معرفة العدد ومواضع رؤوس الآي

ومن العلوم الفرعية التي اهتم بها نافع وكان من روادها، علم عدد الآي ومعرفة الفواصل، وذلك لما له من مزية في التمييز بين المعاني، ولما ينبني عليه من احكام أخرى تعود إلى احكام القراءة وإتقان التجويد، ورعاية مواقع الوقف التام والكافي والحسن، وقد دافع الإمام أبو القاسم الهذلي في كتابه "الكامل في القراءات" عن هذا العلم ومنافعه فقال:
"اعلم أن قوما جهلوا العدد وما فيه من الفوائد، حتى قال الزعفراني[1] : ان العدد ليس بعلم وإنما اشتغل به بعضهم ليروج سوقه، قال: وليس كذلك، ففيه من الفوائد معرفة الوقف، ولأن الإجماع انعقد على أن الصلاة لا تصح بنصف آية[2]، وقال جمع من العلماء: تجزئ بآية، وآخرون بثلاث آيات، وآخرون لا بد من سبع، والإعجاز لا يقع بدون آية"[3].
وأضاف الإمام أبو العباس القسطلاني إلى هذه الفوائد ما يقدمه للقارئ من معونة على حسن الأداء، ومساعدة على معرفة موضع الوقف وكيفيته، قال: لأن بعض القراء زاد على رسم الخط ستين ياء في رؤوس الآي"[4]، وبعضهم امال رؤوس الآي من بعض السور [5]، وبعض أصحاب الأزرق[6] رقق ما غلظ من اللامات الواقعة في رؤوس الآي الممالة[7]، فمن ثم احتيج إلى تمييز الفواصل من غيرها[8].
وقبل أن نتحدث عن ريادة نافع في هذا العلم، نرى من المفيد أن نقدم نظرة موجزة عن "العدد" واختلاف مدارس الأمصار فيه نقلا عن الإمام أبي الفرج بن الجوزي، لمعرفة جهود علماء الصدر الأول فيه، قال في فنون الأفنان:
"وأما عدد آي القرآن فمختلف فيه أيضا على حسب اختلاف العادين، والعد منسوب إلى خمسة بلدان: مكة والمدينة والكوفة والبصرة والشام".
"فالعدد المكي منسوب إلى مجاهد بن جبر وعبد الله بن كثير".
والمدني الأول منسوب إلى نقل أهل الكوفة إياه عن أهل المدينة مرسلا، لم يسموا فيه أحدا.
والمدني الآخر منسوب إلى أبي جعفر يزيد بن القعقاع وصهره شيبة بن نصاح، وبينهما خلاف في ست مسائل وهي قوله: "مما تحبون"[9] "وان كانوا ليقولون"[10] "وقد جاءنا نذير"[11]  و"إلى طعامه"[12] و"فأين تذهبون"، ترك هذه الخمس آيات[13] أبو جعفر، وعدهن شبة، وعد أبو جعفر "مقام ابراهيم"[14] وتركها شيبة".
قال ابن المنادي[15] : أما المدني الأول فلا يدرى على الحقيقة في أي زمن هو، وكأنه عدد صحابي متوافق عليه، فلكثرة أهله لم يعز إلى أحد مسمى، فإن كان قبل كتاب المصحف فهو مأخوذ من أفواه الرجال، وإن كان عن مصحف، فهو مأخوذ قبل استنساخه كتبا، فلما نشأ أبو جعفر وشيبة اختارا من عد الماضين كما من الحروف"[16].
وقد كان لنافع أخذ بالعددين معا، إلا أنه فيما يظهر كان يأخذ بالأول، ثم انتقل إلى الآخر، وذلك ما يفيده ما ذكره الإمام الداني وغيره، قال في البيان عن عدد آي القرآن:
"فالمدني الأول رواه نافع بن أبي نعيم ـ رحمه الله ـ عن أبي جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة بن نصاح وبه أخذ القدماء من أصحاب نافع".
