أثر الإصلاح الديني على تطور الأوضاع في أوربا خلال
القرنين 16 و 17
.
كانت السياسة الأوربية متأثرة بالتدخل العثماني
في شرق أوربا، و أساسا بشبه جزيرة البلقان، و في جنوب البحر الأبيض المتوسط.
الإصلاح المضاد:
قامت الكنيسة الكاثوليكية بتحريم متزعم الإصلاح
مارتن لوتر سنة 1520، وتمت دعوته للمثول أمام الإمبراطور والأمراء الألمان في الجمعية
الرهبانية Diète لفورمسWorms سنة 1521. و برفضه الامثتال, وضع لوتر خارج حماية القانون,
وحينها احتضنه
دوق سكسونيا الذي منحه ملجأ في إحدى قلاعه بواربورغ.
استغل مارتن لوتر وقته في هذا الملجأ لترجمة الكتاب
المقدس إلى اللغة الألمانية. و تعتبر هذه الترجمة سابقة في تاريخ الكتاب المقدس بأوربا،
ذلك انه للمرة الأولى ينقل إلى لغة شعبية لم يتم تقعيدها بعد, كما انه لم يكن ممكنا
و لا مسموحا به تداول الكتاب المقدس بلغة غير اللغة اللاتينية المستعملة رسميا في الكنيسة.
و بالإضافة إلى هذه الترجمة قام لوتر بصياغة المبادئ الأساسية في مشروعه الإصلاحي.
إن الوضع الجديد الذي انتهى إليه المجال المسيحي يتلخص في انشقاق الكاثوليك، و انشطار
الإمبراطورية المقدسة على أساس مذهبي، وتكريس مبدأ الإصلاح الديني الذي لم يعد يهدف
إلى الدفاع لفرض النظام والانضباط في صفوف رجال الدين وحسب بل أعاد النظر في المبادئ
الرئيسية للمذهب الكاثوليكي.
لقد قامت البروتستانتية على ثلاثة مبادئ وهي:
* التبرير بالإيمان. ذلك أن الخلاص البشري،
في منظور المذهب الجديد، يكون بالإيمان وحده، وليس بالإيمان والتقليد الكنسي كما تقول
بذلك الكاثوليكية.
* الرهبنة الكونية. و تقوم على أن كل مؤمن
هو راهب لنفسه فلا حاجة بالكهنوت القائم في الكاثوليكية، و لا حاجة إلى شروحه حول الكتاب
المقدس.
* عصمة الكتاب المقدس وحده. ويعتبر هذا المبدأ
ضربة موجهة لمكانة و وظيفة البابا الذي ينظر إليه الكاثوليك كحبر أعظم يتمتع بالعصمة.
أخرج الإصلاح الديني الكنيسة الكاثوليكية من مجموعة
من المجالات شمال وغرب أوربا في وقت انتشرت فيه الطباعة وعرفت الكتب رواجا, وجعل الإصلاح
من بعض رِؤساء الدول رؤساء للكنيسة كما هو عليه الحال في انجلترا.
لجأت الكنيسة الكاثوليكية إلى توحيد الصراع ضد الإصلاح
البروتستانتي. فاتخذ البابا بولس الثالث ( 1534- 1549) في سنة 1542 قرارا للعمل من
جديد بمحاكم التفتيش التي تم تراجع دورها في النصف الأول من القرن السادس عشر ماعدا
في أسبانيا.
اعتمدت محاكم التفتيش على محكمة مركزية يسيرها الكرادلة
الستة للمحكمة المقدسة،
ومجموعات من المحققين موزعين في مختلف البلدان المسيحية بأوربا,
وكانوا مقلدين بصلاحيات غير محدودة للبحث عن الأشخاص المشتبه فيهم.
ويعتبر هذا الإحداث إجراء استعجالي لمواجهة نمو
وانتشار الإصلاح الديني، خاصة في ألمانيا وفرنسا وسويسرا.
