العلاء بن عبد الرحمن الحرقي (ت 132هـ)
قال ابن قتيبة في سياق حديثه عن نافع بن جبير بن مطعم "وجلس في حلقة العلاء بن عبد الرحمن الحرقي وهو يقرئ الناس.."[1]، وقال في مكان آخر من كتاب المعارف، عند ذكر رجال القراءات:
"العلاء بن عبد الرحمن الحرقي، هو من الحرقة، وكان يقرئ الناس، والأغلب عليه الحـديث"[2]. ولم يترجم له ابن الجزري في الغاية. أما ابن حبان فقد عده من مشاهير العلماء بالمدينة، وقال: "كان متقنا ربما وهم"[3].
إلى غير هؤلاء من مشايخ التابعين ممن ضمتهم رحاب المسجد النبوي في زمن الطلب من حياة نافع، وكلهم كانوا تحت سمعه وبصره، ومعهم أمثالهم ممن ذكرت له رواية مباشرة عنهم كما سيأتي، وحسبه أن تكون مصادره في القراءة ورواية العلم من هذا الطراز، وكفاه نبلا أن يزاحم بالمناكب رجالا من مشايخ العلم في الإسلام جلس كثير منهم في الحلقات نفسها التي جلس فيها إلى أولئك الشيوخ، من أمثال ربيعة الرأي وابن شهاب الزهري ومحمد بن إسحاق صاحب السيرة ومالك بن أنس إمام المذهب، وهذا ابن شهاب الزهري يقول متحدثا إلى مالك عن مصادره في العلم: "جمعت هذا العلم من رجال في الروضة، منهم سعيد بن المسيب وأبو سلمة، وعروة، والقاسم، وسالم، وخارجة، وسليمان، ونافع"[4].
وكأن نافعا القارئ كان على موعد مع هذا المناخ العلمي الرفيع، لاسيما في امارة عمر بن عبد العزيز الذي وجه النداء في عهد ولايته إلى علماء المدينة، ثم عهد خلافته إلى كل مكان له عليه سلطان، فقد روى عكرمة بن عمار[5] قال: سمعت كتاب عمر بن عبد العزيز يقول:
"أما بعد فأمر أهل العلم أن ينشروه في مساجدهم، فإن السنة قد أميتت"[6].
وعن جعفر بن برقان[7] قال: "كتب إلينا عمر بن عبد العزيز: أما بعد فأمر أهل الفقه والعلم من عندك فلينشروا ما علمهم الله في مجالسهم ومساجدهم والسلام" [8].
ولم يكتف عمر بذلك، بل نجده يحدث لأهل العلم منحا خاصة ووظائف راتبة في مقابل التفرغ لنشره، فعن سعيد بن أبي مريم[9] قال: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى والي حمص: انظر إلى القوم الذين نصبوا أنفسهم للفقه وحبسوها في المساجد عن طلب الدنيا، فأعط كل واحد منهم مائة دينار يستعينون بها على ما هم عليه من بيت مال المسلمين حين يأتيك كتابي هذا، وان خير الخير أعجله" ـ وفي رواية ـ "مر لأهل الصلاح من بيت المال بما يغنيهم، لئلا يشغلهم شيء عن تلاوة القرآن وما حملوا من الأحاديث"[10].
وعن يحيى بن أبي كثير[11] قال: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: أن أجروا على طلبة العلم الرزق وفرغوهم للطلب"[12].
وفيما يخص المدينة أصدر عمر مرسومه الخلافي في سنة 99هـ إلى عامله بالمدينة أبي بكر بن حزم يقول:
"انظر ما كان من حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبـي ـ صلى الله عليه وســلم ـ... ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا"[13].
وقد تضمن هذا المرسوم أمرين من الأهمية بمكان: أولهما تعميم التعليم وإجباريته" حتى يعلم من لا يعلم"، وحتى لا يبقى العلم حكرا على فئة من المحظوظين وأبناء الذوات.
وثانيهما الشروع في تدوين السنة النبوية خوفا عليها من الضياع بـ"دروس العلم وذهاب العلماء"، وقد بادر عمر بانتداب الكفاءات العلمية للقيام بهاتين المأموريتين، وجند لذلك كل إمكانيات دولته، فأخذ يوالي إرسال البعثات التعليمية والعلمية إلى مختلف البلدان حتى يحصل كل مصر من الأمصار على حاجته، وتعم الاستفادة كل الجهات حاضرة أو بادية، وقد روى أبو الفرج بن الجوزي عن أبي غيلان قال "بعث عمر بن عبد العزيز يزيد بن أبي مالك الأشعري الدمشقي والحارث بن يمجد الأشعري يفقهان الناس في البدو، وأجرى عليهما رزقا، فأما يزيد فقبل العطاء، وأما الحارث فأبى أن يقبله، وأحب أن يتطوع إلى الله بعمله، فكتب العامل بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: انا لا نعلم بما صنع يزيد بأسا، وأكثر الله فينا مثل الحارث بن يمجد"[14].
ولقد مر بنا في الفصل الأول من العدد الأول كيف نالت الجهات المغربية في افريقية والقيروان نصيبها من هذه الرعاية العلمية في زمن عمر بن عبد العزيز وكيف خصها ببعثة إسماعيل بن أبي المهاجر التي تحدثتا آنفا عن رجالها وأهميتها وأثرها في تلك المناطق، حتى قيل ان "الخمر كانت حلالا بافريقية حتى ذلك العهد حتى وصل هؤلاء فبينوا للناس تحريمها"[15].
هذا هو المناخ العلمي الذي نشأ نافع وترعرع في كنفه يتردد على حلقات العلم ومجالسه التي يتبارى فيها رجالات العصر من خلفاء الصحابة في عرض علوم الإسلام والتفقه فيها في رحاب المسجد النبوي، وفي ظلال رعاية الخلفاء، ولا يأخذنا شك في أن نافعا قد جنى من هذه الرعاية العمرية على الخصوص أزكى الثمرات، بما يسرته من هذا التواصل الثقافي والمناخ العلمي، وما فجرته من الطاقات في رحاب هذا المسجد الذي لم يلبث نافع نفسه أن أخذ يطمح ببصره إلى محرابه ومجلسه المنتظر في أكنافه، لاسيما بعد أن تملأ من المعارف والعلوم، ونال في القراءة خاصة وسام الاعتراف من لدن كبار المشايخ وأعلام قراء العصر.
ولا نشك أيضا في أننا أتينا في ما عرضناه على أسماء كثير من مشايخه من أصحاب هذه الحلقات، ممن سمع منهم القراءة، أو روى عنهم الحروف، أو استفاد منهم في علوم الرواية في الجملة، وإن كنا لا نستطيع الجزم بذلك بالنسبة إلى كل فرد فرد منهم، وذلك بسبب غياب الوثائق والأدلة الشاهدة، وإنما قلبا ذلك استنادا إلى معاصرة نافع لأولئك المشايخ، وهو في طور الطلب من حياته العلمية، ولما جاء عن تلميذه أبي قرة موسى بن طارق من قوله:
"قرأت على نافع بن أبي نعيم بالمدينة، وقال نافع: حين قرأت عليه: انه قرأ على سبعين من التابعين"[16].
وقد آن لنا الآن أن نقف معه على أساتذته في القراءة، ثم نردفهم بمن وقفنا على نسبته إلى الرواية عنهم، ومن وقفنا له منهم على رواية حديث أو خبر يدل على سماع منه أو استفادة في الجملة، ولو كان ذلك يسيرا، لأنه على أي حال يمثل جانبا من التفاعل العلمي والمشاركة الفعلية من نافع في الثقافة العامة، على ما نشكوه من عوز في اهتمام المصادر التاريخية بذلك بالنسبة له، مع ما لبعض تلك الآثار عنه وبعض الروايات من أثر في معرفة اختياره في القراءات والأسس التي كان يبني عليها في اختيار بعض وجوه الأداء، إلى غير ذلك مما سيمر بنا.
ونقف معه فيما يلي على مشاهير مشايخه، ثم نتبعهم بالذين روى عنهم بعض الحروف أو روى عنهم في الجملة.