"والمدني الأخير فهو الذي رواه اسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري عن سليمان بن مسلم بن جماز عن شيبة بن نصاح بن سرجس بن يعقوب مولى أم سلمة زوج النبي  – صلى الله عليه وسلم -، وعن أبي جعفر بن القعقاع مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، وعليه الآخذون لقراءة نافع اليوم، وبه ترسم الأخماس والأعشار وفواتح السور في مصاحف أهل المغرب"[17].
وقال أبو عمرو في إيجاز البيان: "أما المدني الأول فهو الذي رواه نافع عن أبي جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة بن نصاح، وبه كان يأخذ القدماء من المتمسكين بقراءة نافع".
"والمدني الأخير به يعد التالون لقراءة نافع اليوم، وبه تخمس المصاحف عندنا وتعشر، وترسم فواتح السور"[18].
ولعل تنقل نافع بين الأخذ بالأول والآخر هو مصدر الخلاف بين المتأخرين عن ورش أيأخذ بالأول أو الثاني؟
قال النوري في غيث النفع:
"واختلف فيما يعتبره ورش والبصري، فذهب صاحب "الدر النثير"[19] إلى أن ورشا يعتبر المدني الأخير، والبصري يعتبر عدد بلده[20]، وعلى هذا اقتصر المحقق[21] واحتج على ما لورش بأنه عدد نافع وأصحابه، وعليه مدار قراءة أصحابه المميلين رؤوس الآي.
وذهب الداني ومعه الجعبري وغيره إلى أنهما يعتبران المدني الاول، قال الداني، لأن عامة المصريين رووه عن ورش عن نافع، وعرضه البصري على أبي جعفر"[22].
ومهما يكن فالمشهور عن نافع أنه كان يأخذ بالمدني الأول، وربما كان يفضله أولا لتواتره عمن روي عنه من الصحابة، وقد تلقاه رواية عن شيخيه الكبيرين: أبي جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة بن نصاح، ونقله عنه كثير من الآخذين عنه من أصحابه، واعتمدوه في رواياتهم، وإلى إلى هذا أشار الإمام القاسم بن فيره الشاطبي في قصيدته ناظمة الزهر" بقوله:
"ولما رأى الحفاظ أسلافهم عـنوا         بها دونوها عن أولي الفضل والـبر
فعن نافع عن شيـبة ويزيـــــد أو    ل المدني، إذ كل كوف به يقـــري
وحمزة مع سفيان قد أسنـداه عن     علي عن أشياخ ثقات ذوي خـــبر
والآخر إسماعيل يرويه عنهـــما       بنقل ابن جماز سليمان ذي النـشر
بأن رســـول الله عد عليهــــما           له الآي توسيعا على الخلق في اليسر[23]
أما عدد آي القرآن في المدني الأخير فقال ابن الجوزي:
"وقد وقع إجماع العادين على أن القرآن ستة آلاف ومائتا آية، ثم اختلفوا في الكسر الزائد على ذلك، فروى المنهال بن عمرو[24] عن ابن مسعود أنه قال: القرآن ستة آلاف ومائتا آية وسبع عشرة آية، وهذا مبلغه في المدني الأول، وبه قال نافع، وأما المدني الآخر فأربع عشرة آية"[25].
وقد اعتبر ابن الجوزي نافعا من أهل المدني الآخر، وساق ذكر الخلاف بين علماء العدد في سور القرآن من الفاتحة إلى آخره، نذكر كذلك من أهل هذا العدد، فمن ذلك قوله في سورة المزمل:
"ثمان عشرة آية في عد رجلين من المدني الأخير، وهما أبو جعفر وشيبة، وتسعة عشر في عد البصري، وعطاء وأهل حمص، وفي عد المكي والكوفي والمدني الأول ورجل واحد من المدني الأخير وهو نافع" ثم قال: "اختلافها ثلاث آيات: عد الشامي والكوفي والمدني الأول "يا أيها المزمل" آية، وعد الكوفي ونافع وحده من المدني الأخير "إنا أرسلنا إليكم رسولا"[26] آية، وعد الشامي والكوفي والمدني الأول والمدني الأخير نافع وحده والبصري" يوما يجعل الولدان شيبا"[27] آية"[28].
