أي ليحرزكم من بأسكم أي من حربكم .
- المسألة الثالثة : بين القرطبي أن هذه الآية أصل في اتخاذ الصنائع والأسباب وأن من طعن بذلك فقد طعن بالكتاب والسنة[15] .
وذلك أن الله تعالى أخبر عن نبيه داود أنه كان يصنع الدروع ويصنع الخوص ويأكل من عمل يده[16] .
وقد أشار القرآن إلى صناعة اللباس وامتن الله بها على عباده . قال تعالى )) والله جعل لكم من بيوتكم سكناً وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين ((  [17] .
يقول الشوكاني : إن الله جعل لكم من جلود الأنعام وهي الأنطاع والأدم بيوتاً كالخيام والقباب، يخف عليكم حملها في الأسفار وغيرها وكذلك جعل لكم الصوف والوبر والشعر تستعملون منه أمتعة للبيت وما يستعمل اللباس ونحوه .
وقد أشار القرآن إلى الصناعة ومستلزماتها :
وذكر الله كثيراً من الصناعات وأنها من نعم الله علينا ومنها على سبيل المثال لا الحصر :
قال تعلى )) يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون (( [18] فذكر صناعة اللباس الذي يستر العورات ويكون جمالاً وزينة .
وهناك تلازم بين شرع الله اللباس وبين التقوى فالأول يستر عورات البدن والثاني يستر عورات القلب ويطهره .
فالشاهد من الآيات السابقة :
أن القرآن الكريم لفت النظر إلى أهمية الصناعة بأنواعها المتعددة سواء كانت تحويلية أم إنشائية مما يفيد القطاع الزراعي والتجاري والحيواني والاستهلاكي والحربي والاقتصادي ونحوها . مما لا يدع مجالاً للتشكيك أن الإسلام أولى الصناعة بأنواعها المتعددة العناية الكبرى ووضع الخطوط العريضة للاهتمام بها وتنظيمها وتنشيطها ، لم يبق للأمة الإسلامية في وقتنا المعاصر أدنى عذر في عدم تشجيع الإنتاج الصناعي ووضع الحوافز لتطويره إن هي أرادت العزة والغلبة على أعدائها . وإليك التفصيل من السنة في المبحث الآتي :
ب- الأدلة من السنة :
وأما السنة المطهرة فمليئة بالأدلة التي تبين حث الرسول صلى الله عليه وسلم فيها المسلمين على الصناعة في عهده وتشجيعه إياهم وإقرارهم عليها .
فمن الأدلة القولية : قوله صلى الله عليه وسلم " ما أكل أحدكم طعاماً قط خيراً من عمل يده وأن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده "[19] .
والصناعة بأنواعها من كسب اليد وعملها ، وقوله صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن أطيب الكسب ، قال : " كسب العامل إذا نصح "[20].
فالشاهد من الحديثين أن الصناعة اليدوية بأنواعها المتعددة تعتبر ولا شك من عمل الرجل بيده وأنها من الكسب الطيب إن شاء الله والصناعة بأنواعها من ضمن ذلك .
وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي – عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله يدخل ثلاثة نفر الجنة بسهم واحد صانعهم يحتسب في صنعته الخير والرامي ومنبله "[21].
ولقد لبس الرسول صلى الله عليه وسلم أدوات الصناعة ، فكان صلى الله عليه وسلم يخرج إلى الحرب لابساً خوذة الرأس وعليه درع القتال حاملاً سيفه مما يدل دلالة قطعية على وجوب الأخذ بالأسباب وإلا لتركه صلى الله عليه وسلم واستسلم للقضاء والقدر مع أنه رسول من الله .
ويقول ابن القيم في زاد المعاد : كان صلى الله عليه وسلم ينفق من الفيء على نفسه وأهله نفقة سنتهم. ويجعل الباقي في القراع ، والسلاح عدة في سبيل الله عز وجل[22].
ذكر بعض الأنواع في عهده صلى الله عليه وسلم من الصناعات :
- أولاً : صناعة الصواغين :
وفيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يختلى خلاها . فقال العباس إلا الإذخر فإنه لقينهم فقال إلا الأذخر "[23] . أي لصناعتهم يشغلون فيه، وفيه أن علياً رضي الله عنه واعد صواغاً من بني قينقاع أن يرتحل معه فيأتيان بإذخر ليبيعه على الصواغين ويستعين به رضي الله عنه على وليمة العرس [24].
- ثانياً : وعقد البخاري باباً في الحدادين والقين، فقال : باب ذكر القين والحداد : عن خباب قال : (كنت قيناً في الجاهلية وكان لي دين على العاص بن وائل، فرفض أن يقضيني حتى أكفر بمحمد فقلت له لا أكفر حتى يميتك ثم يبعثك)[25].
- ثالثاً : صناعة الخياطة :
وفي البخاري : ( إن خياطاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعام صنعه )[26]
- رابعاً : صناعة النسيج :
وفي البخاري عن سهل بن سعد أن امرأة جاءت ببردة منسوجة قد نسجتها بيدها فأهدتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [27]  .
- خامساً : صناعة النجارة :
وفي البخاري : عمن سهل بن سعد جاء أناس يسألونه عن المنبر فقال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة لها غلام نجار وأمرها أن يصنع له المنبر فعملت فجيء به وجلس عليه صلى الله عليه وسلم انتهى بما معناه[28].
- سادساً : وجود الحدادين :
جاء في الترتيب الإدارية ( أصل صناع الحديد والورق في الدولة الإسلامية أنه عليه السلام لما افتتح خيبر سبى فيما سبى ثلاثين قيناً وكانوا صناعاً سماسر وحدادين، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم "اتركوهم من المسلمين ينتفعون بصناعتهم ويتقوون بها على جهاد عدوهم فتركوا لذلك "[29]

