معرفة الوقف والابتداء

من الموضوعات التي لا غنى للقارئ عن معرفتها، موضوع الوقف والابتداء، وهو فرع من علوم القراءة يحتاج إلى حس دقيق وثقافة عالية في أساليب البيان العربي وطرائق الخطاب، إلى جانب المعرفة الصحيحة بمواضع رؤوس الآي أو ما يسمى بعلم العدد كما سيأتي-، كما يقتضي أيضا تضلعا في التفسير ومعرفة التأويل، وذلك لما يترتب على الوقف والابتداء من معان، يجيء منها المقبول المراد من الآية، ويجيء المتعسف المردود.
وقد نص علماء هذا الشأن على صعوبة هذا العلم، وافتقاره إلى ثقافة علمية مكينة، إذ أن مواقع الوقف في القرآن ليست كلها بدرجة واحدة من الوضوح، "فمن الوقف ما هو واضح مفهوم معناه، ومنه مشكل لا يدرى إلا بسماع وعلم بالتأويل، ومنه ما يعلمه أهل العلم بالعربية واللغة، فيدري أين يقطع؟ وكيف يأتنف؟"[1].
ولهذه الصعوبة واكتناف الخفاء والغموض لبعض مواقع الوقف كان أبو بكر بن مجاهد يقول: "لا يقوم بالتمام في الوقف إلا نحوي عالم بالقراءات، عالم بالتفسير والقصص وتخليص[2] بعضها من بعض، عالم باللغة التي نزل بها القرآن"[3].
ومعنى قوله "وتخليص بعضها: "امتلاكه القدرة على تمييز دقائق الفروق بين المعاني، وذلك لا يختص بمعرفة رؤوس الآي وحدها، بل يشمل المعرفة بفواصل الكلام، ولذا نبه العلماء على الفرق بينهما، فقال أبو عمرو الداني: "الفاصلة هي الكلام المنفصل عما بعده، والكلام المنفصل قد يكون رأس آية، وغير رأس، وكذلك الفواصل يكن رأس آية وغيرها، وكل رأس آية فاصلة، وليس كل فاصلة رأس آية" [4].
لهذه الدقائق كان أئمة الإقراء من السلف يعنون بهذا العلم، ولا يعترفون للطالب بتحصيل القراءة على وجهها، ولا يجيزونه بها، إلا إذا تمكن من قواعده كل التمكن[5] . إذ لا سبيل إلى القراءة الصحيحة إلا به، ولذلك وصف بأنه "حلية التلاوة، وزينة القارئ، وبلاغ التالي، وفهم للمستمع، وفخر للعالم، وبه يعرف الفرق بين المعنيين المختلفين، والنقيضين المتباينين، والحكمين المتغايرين، وقال أبو حاتم:
"من لم يعرف الوقف لم يعرف القرآن"[6].
وقد كان علماء الصدر الأول يجعلون العلم بهذا الشأن من أوليات ما ينبغي أن يؤخذ به الطالب، فقد جاء فيما روى عياض بسنده عن عبيد الله بن جناد قال:
"عرضت لابن المبارك فقلت: أمل علي ـ يعني الحديث ـ فقال: أقرأت القرآن؟ فقلت: نعم، فقرأت عشرا، فقال: هل علمت ما اختلف الناس فيه من الوقف والابتداء؟ قلت: أبصر الناس بالوقف والابتداء، فقال: مدهامتان"[7]؟ فقلت له: آية[8] قال: فالحديث سمعته من أحد غيري؟ قلت: نعم، قال: فحدثني، فحدثته بأحاديث في المناسك، فقال: أحسنت، هات ألواحك ..."[9].
ذلك كان شأنهم في البداية بالأولويات، وكان العلم بقواعد الوقف والابتداء مما يولونه مزيدا من العناية، قال ابن الجزري ": "وصح بل تواتر عندنا تعلمه والاعتناء به من السلف الصالح، كأبي جعفر يزيد بن القعقاع إمام أهل المدينة الذي هو من أعيان التابعين، وصاحبه الإمام نافع بن أبي نعيم، وأبي عمرو بن العلاء، ويعقوب الخضرمي، وعاصم بن أبي النجود، وغيرهم من الأئمة، وكلامهم في ذلك معروف، ونصوصهم عليه مشهورة في الكتب"[10].