وقال في سورة الشمس:
"خمس عشرة آية، في عد الشامي والكوفي والمكي ورجلين من المدني الأخير، وهما أبو جعفر وشيبة، والبصري وعطاء بن يسار وست عشرة آية في عد المدني الأول ورجل من المدني الأخير، وهو نافع"[29].
فهكذا اعتبر ابن الجوزي أبا جعفر وشيبة ونافعا جميعا من أهل المدني الأخير، إلا أنه مع ذلك يذكر مخالفة نافع لهما في بعض المواضع، كالمثالين اللذين ذكرنا، وهذا يدل على وقوع الخلاف بين الثلاثة المدنيين سواء في العد الأول أو الثاني، إذ الأمر في مثل هذا الخلاف كالأمر في اختلاف القراءات سواء بسواء[30]
ومهما يكن فالذي يعنينا هنا بصفة خاصة بيان مستوى الريادة أو المشاركة فيها على الأقل بالنسبة لنافع في دراسة هذا الفن والاهتمام به ضمن اهتماماته الأخرى بعلوم القراءة واستمداداتها المختلفة. بل انه لم يكتف في هذا العلم بالرواية والنقل الشفوي، وانما زاد على ذلك بتدوينه وتحديد معالمه في كتاب كان يروى عنه سماه العلامة ابن النديم "العدد المثاني"[31].
ولعل هذا الكتاب هو المتضمن لما انتهى إليه في دراسته للعدد، والذي ذكر أبو عمرو الداني أن عامة المصريين رووه عن ورش عن نافع"[32]. وقد ضمنه ما انتهى إليه من العدد بعد الدرس والتحرير، ومن هنا جاءت مخالفته في بعض المواضع لشيخيه ـ كما أسلفنا ـ سواء في العد المدني الأول أم في العد الأخير.
إلا أن الخلاف بينهم في الجملة كان يسيرا جدا، حيث اتفقوا على الجملة الكبرى، وهي ستة آلاف ومائتا آية ثم اختلفوا في الزيادة "ففي المدني الأول سبع عشرة، وبه قال نافع، وفي عدد المدني الأخير أربع عشرة عند شيبة، وعشر عند أبي جعفر"[33] وقد لخص أبو عمرو الداني هذا في المنبهة بقوله:
"وجملة الآيات في التجميل     ستة آلاف على التحصـــيل
ومائتان، ثم زاد المكــــــي     عشرا وتسعا ذاك دون شــك
ثمت زاد المدني الأولــــــي    على حساب المجمل المفصـل
عشرا وسبعا، ثم زاد الآخـر   عشرا وأربعا، وذاك ظاهـــر[34]
ولعل نافعا قد أدرج داخل تأليفه: "العدد المثاني" فنا آخر يتعلق بمعرفة المكي والمدني، وهو من متممات علم العدد، فكان من متقدمي علماء السلف الذين اهتموا بذلك، وقد وصل إلينا طرف من النقول عنه يدل على اهتمام فعلي بهذا الفن، كما يدل على اعتداد العلماء بأقواله فيه، وذلك فيما نقله العلامة علم الدين السخاوي في كتابه جمال القراء عند حديثه عن الخلاف في السور المكية والمدنية.
ومن أمثلة ذلك قوله في سورة الرحمن"
"فمنها اختلافهم في تنزيل سورة الرحمن، فقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ وابن عباس والحسن وعكرمة وعطاء بن يسار وقتادة: هي مكية، وقال عطاء بن أبي مسلم عن ابن عباس ونافع بن أبي نعيم وكريب: هي مدنية"[35].
وقال في سورة الإخلاص:
"ومنها اختلافهم في سورة الإخلاص، فقال عطاء بن أبي مسلم: انها مكية، وكذلك قال كريب ونافع بن أبي نعيم"[36].


