طرد امرؤ
القيس من قبل والده
وفي
رواية أخرى أن حُجْراً طرد ابنه امرأ القيس "لِمَا صَنَع في الشعر بفاطمة ما
صنع، وكان لها عاشقاً، فطلبها زماناً فلم يصل إليها، وكان يطلب منها غِرَّة حتى
كان منها يومَ الغدير بدَارةِ جُلْجُلٍ([1])
ما كان، فقال([2]):
* قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ*"
فلما بلغ ذلك حُجْراً غضب، وأَوْصَى مولى له
يقال له ربيعة بقتله، ثم طرده([3])،
وقيل: إنما طرده لأنه تغزَّل بامرأة من نساء أبيه([4]).
فلما طرده والده، صار يتجول في الآفاق يجمع إليه
طائفة من الصعاليك والذؤبان والشذاذ من أحياء طيِّىء وكلب وبكر، وأخذ يتنقّل بهم
في منازل العرب، ويغير بهم على أحيائها، ويقاسمهم ما تناله أيديهم أو ما يقع لهم
من الصيد، ثم يذهب بهم إلى المناهل والغدران والرياض، يذبح لهم، ويؤاكلهم،
ويعاقرهم الخمر، وينشدهم الشعر، وتغنّيهم قيانه، حتى جاءه خبر مقتل والده، فنبذ
هذه الحياة وصمّم على الأخذ بالثأر من قَتَلة أبيه([5]).
ولم يزل امرؤ القيس مع صعاليك العرب حتى أتاه
نبأ مقتل والده وهو بدمُّون من أرض اليمن على رواية ابن الكلبي، وفي رواية أخرى
تنسب إلى الهيثم بن عدي "أن امرأ القيس لمَّا قُتِل أبوه كان غلاماً قد
ترعرع، وكان في بني حَنظلة مقيماً لأن ظِئْرَه كانت امرأةً منهم. فلما بلغه ذلك
قال([6]):
يا
لَهْفَ هندٍ إذْ خَطِئْنَ كاهلاَ
تاللهِ لا يَذْهَبُ شيخي باطِلاَ وخيرَهُمْ - قد عَلِمُوا- فواضِلا وحيَّ صَعبٍ والوَشِيجَ الذَّابِلا |
القاتِلينَ
المَلِكَ الحُلاحِلاَ
يا خيرَ شيخ حَسَباً ونائِلا يَحمِلْننا والأَسَلَ النَّواهِلا مُسْتَثْفِراتٍ بالحَصَى جَوَافِلا" ([7]) |
أتَاني
وأصحابي على رأْسِ صَيْلَعٍ([9])
فقلتُ لِعِجْليٍّ بعيدٍ مآبُهُ: فقال: أَبيتَ اللعْنَ، عَمْرٌو وكاهِلٌ |
حديثٌ
أَطَارَ النَّوْمَ عَنِّي فأَنْعَمَا
أَبِنْ لي وبَيِّنْ لي الحديثَ المُجَمْجَما أباحَا حِمَى حُجْرٍ فأَصْبَحَ مُسْلَمَا |
ويفهم
من هذه الأبيات أن امرأ القيس كان في "صيلع" عندما بلغه نبأ مقتل والده،
أتاه به رجل اسمه عِجْل، ويُعْرف بعامر الأعور([10])،
ويذكر ياقوت الحموي([11])
أن في "صيلع" ورد الخبر على امرىء القيس بمقتل أبيه حُجْر.
وفي خبر آخر يفيد أنه نزل في "بني
دارم"، وبقي عندهم حتى قتل عمه شرحبيل([12])،
وفي رواية مرجعها الهيثم بن عدي أيضاً أنه كان مع والده حُجْر - في جمع من قومه
كندة- عندما هاجمته بنو أسد وقتلته، وأنه هرب على فرس له شقراء، وتمكّن من النجاة([13]).
ويروي
ابن السكيت أنه لمَّا طعن الأسديُّ حُجْراً ولم يجهز عليه، أوصى ودفع كتابَه إلى
رجل، وطلب منه أن يستقري أولاده واحداً واحداً حتى يأتي امرأ القيس، ففعل، فلما أتى امرأ القيس وجده
"مع نديم له يشرب الخمر ويُلاعبه بالنَّرد؛ فقال له: قُتِلَ حُجْر. فلم يلتفت
إلى قوله؛ وأمسك نديمه. فقال له امرؤ القيس: اضربْ فضرب. حتى إذا فرغَ قال: ما
كنتُ لأفسد عليك دَسْتك([14]).
