عرض القراءات وأسلوب التلقي التحمل في حلقة نافع:
أما نافع فقد رتب عملية العرض على سعي العارض بنفسه للحصول
على الدور أول الناس، وذلك إما عن طريق التبكير إلى الحلقة، وإما عن طريق المبيت
بالمسجد مع الغرباء، وقد اقتضى هذا الازدحام عليه من الراغبين في تحقيق القراءة
وأخذها عنه سماعا وأداء، طول الصحبة له واللزوم لمجلسه، حتى كان فيهم على غرار ما
سيأتي عن تلميذه وربيبه عيسى بن مينا المعروف بقالون من بلوغ مدة قراءته عليه خمسين
سنة[1]
حتى قيل له: كم قرأت على نافع؟ فقال: ما لا أحصيه كثرة، إلا أني جالسته بعد الفراغ
عشرين سنة[2]
ولذلك قال له مرة حين رأى لزومه الطويل له، وآنس منه التبريز في حذق القراءة
والأداء، ورأى أن في بقائه على هذه الحال ما يخل بالغرض، واقترح عليه التصدر
للتعليم، وإتاحة الفرصة لغيره من الغرباء في حلقة الشيوخ، وقال له: كم تقرأ علي؟
اجلس إلى أسطوانة ، حتى أرسل إليك من يقرأ عليك"[3].
ومعنى هذا انه يرشحه للتصدر، ويريده أن يخفف عنه من وطأة
الازدحام، بإرسال بعض من يقرأ عليه إليه، وكانت هذه بداية قالون، ليهيئ نفسه
لاقتعاد كرسي المشيخة في هذا الشأن خلفا لشيخه في مستقبل الأيام.
تلك هي الطريقة التي كانت متبعة في العرض في حلقة نافع، أما
طريقة التحمل التي كان يأخذ بها فالظاهر أنها كانت في مجملها مزيجا من السماع
والعرض، إلا أن أكثر السماع فيها إنما يكون سماع قراءة بعض العارضين على الشيخ
بمحضره، وأما سماع الشيخ نفسه، فيظهر أنه كان نادرا، إلا أن يكون تصحيحا أو
توجيها، والأخبار الكثيرة التي تحكي حوادث مجلسه في الاقراء لا تكاد تذكر قراءة
الشيخ إلا نادرا، كبعض الروايات التي نجدها عند الأصمعي أو قالون ـ كما سيأتي ـ
مما يقول فيه: "سمعت نافعا يقرأ كذا" ولم أقف على خبر فيه قراءة الشيخ
في حلقته، ولعل السماع المذكور إنما كان في إمامة الصلوات، إذ كان كما قدمنا إمام
المسجد النبوي.
وأحوال التحمل عند أهل الرواية عديدة منها العرض، ومنها
السماع، ومنها الإجازة وغيرها، إلا أن أئمة القراء قد اقتصروا منها على الأول،
ونبهوا على أن صحة التحمل لا تكون إلا به، وفي هذا يقول الإمام أبو العباس
القسطلاني في لطائف الإشارات:
"
أعلم ان التحمل والأخذ عن المشايخ أنواع، منها السماع
من لفظ الشيخ، ويحتمل أن يقال به هنا ـ يعني في تحمل القراءة ـ، لأن الصحابة إنما
أخذوا القرآن من في رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولكن لم يأخذ به أحد من
القراء، والمنع ظاهر، لأن المقصود هنا كيفية الأداء، وليس كل من سمع من لفظ الشيخ
يقدر على الأداء كهيئته، بخلاف الحديث، فإن المقصود به المعنى، أو اللفظ لا
بالهيئات المعتبرة في أداء القراءة... ومنها قراءة الطالب على الشيخ، وهو أثبت من
الأول وأوكد"[4].
فاتباع نافع لأسلوب العرض لتمام التحمل، بعد أن يكون القارئ
قد سمع القراءة من الشيخ وغيره بمحضره وتمرن في حلقته على حسن أدائها، هو الأسلوب
المأخوذ به عند أئمة القراء خلفا عن سلف، للحصول على الاعتراف من الشيوخ، ولتمام
الأهلية للتأدية عنهم فيما سبيله الرواية والنقل، وهذا النمط من التحمل أوثق وجوهه
كما قدمنا، وفيه أيضا إبقاء الفسحة للقارئ في وجوه الأداء، ليقرأ منها بما مرن
عليه لسانه، دون إلزام من الشيخ له ببعض تلك الوجوه، طالما أنها تدخل في إطار الضوابط
المصححة للقراءة المتلقاة بالقبول عند أئمة القراء.
على أن من طالت صحبتهم لنافع كتلميذه قالون قد حرصوا على أن
يأخذوا عنه القراءة بالطريقتين السماع والعرض، كما ضبطوها عنه أيضا بالتدوين
والكتابة، وتحققوا من اختياراته فيها، فكانوا بحق الممثلين لمدرسته بالمدينة،
والقائمين بها من بعده على أوفى ما كان قائما بها في زمنه.
وفي هذا يقول قالون ـ فيما أخرج ابن الأنباري في الإيضاح
بسنده عنه ـ "قرأت على نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم القارئ هذه القراءة
غير مرة، وأخذتها عنه"[5].
وفي لفظ عند ابن الجزري "قرأت على نافع قراءته غير مرة،
وكتبتها في كتابي"[6]. بل ان قالون قد أخذ
عنه أيضا قراءة أبي جعفر كما قدمنا، ولا سبيل إلى ذلك إلا بسماعها من نافع، وهذا
من أوثق الأدلة على أنه أخذ عنه القراءة سماعا من لفظه، ثم زاد فعرضها عليه.