[1] - هو أبو علي الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني صاحب الإمام الشافعي مات سنة 260 هـ - ترجمته في طبقات الفقهاء للشيرازي 100- وطبقات الشافعية للسبكي 1/205 ووفيات الأعيان 356.
[2] - ينظر نقل الإجماع على ذلك أيضا عند السيوطي في الإتقان 1/69 نقلا عن الهذلي.
[3] - الإتقان 1/69 – ومناهل العرفان للزرقاني 1/339. ونص الهذلي في الكامل (لوحة 48) وفيه "فقالوا ليس بعلم".
[4] - وذكر ابن الجزري أن عدد الياءات الزوائد في رؤوس الآي 86 ياء – النشر 2/281.
[5] - ومن أهمهم ورش عن نافع وحمزة والكسائي.
[6] - هو أبو يعقوب يوسف بن عمرو بن يسار صاحب ورش.
[7] - المراد قوله "فلا صدق ولا صلى" في سورة القيامة" وذكر اسم ربه فصلى "في الأعلى"  "وعبدا إذا صلى" في العلق. 
[8] - لطائف الإشارات للقسطلاني 1/264-265.
[9] - "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" سورة آل عمران الآية رقم 92.
[10] - سورة اليقطين الآية رقم 151.
[11] - سورة الملك الآية رقم 9.
[12] - سورة عبس الآية رقم 24. وقوله "فأين تذهبون" من سورة التكوير من الآية رقم 26.
[13] - كذا والصواب "الخمس الآيات" بتعريفهما.
[14] - سورة آل عمران الآية رقم 97.
[15] - هو أحمد بن جعفر بن محمد أبو الحسين البغدادي المعروف بابن المنادي من كبار أئمة القراءات، توفي سنة 336هـ. ترجمته في غاية النهاية  1/44 ترجمة 183.
[16] - فنون الأفنان في عيون علوم القرآن لابن الجوزي 39.
[17] - البيان عن عد آي القرآن (مخطوط) ونقله السخاوي في جمال القراء 1/189.
[18] - نقله الإمام أبو عبد الله بن غازي في ذكر فواصل طه من كتابه "إنشاد الشريد من ضوال القصيد" (مخطوط).
[19] - هو أبو محمد عبد الواحد بن أبي السداد الباهلي شارح "التيسير في القراءات السبع" للداني، وسيأتي.
[20] - يعني العدد البصري، وهو مروي عن عاصم الجحدري من التابعين – فنون الأفنان 39-40.
[21] - يعني ابن الجزري في النشر 2/80، وقد جاء فيه قوله: "والمحتاج إلى معرفته من ذلك عدد المدني الأخير، لأنه عدد نافع وأصحابه المميلين رؤوس الآي، وعدد البصري ليعرف به قراءة أبي عمرو في رواية الإمالة".
[22] - غيث النفع بهامش سراج القارئ لابن القاصح 288.
[23] - تنظر قصيدة الشاطبي في إتحاف البررة بالمتون العشرة 343.
[24] - هو المنهال بن عمرو الأنصاري ويقال الأسدي الكوفي ثقة مشهور. – ترجمته في غاية النهاية 2/315.
[25] - فنون الأفنان 39-40.
[26] - سورة المزمل الآية 15.
[27] - نفس السورة الآية 17.
[28] - فنون الأفنان 67.
[29] - فنون الأفنان 70.
[30] - ينظر في سبب وقوع الخلاف في العدد فنون الأفنان 39-40  وجمال القراء للسخاوي 1/231-232.
[31] - الفهرست 61.
[32] - النص تقدم من نقل النوري في غيث النفع 288.
[33] - نقله الزرقاني في مناهل العرفان في علوم القرآن 1/336.
[34] - الأرجوزة المنبهة للداني.
[35] - جمال القراء وكمال الإقراء 1/17-18.
[36] - نفسه 1/19.

Post a Comment

أحدث أقدم