ممارسة الرسل والأنبياء عليهم السلام لبعض أنواع الصناعة :
يقول القرطبي :
إن نبي الله داود كان يعمل الدروع ويصنع الخوص ويأكل من عمل يده، وكان آدم عليه السلام حراثاً ، وكان نوح عليه السلام نجاراً ، ولقمان كان خياطاً ، وطالوت دباغاً[30]  .
فالشاهد مما تقدم :
أنه صلى الله عليه وسلم وسائر الرسل أقروا مبدأ الصناعة بأنواعها المتعددة التي تخدم الفرد والجماعة ويقوي بالتالي الدولة الإسلامية ، وتساعد الأمن والاستقرار .
فلم يبق عذر للأمة الإسلامية في وقتنا المعاصر في عدم التقدم في الإنتاج الصناعي في شتى ميادينه الخفيف منه والثقيل حتى نستطيع أن نضمن لكل فرد من أفراد أمتنا حياة العز والكرامة .

ما ورد في ذم استخراج المعادن والإجابة عن ذلك :
روى ابن عباس أن رجلاً لزم غريماً له بعشرة دنانير، فقال : والله لا أفارقك حتى تقضي أو تأتيني بحميل، قال : فتحمل بها الرسول صلى الله عليه وسلم فأتاه بقدر ما وعده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم من أين أصبت هذا الذهب قال : من معدن، قال لا حاجة لنا فيها ليس فيها خير، فقضاها عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم[31].
الإجابة عن ذلك :
جاء في عون المعبود – في الإجابة عن قوله : لا حاجة لنا به . فذلك لعله بسبب علمه صلى الله عليه وسلم فيه خاصة لا من جهة أن الذهب المستخرج لا يباح تموله وتملكه، فإن عامة الذهب والفضة مستخرجة من المعادن. ومعلوم / إقطاعه صلى الله عليه وسلم بلال بن الحارث معدن القبلية، ويحتمل أن يكون ذلك من أجل أن أصحاب يبيعون ترابها ممن يعالجه فيحصل ما فيه من ذهب أو فضة وهو غرر لا يدري هل يوجد فيه شيء منهما أولا، وكره بعض العلماء بيع تراب المعادن .
وهناك وجه الإجابة عن الحديث – وهو أن معنى قوله لا حاجة لنا فيه أي ليس فيها رواج ولا لحاجتنا فيها نجاح وذلك أن الدين الذي عليه كان دنانير مضربة والذي جاء به تبر غير مضروب وليس بحضرته من يضربه دنانير وكانت تحمل إليهم من بلاد الروم[32].