ثم سأل الرسولَ عن أمر أبيه كُلِّه فأَخبره. فقال: الخمرُ عليَّ والنساء حرامٌ حتى
أقتُل من بني أسد مائة وأجُزَّ نواصيَ مائة. وفي ذلك يقول([15]):
وتناقض رواية ابن السكيت رواية أوثق([17])
منها تنسب إلى الهيثم بن عدي، وهي الرواية الوحيدة - من بين روايات أربع ذكرها أبو
الفرج- التي تقرّر أن امرأ القيس شهد لقاء كندة مع بني أسد، وأنه هرب على فرس له
شقراء، وأعجزهم اللحاق به. ونستطيع أن نوفّق بين هذه الروايات جميعها، إذا ذهبنا
في التأويل إلى أنه فرَّ من المعركة بعد أن هُزم قومه، وقبل أن يقتل أبوه، وأن
الخبر جاءه هارباً في دَمُّون([18]).
ويذكر ابن الكلبي ويعقوب بن السكيت أن امرأ
القيس ارتحل - بعد أن أتاه نبأ مقتل والده- حتى نزل بكراً وتغلب([19])،
فسألهم النصر على بني أسد، فبعث العيونَ على بني أسد فَنَذِروا([20])
بالعيون ولجأوا إلى بني كنانة، ثم علموا أن امرأ القيس يتعقّبهم، فارتحلوا عن بني
كنانة ليلاً دون أن يشعروا، فلما وصل امرؤ القيس بمن معه من بكر وتغلب إلى بني
كنانة ظانّاً بني أسد بينهم، نادى: يا لِثارات الملك! يا لِثارات الهُمام! فأخبروه
أن بني أسد قد تركوهم وارتحلوا عنهم، فقال في ذلك([21]):
أَلا
يا لَهْفَ هِنْدٍ إثرَ قَوْمٍ
وقاهُمْ جَدُّهُمْ بِبَنِي أَبِيهِمْ وأَفْلَتَهُنَّ عِلباءٌ جَريضاً |
هُمُ
كانوا الشِّفاءَ فلم يُصابوا
وبالأَشْقَيْنَ ما كان العِقابُ ولو أَدْرَكْنَه صَفِرَ الوِطابُ |
وتتبّعهم امرؤ القيس حتى أدركهم فقاتلهم فكثرت
الجرحى والقتلى فيهم، وحجز الليل بينهم، وهربت بنو أسد، فلما أصبحت بكر وتغلبُ
أَبَوْا أن يتَّبعوهم، وقالوا له: "قد أصبتَ ثأرَك. قال: والله، ما فعلتُ ولا
أصبتُ من بني كاهل ولا من غيرهم من بني أسد أحداً. قالوا: بَلَى، ولكنك رجل مشؤوم،
وكرهوا قتالهم بني
كنانة، وانصرفوا عنه، ومضى هارباً لوجهه حتى لحق بحميرَ"([22]).
كنانة، وانصرفوا عنه، ومضى هارباً لوجهه حتى لحق بحميرَ"([22]).
ويشير ابن قتيبة([23]) إلى أن امرأ القيس سار إلى بني أسد عندما لجأوا إلى بني كنانة، فأوقع ببني كنانة، ونجتْ بنو كاهل من بني أسد؛ فقال([24]):
يا لَهْفَ نَفْسِي إذْ خَطِئْنَ كاهـِلا
القاتِلِـينَ المَلِكَ الحُلاحـِلا
تاللهِ لا يَذْهَبُ شيخي باطِلا
يا ذَا المُخَوِّفُنا بِقَتْـ
أَزَعَمْتَ أَنَّك قد قَتَلْـ |
![]() ![]() ــتَ سَرَاتنا كَذِباً وَمَيْنا |
(2)
الأغاني 9: 87، وانظر الكامل في التاريخ 1: 515. يذكر الرواة منهم الخليل بن أحمد
الفراهيدي أنه قَدِم على امرىء
([19]) من الأخبار
التي تحدّث بها الرواة قبل نزول امرىء القيس على بَكْر وتغلب - فيما ذكره المفضل-
أن ثعلبة بن مالك من بني عمرو
أحـارِ
بـنَ عَمْـرٍو كأَنِّـي
خَمـِرْ ويَعْـدُو
علـى المَـرْءِ ما
يأْتَمِـرْ
ديوان امرىء القيس: 153-167، وانظر أمير الشعر
في العصر القديم: 275-276.
([22]) الأغاني
9: 90-92، وانظر 22: 118، الشعر والشعراء: 52، وفيه ذكر ابن قتيبة أنه استجاش بكر
بن وائل، وذكر في
إرسال تعليق