ولم يقتصر كل من يعقوب الحضرمي ونافع بن أبي نعيم على العناية بالجانب الوظيفي من هذا العلم بتصحيح قراءتهما، وأخذ المتعلمين عليهما به عند التعلم والعرض عليهما، وإنما تجاوزا هذا المستوى إلى تحديد لمواقع الوقف في جميع القرآن، والنص على مواضع الوقف التام منها، والتأليف في ذلك.
وإلى ريادة  نافع ويعقوب الحضرمي ( 205هـ) في التأليف فيه يشير العلامة أبو جعفر النحاس بقوله:
لست أعلم أحدا من الأئمة الذين أخذت عنهم القراءة له كتاب مفرد في "التمام"، إلا نافعا ويعقوب، فإني وجدت لكل واحد منهما كتابا في "التمام"، ثم قال:
"وإذا كان غير نافع ويعقوب قد ذكر في التمام شيئا، فليس يخلو أمره من أحد وجهين: إما أن يكون لبس له شهرتهما، وإما أن يكون ليس مثلهما"[11].
ولا يخفى أن قول النحاس هذا تنويه صريح بمقام الريادة الذي مثله في هذا الفن كل من نافع في الحجاز، ويعقوب في العراق، مع تقدم نافع في الزمن، ولعله حين يضع بين أيدينا الاحتمالين اللذين ذكرهما، يجيب عن افتراض متوقع، يريد أن يضع بعض البدايات الساذجة أو غير الناضجة في مقام السبق، مع أنها ليست لها مزية الشهرة التي حظي بها كتاب نافع ويعقوب في وقف "التمام"، أو ليست لها منزلتها من الناحية العلمية.
ولست أدري هل غاب عن النحاس كتاب شيبة بن نصاح شيخ نافع في موضوع الوقف، وهو كتاب يمثل به الريادة المطلقة، إذ يقول عنه الحافظ ابن الجزري: "هو أول من ألف في الوقوف، وكتابه مشهور"؟[12]
أم أن النحاس على علم به، ولكنه يعتده من أحد القسمين اللذين ذكرهما ضمن الاحتمالين؟.
وقد ذكر ابن النديم أيضا جملة من المؤلفات في الوقف يرجع تاريخها إلى هذا العهد وما قبله[13]، إلا أنها في الجملة قد لا تخرج عن الاحتمالين السابقين: ضعف مستواها، أو قلة شهرتها.
وكيفما كان الحال فإن الذي يهمنا هو إثبات الريادة لنافع في هذا العلم بالمدينة بعد شيخه شيبة أو معه، بتأليفه في هذا الموضوع الجديد، وهو تأليف سارت به الركبان رواية عنه في حياة مؤلفه، وتلقاه عنه الجم الغفير، وحمله الرواة عنه إلى مصر وغيرها. وقد أطلق عليه الحافظ ابن الجزري اسم "كتاب التمام" وقال: رواه عنه سقلاب بن شيبة"[14].
وذكر السيوطي في البغية في ترجمة أشعث بن سهل التجيبي المصري النحوي أبي المنصور، نقلا عن أبي عمرو الداني أن أشعث هذا " روى كتاب "التمام" لنافع بن أبي نعيم القارئ عن أحمد بن محمد المديني عن ابن شيبة عن نافع ..."[15].
وهذه الرواية من هذه الطريق مبسوطة عند أبي جعفر النحاس في كتابه "القطع والائتناف"، وعليها اعتمد في عرض مذهب نافع في ذلك في كتابه، وأشار إلى ذلك في مقدمته بقوله:
"كل ما قلنا فيه" قال نافع"، فانا كتبناه عن أبي جعفر أحمد بن عبد الله بن محمد بن هلال المقرئ[16]، يرويه عن إسماعيل بن عبد الله المقرئ[17] وأشعث بن سهل[18] عن أحمد بن محمد[19] عن سقلاب عن نافع بن أبي نعيم"[20].