ما ورد من الأدلة بشأن النهي عن صناعة البناء والإجابة عنها :
بعض هذه الأحاديث لا يصل إلى درجة الصحة منها :
1-  قوله صلى الله عليه وسلم " إذا أراد الله بعبده هوناً أنفق ماله في البنيان "[33]
2-  ومنها حديث عبدالله بن مسعود الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من بنى فوق ما يكفيه كلف أن يحمله يوم القيامة على عنقه "[34].
3-  ومنهاما روى أنه صلى الله عليه وسلم " نهى عن الركوب على جلود السباع وعن تشييد البناء" [35]
وأما ما روى عنه كقوله :
1-  عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أراد الله بعبد شراً خضر له في اللبن والطين حتى يبني "[36].
2-  وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر ببنية قبة لرجل من الأنصار فقال : ما هذه ؟ قالوا قبة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " كل بناء وأشار إلى رأسه – أكبر من هذا فهو وبال على صاحبه يوم القيامة "[37].
3-  وعن أبي العالية أن العباس بن عبد المطلب بنى غرفة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم اهدمها فقال : أهدمها أو أتصدق بثمنها فقال اهدمها .[38]
فالظاهر من هذه الأحاديث ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحذر من البناء الذي يشغل عن طاعة الله تعالى ، أو كان لغير غرض شرعي، أو زاد فيه على الحاجة لأنه من قبيل الإسراف المنهي عنه.
وقد أشار إلى ذلك المناوي حيث قال : في حديث ( إذا أراد الله بعبد شراً خضر في اللبن والطين حتى يبني ) أي يحمله على البناء فيشغله ذلك عن أداء الواجبات ويزين الحياة وينسيه الممات، خاصة إذا كان لغير غرض شرعي أو أدى لترك واجب أو فعل منهي أو زاد عن الحاجة فذلك هو المتوعد عليه / انتهى [39].
فعليه لو بنى الإنسان بما يناسب عصره وعرف الناس فلا مانع من ذلك بشرط عدم بناء أماكن لا يستفيد منها ولا تشغل ويعد هذا إسرافاً، ومن بنى ليؤجر ويحل مشكلة السكن فلا حرج عليه . حيث أباح الله التجارة – من بيع واجارة ونحو ذلك، ولو حصل شح في الأراضي وارتفاع في أسعارها ، واتفق عرف الناس على استغلال جهة العلو فالذي يظهر لي أنه لا مانع من ذلك شرعاً سواء كان للسكنى أو للتأجير لحل مشكلة إسكان المسلمين، ويستأنس لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم [ من بنى بنياناً في غير ظلم ولا اعتداء كان له أجر جار ما انتفع به من خلق الرحمان ][40]
فالخلاصة أن المنهي عنه صناعة البناء إذا صد عن ذكر الله، أو بنى لغير حاجة أو أسرف في البناء بما يخالف ما تعارف عليه الناس، أو قصد به التكاثر والتباهي أو عمل من حرام أو صرف في حرام ونحو ذلك.
جـ . فعل الصحابة :
       وقد باشر الصحابة ميدان الصناعة وتعلموا مبادئها وأصبح بعض منهم حاذقاً فيها، فهذا خباب بن الأرت يعمل حداداً وهذا عبدالله بن مسعود يعمل رامياً، وهذا سعد بن أبي وقاص يعمل نبالاً، والزبير خياطاً[41] وغيرهم كثير عمل في مجال الصناعة ، ولا شك أن هؤلاء الصناع في الدولة كانوا يجدون التشجيع من الدولة ممثلة بخلفائها.

تشجيع عمر رضي الله عنه للإنتاج الصناعي :
يروي السيوطي : ( إن عمر رضي الله عنه عندما أخبره المغيرة بن شعبة حاكم الكوفة أن لديه عبداً لديه جملة صنائع فيها منافع للناس – فهو حداد، نقاش، نجار أذن له عمر رضي الله عنه بسكنى المدينة مع أن ذلك كان ممنوعاً بالنسبة لهؤلاء[42] . يقول عباس العقاد :
       ( ولم يفت عمر الحرص على معرفة التي تخترع منها منافع للناس في أمر المعاش، فطلب إلى أبي لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة أن ينجز ما ادعاه من اختراع طاحون تدار بالهواء وهو من علم الصناعات ولا شك في ذلك كما انتهى إليه في عصره فلا يصيره أنه قسط ضئيل بل حرصه عليه مع ضآلته دليل على ما يلقاه من تشجيع الصناعة يوم يراها جليلة كبيرة الآثار[43].
ومما تقدم يتبين لنا وجوب ممارسة النشاطات الصناعية داخل الدولة الإسلامية تطبيقها لقاعدة عند علماء الإسلام ( ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ) فقد طلب الله منا إعداد القوة في قوله تعالى )) وأعدوا لهم مااستطعتم من قوة ومن رباط الخيل(( [44].
فكيف تستخدم القوة إن لم تستخدم وسائلها وعلى رأسها الإنتاج الصناعي وهي من فروض الكفاية بمعنى أن المجتمع الإسلامي من الضروري أن تتوافر بين أفراده من كل ذي حرفة ومهنة من يكفيها حاجتها، من مختلف المنتجات الصناعية والاستهلاكية، فإذا لم يوجد من بينها من ينهض بهذه الحرفة والمهن أثم المجتمع كله وخاصة أولي الأمر ومن بيدهم شئون الحل والعقد .