[1]-  المعارف 124 وكذا 231.
[2]-  المعارف 231.
[3]-  مشاهير علماء الأمصار 80 ترجم 585.
[4]-  طبقات الفقهاء للشيرازي 63.
[5]-  هر أبو عمار الحنفي ا لعجلي اليمامي أحد الأئمة يروي عن عطاء وطاووس وعنه السفيانان وشعبة وجماعة مات سنة 159 ـ الخلاصة للخزرجي 270.
[6]-  سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز 113.
[7]-  من فقهاء الجزيرة وقرائهم من تابعي التابعين بالشام مات سنة 154. –مشاهير علماء الأمصار 185.
[8]-  جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 1/124.
[9]-  سعيد بن أبي مريم الجمحي المصري الحافظ سيأتي في الرواة عن نافع.
[10]-  سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز. 123. وكذا 115.
[11]-  هو يحيى بن أبي كثير اليمامي أبو نصر من أهل البصرة من تابعي التابعين، يسكن اليمامة، مات سنة 129 هـ - مشاهير علماء الأمصار لابن حبان 191 ترجمة 1537.
[12]- جامع بيان العلم وفضله 1/186.
[13]-  صحيح البخاري 1/30.
[14]-  سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز 92.
[15]-  البيان المغرب 1/48.
[16]-  جمال القراء وكمال الإقراء للسخاوي 2/445 – وسير أعلام النبلاء للذهبي 7/336 ترجمة 121.

Post a Comment

أحدث أقدم