ويعتبر كتاب القطع والائتناف الآنف الذكر سجلا يكاد يكون كاملا بمذهب نافع في وقف التمام، اذ عني النحاس فيه بالمقارنة بين أقوال علماء الوقف الذين تقدموه والموازنة بينها، وعني بإيراد المواقف التي قال عنها نافع انها من الوقف التام، فكان يقره أحيانا، وينتقده أحيانا أخرى، أو يورد كلام من انتقده من علماء الفن.
وسيأتي لنا أن طائفة من الوقفات التي ينتقدها المتأخرون عادة على الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي جمعة الهبطي ـ واضع الوقف المغربي المقروء به في الوقت الحاضر بالمغرب والشمال الافريقي ـ هي في الواقع من اختيارات نافع في كتاب التمام، وأولها الوقف على "ذلك الكتاب لا ريب" في أول سورة البقرة[21].
ولعل مذهب نافع في اختياراته في هذا الموضوع قد استفاده العلماء من كتابه في الجملة، فقال أبو علي الأهوازي مبينا لمذهبه ومقارنا بينه وبين باقي السبعة:
"الوقف عند نافع وابن كثير وابن عامر حيث يتم، وعند أبي عمرو وعاصم حيث يحسن، وعند حمزة حيث يتفق"[22].
ولا شك أن هذا التقويم للإمام الأهوازي صادر عن علم بحال قراءة كل إمام من أولئك السبعة وخصوصياتها في الأداء، من حدر أو تدوير أو تحقيق، لما بين هذه المراتب في الأداء وبين الوقف والابتداء من ارتباط[23].
وقد ذكر الإمام ابن الجزري بخصوص قراءة نافع واختياراته في أدائها، انه "كان يراعي محاسن الوقف والابتداء بحسب المعنى، كما ورد عنه النص بذلك"[24].
وهذه منه إشارة إلى اختياره في ذلك نمطا خاصا، حاول رسم معالمه من خلال تأليفه المذكور.


[1] - كتاب القطع والائتناف لأبي جعفر النحاس 97-98.
[2] - لعله الصواب كما في الإتقان للسيوطي 1/87، وليس تلخيص "كما في القطع والائتناف 94 والبرهان – للزركـشي 1/343.
[3] - القطع والائتناف 94.
[4] - نقله في الإتقان 2/97 ونحوه في النشر 1/226-227.
[5] - ينظر في ذلك النشر 1/225 ولطائف الإشارات للقسطلاني 1/245.
[6] - لطائف الإشارات 1/249.
[7] - سورة الرحمن الآية رقم 64.
[8] - هي آية بإجماع، بل قال أبو عمرو الداني: "لا أعلم كلمة هي وحدها آية، إلا قوله "مدهامتان" ذكره السيوطي في الإتقان 1/66 وتعقبه بكلمات هي أيضا آيات نحو والفجر، والعصر، والضحى، ولعل الداني يقصد الكلمة بالمفهوم النحوي، أما ما استدركه السيوطي ففيه الواو كلمة وهو من حروف المعاني، ثم بعده الكلمة المقسم بها.
[9] - نقله عياض في الغنية 103-104.
[10] - النشر 1/225 ونقله السيوطي في الإتقان 1/83.
[11] - القطع والائتناف لأبي جعفر النحاس 75.
[12] - غاية النهاية 1/330 ترجمة 1439.
[13] - الفهرست لابن النديم 60.
[14] - غاية النهاية 1/308 ترجمة 1359.
[15] - بغية الوعاة 1/458 ترجمة 938.
[16] --سيأتي في أصحاب الأزرق صاحب ورش.
[17] - هو أبو الحسن النحاس صاحب الأزرق وسيأتي.
[18] - كذا، ولعل الأصح "عن أشعث" لأن إسماعيل النحاس يروي عنه كما في بغية الوعاة 1/458.
[19] - هو المديني الآنف الذكر
[20] - القطع والائتناف 99.
[21] - ينظر الوقف عليها لنافع في القطع والائتناف 113 وفي المكتفى للداني 158.
[22] - نقله ابن القاضي في كتاب "القول الفصل في اختلاف السبعة في الوقف والوصل" (مخطوط).
[23] - يراجع ما بينهما من ارتباط في النشر 1/238-
[24] - النشر 1/238.

Post a Comment

Previous Post Next Post