على أن هذا الذي تم لقالون لا يخرم القاعدة التي رأينا نافعا
يأخذ بها، إذ كان عامة أهل العلم في زمنه يسلكون ذات الطريقة، لعدم قدرة المشايخ
على القراءة لكل قارئ على حدة، بل أخذوا بطريقة المحدثين والفقهاء، الذين كانوا
يستمعون إلى ما يقرأ أمامهم من الآثار في مؤلفاتهم، ثم يجيزون بها القارئ والسامع،
إذا استثنينا ما ذكرناه من خصوصية اعتماد القراء على قـراءة القارئ نفسه على
الشيـخ في أثناء العـرض ـ، وقد روى الحافظ أبو عمر بن عبد البر بسنده عن ابن
القاسم وابن وهب كلاهما عن مالك أنه قيل له: "أرأيت ما عرضنا عليك، أنقول
فيه: حدثنا؟؟ قال: نعم، يقول الرجل إذا قرأ على الرجل أقرأني فلان، وانما قرأ
عليه"[7].
وقال مالك أيضا حين سأله تلميذه وتلميذ نافع: إسماعيل بن أبي
أويس المدني عن صحة التحمل بمثل ذلك:
"ألست أنت قرأت على نافع؟ وتقول: أقرأني نافع"[8].
فهذا كله يدل على أن طريقة التحمل عن القراء، إنما كانت في
جملتها تعتمد العرض بعد أن يكون الطالب قد سمع قراءة الشيخ منه، أو من غيره
بمحضره، وذلك ما يشهد له واقع الحال بالنظر إلى وفرة من كان ينتظر الدور في كل
صباح ليأخذ بحظه من الشيخ، إذ لا يستطيع بغير ذلك أن يأخذ على كل قارئ كما لا يسوغ
للقارئ أن يقول: هذه قراءة فلان إذا لم يكن قد أخذها بمحضره، ثم زكاها بعرضها
عليه، وإقراره له عليها، ليكون ذلك بمثابة الشهادة له بإتقانها، وبه تحصل له
الأهلية لروايتها ونسبة القراءة بها إليه.
وسيأتي في خبر رحلة ورش إليه ما يصور مبلغ التنافس بين طلبته
من المهاجرين والأنصار على أخذ الدور والحصول على فرصة العرض المبكر بعد الصبح،
مما يدل على المستوى الرفيع من التعامل الذي كان يأخذ به الشيخ في حلقته، ولهذا
كان ذيوع صيت هذه الحلقة في الأمصار الإسلامية كثيرا ما يهيج أشواق كبار القراء في
عهده، ويحفزهم على التفكير في شد الرحال إليه للتشرف بمثل هذا العرض، لاسيما بعد
أن تقدمت السن بالشيخ، وأصبحت روايته من أعلى الروايات في زمنه، وبعد أن ذاع صيت
الإمام مالك أيضا لهذا العهد، فأصبح الوارد على المدينة يجمع بين الروايتين: رواية
القراءة ورواية الفقه عن إمامي دار الهجرة فيهما، ولقد كان الألم يحز في نفوس بعض
الطلاب الذين كانت تضيق أيديهم عن نفقة البلاغ إلى هذه الديار، كما نقرؤه عن راوية
القراءات في زمنه أبي عمر حفص بن عمر الدوري ـ أول من جمع قراءات الأمصار الخمسة
مشهورها وشاذها رواية وحفظا ـ[9]، إذ يعبر بمرارة عن
ما فاته من الرحلة إلى نافع في حياته، فيقول: "قرأت على إسماعيل بن جعفر
بقراءة أهل المدينة ختمة، وأدركت حياة نافع، ولو كان عندي عشرة دراهم لرحلت
إليه" [10].
وهي شكوى تصور مبلغ الحسرة على ما فاته من الرواية المباشرة
عن الشيخ في حياته[11].
تلك حال حلقته العامرة التي كانت ـ كما سيأتي ـ ملتقى للطلاب
من أطراف البلاد، فما الذي أعطى لقراءته كل هذا الاعتبار؟ وما الذي جعلها على
الأخص تحظى بمثل هذا الإكبار؟ وما منزلة اختياراته فيها بين اختيارات أئمة
الأمصار؟ وما عناصرها الأساسية ومعالمها الواضحة؟؟.
ذلك ما سنحاول التعريف به، مبتدئين ببيان العوامل والأسباب
التي كانت تقتضي من أئمة القراء أن يلجأوا إلى "الاختيار" بين المأثور
من القراءات.
[9] - أبو عمر الدوري أحد راويي قراءة أبي عمرو بن العلاء، وهو أول من
جمع القراءات السبع رواية وحفظا، ومن طريقه يرويها أبو بكر بن مجاهد في كتاب
السبعة، وكان الدوري ضرير البصر، أعجوبة في الحفظ، توفي سنة 246 ببغداد. ترجماته
في معرفة القراء الكبار 1/157-158 – وغاية النهاية 1/255-257.
[11] - وهو دليل على أنه روى عن نافع بواسطة إسماعيل، وقد رأيت في كتاب
"قراءات القراء المعروفين" للأندرابي ص 54-55 سقوط اسم إسماعيل بين
الدوري ونافع، فيكون خطأ من الناسخ أو الطابع.
Post a Comment