وإليك أقوال الفقهاء : يقول ابن تيمية في الحسبة :
       ومن ذلك أن يحتاج الناس إلى صناعة ناس آخرين، مثل حاجة الناس إلى الفلاحة والنساجة والبناية، فإن الناس لا بد لهم من طعام يأكلونه وثياب يلبسونها ومساكن يسكنونها.
       وكان في عهده صلى الله عليه وسلم يجلب لهم من الثياب ما يكفيهم من اليمن ومصر والشام وكان أهلها كفاراً وكانوا يلبسونه بدون غسل . ولا شك أنه إذا لم يجلب لأهل البلد ما يحتاجونه فإنهم سيحتاجون إلى من ينسج لهم الثياب ولا بد لهم من طعام إما مجلوب من غير بلدهم وإما من زرع بلدهم وهذا هو الغالب، وكذلك لا بد لهم من مساكن يسكنونها فيحتاجون إلى البناء[45].
       ويتابع ابن تيمية كلامه فيقول :
       وقال غير واحد من الفقهاء من أصحاب الشافعي ، وأحمد بن حنبل وأبي حامد الغزالي، وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم : إن هذه الصناعات – فرض على الكفاية – فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بها كما أن الجهاد فرض على الكفاية إلا أن يتعين فيكون فرضاً على الأعيان[46].
ثم يقول القرطبي، في حكم تعلم الفروسية وصناعة الأسلحة واستعمالها إنها من فروض الكفاية – وقد يتعين -[47] .
ويقول ابن القيم في الطرق الحكمية :
إن هذه الأعمال متى لم يقم بها شخص واحد صارت فرض عين عليه، فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صارت هذه الأعمال مستحقة عليهم يخبرهم ولي الأمر عليها بعوض المثل، ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل، ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم وألزم من صناعته الفلاحة أن يقوم بها ألزم الجند بألا يظلموا الفلاح كما يلزم الفلاح بان يفلح[48] .
يقول ابن الحجاج في كتاب المدخل في حكم الصنائع :
(إن جميع الصنائع فرض على الكفاية في الغالب، لكن بعضها آكد من بعض )[49].
ثم يقول ابن الحجاج في المدخل في صناعة الخياطة مثلاً : إن هذه الصنعة من أكثر الصنائع وهي من فروض الكفاية، لأنها متعلقة بستر العورة وذلك فرض على المسلم . (( وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم )) [50] .
ثم يقول للتأكيد على عدم الغش فيها :
إنه يتعين عليه النصح في صنعته جهده ليحصل الثواب وآكد عليه أن يجنبه المفاسد في صنعته فإن ضررها متعد إلى كل من يشتريها[51] .

ويقول الغزالي في حكم الصناعة :
( أما فرض الكفاية هو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب، إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان  وكالحساب فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما، وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل البلد – وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين، فلا يتعجب من قولنا أن الطب والحساب من فروض الكفايات . فإن أصول الصناعات أيضاً من فروض الكفايات كالفلاحة والحياكة والسياسة بل الحجامة والخياطة فإنه لو خلا البلد من الحجام لسارع الهلاك إليهم بتعريض أنفسهم للهلاك، فإن الذي أنزل الداء وأرشد إلى استعماله وأعد الأسباب لتعاطيه فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله[52] .


