مذهب نافع في الجهر بالبسملة وموقف فقهاء
المدينة من ذلك:
قال الحافظ ابن الجزري: "قد صح نصا أن إسحاق بن محمد
المسيبي أوثق أصحاب نافع وأجلهم قال: سألت نافعا عن قراءة بسم الله الرحمن
الرحيم"، فأمرني بها، وقال: أشهد أنها آية من السبع المثاني، وأن الله
أنزلها". روى ذلك الحافظ أبو عمرو الداني بإسناد صحيح، وكذلك رواه أبو بكر بن
مجاهد عن شيخه موسى بن إسحاق القاضي[1] عن محمد بن إسحاق
المسيبي عن أبيه.
وروينا أيضا عن ابن المسيبي قال: كنا نقرأ لسم الله الرحمن
الرحيم" أول فاتحة الكتاب، وفي أول سورة البقرة، وبين السورتين، في العرض
والصلاة، هكذا كان مذهب القراء بالمدينة، قال: وفقهاء المدينة لا يفعلون ذلك. قال
ابن الجزري: وحكى أبو القاسم الهذلي[2] عن مالك أنه سأل
نافعا عن البسملة، فقال: "السنة الجهر بها، فسلم إليه، وقال: كل علم يسأل عنه
أهله[3].
والذي يبدو أن تسليم مالك لنافع في هذا الجواب كان تسليما
مؤقتا أو كان في حياته، ثم بدا لمالك ترجيح مذهب الفقهاء معتبرا للقضية من المسائل
الخلافية التي يدخلها الاجتهاد[4]، وهذا ما يدل عليه
تصديه مرة أخرى لإثارة المسألة والاعتراض فيها كما حكى ذلك المسيبي فيما رواه علم
الدين السخاوي.
قال في جمال القراء:
"وقال محمد بن إسحاق: أخبرني أبي نه لما صلى بالناس
بالمدينة جهر ببسم الله الرحمن الرحيم، قال: فأتاني الأعشى أبو بكر[5]
ابن أخت مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ فقال: إن أبا عبد الله يقرأ عليك السلام ورحمة
الله، ويقول لك: من خفته على خلاف أهل المدينة، فإنك ممن لم أخف، وقد كان منك شيء،
قلت: وما هو؟ قال: الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. قال: فأبلغه عني السلام كما
أبلغتني، وقل له: اني كثيرا ما سمعتك تقول: "لا تأخذوا عن أهل العراق، فاني
لم أدرك أحدا من أصحابنا يأخذ عنهم، وانما جئت في تركها عن حميد الطويل[6]،
فإن أحببت أخذنا عن أهل العراق أخذنا هذا وغيره من قولهم، وإلا تركنا حميدا مع
غيره، فلم يكن علي به حجة، وقد سمعتك كثيرا ما تقول: خذوا كل علم عن أهله، وعلم
القرآن بالمدينة عن نافع، فسألته عن قراءة بسم الله الرحمن الرحيم، فأقرأني بها،
وقال: أشهد أنها من السبع المثاني، وأن الله عز وجل أنزلها"[7].
"وحدثني عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر أنه كان يبتدئ
بها ويفتتح كل سورة"، وحدثني ابن أبي ذئب عن ابن شهاب قال: مضت السنة بقراءة
بسم الله الرحمن الرحيم"[8].
هكذا قرع المسيبي الحجة بالحجة، واستند إلى مذهب نافع في
القضية وروايته، وناقش مالك بن أنس منهجيا في نهيه عن الأخذ عن هل العراق، ثم هو
في النهاية يستند في المسألة على رواية حميد عن أنس فيها. مع أن مذهب المسيبي في
الجهر بالبسملة هو الثابت عن نافع من روايته وقراءته، ولذلك لم يرجع المسيبي إلى
ما دعاه إليه مالك، لفوة مستنده في ذلك ولمكانة نافع في نفسه باعتبار هذه المسألة
من العلم الذي يسأل عنه أهله، وكأنه يريد إلزام مالك بلازم قوله: " خذوا كل
علم عن أهله"، لأن أهلية نافع لهذا العلم بين أهل المدينة أمر مسلم لا ينازع
فيه مالك ولا غيره. ولاسيما مع اعتبار مشيخته له وتقديره له بشهادته ـ الآنفة
الذكرـ أن قراءته سنة.[9]
وهكذا حظي الإمام نافع بهذا المقام المحمود، وتبوأ في زمنه
هذا المنصب الرفيع "حتى صار علما يرجع إليه في فنه، ومركزا يدار عليه
فيه"[10]،
وتنافس الكبراء من أهل العلم وغيرهم في الزلفى إليه، وقد زاده وقار الشيخوخة،
وجمال السيرة، وطول العهد في إمامة الإقراء، والصلاة بالناس في المسجد النبوي
الشريف ستين سنة[11]،
- جلالة قدر، وسيرورة ذكر، ومحبة في القلوب لا تشترى بمال، حتى كان الخلفاء
يتوددون إليه، وربما اتخذوا الوسائط للحصول على بغيتهم منه.
[4]- يمكن الرجوع في تحقيق مذهب مالك وأصحابه في البسملة إلى رسالة
"الإنصاف في ما بين العلماء من الاختلاف للحافظ ابن عبد البر – الرسائل
المنيرية 1/156 وما بعدها.
[5]- هو عبد الحميد بن أبي أويس، وسيأتي في الرواة عن نافع.
[6]- هو حميد بن أبي حميد
يعرف بالطويل، من رواة الحديث بالبصرة، يروي عن أنس بن مالك الأنصاري والحسن
وعكرمة، وعنه شعبة ومالك والسفيانان والحمادان وخلق، قال شعبة: لم يسمع من أنس إلا
أربعة وعشرين حديثا، قال الهيثم: مات سنة 142 هـ" – الخلاصة للخزرجي 94.
[7]- جمال القراء وكمال
الإقراء للسخاوي 2/444.
[8]- نفس المصدر والصفحة.
[9]- يمكن الرجوع إلى ما
كتبناه في البحث الأول في شأن العلاقة المكينة التي ربطت بين نافع ومالك، وقد
عددناها من العوامل والأسباب التي مكنت لقراءته في الأقطار المغربية، ومهدت
لاعتمادها قراءة رسمية.
[11]- كتاب قراءات القراء
المعروفين للأندرابي 62-والنجوم الطوالع للمارغني 12.
Post a Comment