لم يكن لهذه المحاكم دور في تحصين مجال النفوذ الكاثوليكي
من انتشار أفكار الإصلاح الديني إلا في ايطاليا، حيث توجد البابوية و في أسبانيا التي
استمرت في التوفر على هذه المحاكم بسبب الحاجة إليها في مطاردة الكاثوليك للمسلمين
واليهود, و مراقبة مدى تنصيرهم، بعد التوحيد الكامل لشبه الجزيرة الايبرية تحت راية
الديانة المسيحية، و في إطار مملكة واحدة.
ومن جهة أخرى فرضت الكنيسة فهرسا يضم كل المؤلفات
المحرم على الكاثوليك قراءتها و لا سيما الكاثوليك الذين ليس لهم إطلاع واسع على الاقكار
والمبادئ الكاثوليكية وهم الأغلبية في الوسط الكاثوليكي.
- مجلس طرانتي: لم يتوقف تدخل الكنيسة لمواجهة
المد الإصلاحي، فقد اتجهت إلى القيام بإصلاح داخلي اصطلح عليه تاريخيا بالإصلاح المضادContre-Réforme. و استثمر البابوات في ذلك علاقاتهم بالملوك
والأمراء، ليقفوا إلى جانبهم من اجل الصراع ضد البروتستانت من جهة وتطبيق مقررات مجلس
طرانتي Concile
de Trente من جهة أخرى
دعا البابا بولس الثالث إلى انعقاد المجلس الكهنوتي
بمدينة طرانتي بالتيرول سنة 1545 بعد أن أصبح العالم المسيحي يرى ضرورة عقده, إذ يرى
كل المسيحيون أن هذه الهيأة أصبحت منذ مجلس كونسطانسConcile
de Constance المنعقد بين 1414 و 1417 لوضع حد للانشقاق
الكبير، بمثابة وسيلة أساسية و وحيدة لحل الأزمات التي تعاني منها المسيحية.
وعلى الرغم من التحفظات التي كان يبديها البابوات
من انعقاد المجلس الكهنوتي، فإن الظروف التي كان يمر منها العالم المسيحي المثمتلة
في الانشقاق المذهبي المؤدي إلى استفحال الانفصام القائم داخل " أمة المسيح"منذ
الاستقلال التام للكنيسة البيزنطية الأرتودكسية في القرن الحادي عشر، وسمته الإصلاح
الديني الذي تغلغل في ألمانيا وفرنسا وسويسرا، واستقلال الكنيسة الإنجليزية في إطار
الإصلاح الانجليكاني ابتداء من عهد الملك هنري الثامن، و التوغل التركي في شرق أوربا
الذي بلغت جيوشه أبواب أوربا الوسطى، والصراع بين القصر النمساوي Maison d?Autriche في شخص أسرة الهابسبورغ ممثلة بالإمبراطور
شارل كان وفرنسا في شخص أسرة الفاليين ممثلة بالملك فرانسوا الأول، والصراعات الدينية
بين الإمارات الألمانية, كلها عوامل زادت في تازيم الأوضاع داخل أوربا وتسهل من مهام
الجيش التركي خلال عهد الإمبراطور العثماني سليمان القانوني في التوغل داخل القارة
العجوز لتحقيق مكاسب ترابية باسم الإسلام على حساب المسيحية.
أصبح المجلس الكهنوتي يفرض نفسه كمجلس كوني ?cuménique يحضره كل أساقفة العالم المسيحي، واشترط البروتستانت الذين تمت دعوتهم
للحضور من أجل المساءلة أن يتمتعوا بحق التداول في القضايا التي يطرجها المجلس الكهنوتي,
ولعدم الاستجابة لشرطهم هذا تغيبوا.
انعقدت أشغال المجلس على ثلاثة مراحل بين 1545 و
156 وقد لعب رؤساء الدول, و خاصة شارل كان إمبراطور الغرب المسيحي، و فرانسوا الاول
ملك فرنسا دورا رئيسيا في توجيه مداولات المجلس.