[1] الأنفال / اية 60 .
[2] مسلم/ باب الإمارة حديث 167 جـ6، صـ52 .
[3] الجامع لأحكام القرآن / القرطبي / جـ8، صـ 35 .
[4] الحديد آية 25 .
[5] زاد المسير في علم التفسير / ابن الجوزي  جـ8، ص 174، ط : أولى .
[6] تنوير المقباس من تفسير ابن عباس، صـ 459 دار الكتب العلمية – بيروت .
[7] فتح القدير
[8] الكهف / آية 96 .
[9] الجامع لأحكام القرآن / القرطبي / جـ6، صـ 61،62.
[10] ينظر/ ظلال القرآن / سيد قطب/ جـ5، صـ 412 .
[11] صورة هود / آية 38 .
[12] القرطبي جـ9، صـ 31، ط : الثانية .
[13] زاد المسير في علم التفسير / ابن الجوزي جـ4، ص 101، ط : أولى .
[14] الأنبياء / آية 80 .
[15] تفسير القرطبي جـ11، ص 320، ط : الثانية : وينظر في هذا المعنى صفوة التفاسير : محمد الصابوني، جـ 2، ص 270 .
[16] القرطبي / جـ11، ص 320، ط : الثانية .
[17] النحل / 80 .
[18] الأعراف / آية 26 .
[19] رواه البخاري / في كتاب البيوع / الباب / 15/ وانظر فتح الباري – ج4، ص 303 .
[20] الحديث رواه أحمد في مسنده جـ2، ص 334 .
[21] رواه أبو داود / جهاد / باب 23 / جـ3، صت 13 دار الفكر، والنسائي/ جهاد / 26 / جـ2، صـ28 .
[22] رواه البخاري / في باب الجهاد / الباب / 80 وفي فتح الباري جـ6، صـ93، زاد المعاد / ابن القيم/ صـ397 .
[23] فتح الباري جـ4، صـ 317 .
[24] فتح الباري جـ4، صـ 316 .
[25] فتح الباري جـ4، صـ317 .
[26] فتح الباري جـ4، صـ 318/319 .
[27] فتح الباري جـ4، صـ 318 .
[28] فتح الباري جـ4، صـ 319 .
[29] ذكره في الجامع الصغير / السيوطي / جـ2، صـ7، وذكره صاحب التراتيب الإدارية / الكتاني/جـ2، ص75 .
[30] تفسير القرطبي جـ11، ص 321 ، ط : الثانية .
[31] أخرجه أبو داود/ كتاب البيوع/ جـ3، صـ 143 .
[32] عون المعبود / شرح سنن أبي داود / جـ1، ص 175 .
[33] رواه الطبراني  في الأوسط / وقال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد أن فيه من لم أعرفه جـ4، ص70 وضعفه المناوي في فيض القدير جـ1، ص 265 .
[34] رواه الطبراني في الكبير وفيه المسيب بن واضح ضعفه جماعة – قال الهيثمي في مجمع الزوائد جـ4، صـ 70 .
[35] رواه الطبراني في الكبير – وقال عنه الهثيمي في مجمع الزوائد أن فيه يزيد بن سفيان أبو المهزم. قال أحمد : ما أقرب حديثه فهو متروك وضعفه الناس جـ4، صـ70 .
[36] الحديث رواه الطبراني في الصحيح . ويقول الهيثمي في مجمع الزوائد جـ4 ، صـ 69، أني لم أجد من ضعفه ولكن المناوي في فيض القدير قد ضعفه م انظر جـ1، ص 264 .
[37] الحديث رواه الطبراني في الأوسط ، وقال عنه الهيثمي في المجمع أن رجاله ثقات، انظر المجمع جـ4 صـ 70 .
[38] رواه الطبراني في الكبير، وقال عنه الهيثمي أنه مرسل. ورجاله رجال صحيح جـ4، ص 70.
[39] المناوي / فيض القدير / جـ1، ص 274-265 .
[40] الحديث رواه أحمد – والطبراني في الكبير / وقال عنه الهثيمي في مجمع الزوائد إن فيه زياد بن فايد ضعفه أحمد ولكن وثقه أبو حاتم / جـ4، ص 70 .
[41] الخراج / يحيى بن آدم / تقدم .
[42] تاريخ الخلفاء السيوطي / ص 133 . وانظر كنز العمال جـ12، ص 681 .
[43] عباس العقاد / عبقرية عمر / ص 250 .
[44] الأنفال / آية 60 .
[45] الحسبة / ابن تيمية، ص 13 ، ط : الثانية .
[46] الحبة / ابن تيمية، ص 13، ط : الثانية .
[47] الجامع لخكام القرآن / القرطبي جـ8، صـ36 ز
[48] الطرق الحكمية في السياسة الشرعية / ابن القيم صـ290 .
[49] المدخل لابن الحجاج جـ4، صـ4 .
[50] سورة النحل / آية 81 .
[51] المدخل / جـ4، ص 21.
[52] إحياء علوم الدين  / أبو حامد الغزالي / جـ1، ص 15، وينظر / الحلال والحرام / يوسف القرضاوي .

Post a Comment

Previous Post Next Post