طرح مجلس طرانتي مسالتين: مسألة مذهبية ومسألة تنظيمية.
الأولى موجهة إلى العموم والثانية موجهة إلى رجال الكنيسة.
فعلى مستوى المذهبي، حدد المجلس المذهب الكاثوليكي
في مبادئه التقليدية وشدد عليها. واعتمد البابوات1 على الأساقفة الإيطاليين والأسبان
في مواجهة الآراء المعتدلة داخل المجلس. و تم التشديد على كل الأفكار والمبادئ الكاثوليكية
التي استهدفها البروتستانت وهي:
* وقوف المذهب الكتوليكي على التقليد الكنسي
إلى جانب الكتاب المقدس.
* للكنيسة وحدها، التي يوجد على رأسها بابا
يتمتع بالعصمة، صلاحية شرح الكتاب المقدس.
* حصول الخلاص الإنساني بالإيمان والأعمال.
* تأكيد التقديسات السبع وعلى رأسها مريم
العذراء.
* تأكيد استعمال اللاتينية كلغة رسمية للكنيسة
ورفض الاعتراف بأي ترجمة للكتاب المقدس إلى لغة أخرى غير اللاتينية.
وعلى المستوى التنظيمي فرض المجلس الكهنوتي خضوع
الرهبان، الذين كانوا جاهلين في اغلبهم بالكثير من مبادئ المسيحية والمذهب الكاثوليكي،
لتكوين إلزامي يتم تلقيه في الحلقات الدراسية. كما فرض المجلس وجوب إقامة الأسقف أو
الراهب في المجال الذي هو مختص به، و منع تراكم المهام لدى الشخص الواحد.
- اليسوعيون:كان للتنظيمات الدينية دور رئيسي
في نجاح عملية الإصلاح داخل الكنيسة الكاثوليكية. فقد قام الاكليروس بعملية الإصلاح
من الداخل و قامت بعض التنظيمات بالعودة إلى قاعدتها الأصلية كما هو حال بعض الجمعيات
الفرانسسكانية. و ظهرت تنظيمات دينية جديدة مثل التياتينThéatins
المهتمين بمعالجة المرضى و المساجين، و الخطباء Oratoriens المهتمين بالتعليم. و قد تزامن من هذا المنظور مع التجديد الروحي في الكاثوليكية.
وتكاثرت عملية كتابات مقالات الأدعية Traités d?oraisons. و تقوت هذه الحركة في أسبانيا فأصبح دير مونتسيرا بكاطالونيا محجا للكاثوليك،
و زادت كتابات القديسة تيريزا دافيلا من هذه الميول الروحية. و بين هذه التنظيمات الجديدة
كان اليسوعيونLes jésuites، و هم الطائفة التي أسسها اينياس دي لويولاIgnace de Loyola، بمثابة الاتجاه الأقوى.
كان اينياس دي لويولا المنحدر من بلاد الباسك، والمولود
سنة 1491، ضابطا في الجيش الاسباني. و في سنة 1521 أصيب بجروح بليغة، فترك الجندية
و درس اللاهوت قي الجامعات الاسبانية. و في 15 غشت 1534 أسس مع مجموعة من رفاقه جمعية
دينية أطلق عليها في سنة اسم رفاق المسيح La compagnie du Christ، و في سنة 1540 اعترف البابا بالجماعة.
فرض اليسوعيون على جماعتهم ضوابط صارمة و شددوا
شروط الالتحاق بهم، و أصبحوا في الخدمة إزاء البابا. أسسوا هيئات تعليمية في شكل مدارس
تعطي صنفا جديدا من التعليم و استقطبوا إليها أبناء الأسر الملكية و الأميرية و النبلاء.
و حددت الحركة لنفسها مهاما منها التصدي لمواجهة الإصلاح الديني فنجحت في إيقاف هذا
المد في البلدان المهددة بانتشار البروتستانتية وخاصة بجنوب بلاد فلاندرة.
Post a Comment