روايته للسنة ومكانته
في الحديث:
فأما في مجال رواية السنن والآثار، فقد أتيح له أن يتحمل عن
كبار مشايخ العصر وفحول حفاظ السنة وأوعية الآثار النبوية، من أمثال ابن هرمز
الأعرج صاحب أبي هريرة، وابن شهاب الزهري ونافع مولى ابن عمر وعبد الله بن ذكوان
المعروف بأبي الزناد، بل كان مؤهلا من حيث السن والإدراك لأن يروي عن بعض معمري
الصحابة لو كان موجها إلى ذلك، لما تقدم من إدراكه لطائفة منهم، وفيهم من صلى خلفه
ـ كما تقدم من قول أبي عمرو الداني، كأبي الطفيل عامر بن واثلة وعبد الله بن أنيس
وغيرهما، علاوة على فقهاء التابعين ورواة السنن والمغازي من الفقهاء السبعة وغيرهم
من أمثالهم من أصحاب زيد بن ثابت وأبي بن كعب وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة
وسواهم من التابعين، ولعله لو أتيح له توجيه خاص إلى الحديث، ما كان ليفوته من
شفوف القدر وسامي المنزلة، ما تهيأ لطائفة من أقرانه وأكفائه فيه من أمثال أبي
الزناد ومحمد بن اسحاق المطلبي ـ صاحب السيرة ـ ويحيى بن سعيد الأنصاري وسواهم.
ولعل قلة ما جاء عنه في رواية الحديث بالقياس إلى غيره ممن
أدرك ما أدرك، لا يعود بالأساس إلى كونه من أهل البضاعة المزجاة في هذا العلم،
وإنما يعود إلى إنصرافه إلى القراءة وعلومها، كما يعود من جهة أخرى إلى رعاية
التخصص من لدن المتحملين للرواية، فكانوا لا يقصدونه في غير فنه الذي برز فيه،
ولهذا كان كما قدمنا من قول الليث بن سعد "إمام الناس في القراءة لا
ينازع"[1] ولم يكن ـ كما قال الحافظ الذهبي ـ من فرسان
الحديث"[2].
وقد وقفت على هذا هنا بصفة خاصة لآتي على قضية في منتهى
الأهمية، وهي أنه لا يلزم من ضعف الراوي في علم ما كعلم الحديث أن يكون ضعيفا في
روايته للعلم الذي اختص به، وبهذا أجاب عدد من العلماء عن بعض الأئمة الذين ضعفهم
بعض علماء الجرح والتعديل في رواية الحديث مع جلالة أقدارهم في ضبط العلوم التي
اختصوا بروايتها وحملها.
وقد قال الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة أبي
عمر حفص بن عمر الدوري 11/543 مجيبا على قول الإمام الدارقطني في صاحب الترجمة
المذكور "ضعيف" فقال أعني الذهبي:
" يريد في ضبط الآثار، أما في القراءات فثبت إمام قال:
وكذلك جماعة من القراء أثبات في القراءة دون الحديث كنافع
والكسائي وحفص فإنهم نهضوا بأعباء الحروف فحرروها ولم يصنعوا ذلك في الحديث، كما
أن طائفة من الحفاظ أتقنوا الحديث ولم يحكموا القراءة، وكذا شأن كل من برز في فن
ولم يعتن بما عداه".
ومهما يكن فيمكن تصنيفه في قائمة المحدثين من الطبقة الثالثة
من التابعين، استنادا إلى المجموعة الحديثية التي صحت عنه، وإلى ما قاله عنه علماء
التعديل والترجيح من أقوال تفاوتت بعض التفاوت في تقدير منزلته في الحديث، اعتبر
بالنظر إلى مجموعها مقبول الرواية غير مضعف، ولا مدفوع عن الثقة بنقله .
فترجــم له في الثقــات الإمـــام أحــمد بن عبـــد الله بن
صــالح العجلـــي (182-261هـ)[3].
والإمام عمر بن أحمد بن عثمان المعروف بابن شاهين[4]،
ذكره ابن حبان أيضا في الثقات[5]، وقال أبو عمرو
الداني في الطبقات: "قال أبو عبد الرحمان النسائي: نافع بن أبي نعيم ليس به
بأس"[6].
وقال الذهبي: "وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: صدوق،
وقال النسائي: ليس به بأس، ولينه أحمد بن حنبل ـ أعني في الحديث ـ أما في الحروف،
بالاتفاق ... ثم قال:
قال ابن عدي في الكامل: له نسخة عن الأعرج نحو من مائة حديث،
وله نسخة أخرى عن أبي الزناد وله في التفاريق قدر خمسين حديثا، ولم أر له شيئا
منكرا". ثم قال الذهبي:
"ينبغي أن يعد حديثه حسنا.."[7].
وقال ابن سعد: كان ثبتا، وقال الساجي: اختلف فيه أحمد ويحيى[8]،
فقال أحمد: منكر الحديث، وقال يحيى: ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق، صالح الحديث"[9].
وقال ابن الجزري: "هو قليل الحديث، مع أنه روى عن نافع
عن ابن عمر، وعن الأعرج عن أبي هريرة وجماعة، ولكنه تصدى للإقراء، ولم يخرج له شيء
في الكتب الستة"[10].
وقد جمع أحاديث نافع بن أبي نعيم في جزء خاص بعض الأئمة وهو
أبو بكر محمد بن إبراهيم المقرئ (ت 381هـ) ونشر أخيرا في كتاب خاص[11].
وهكذا فباستثناء الإمام أحمد، الذي اختلفت العبارة المنقولة
عنه في حقه، فجاءت بلفظ "منكر الحديث" كما عبر الساجي فيما تقدم، وجاءت
بلفظ "لينه أحمد عند الذهبي، وجاءت عند ابن القيم وابن حجر نقلا عن أحمد
بلفظ: "يؤخذ عنه القرآن، وليس في الحديث بشيء"[12].
باستثناء أحمد، فالاتفاق على قبوله وثقته وصدقه، بل ذهب
طائفة من الأئمة إلى تصحيح حديثه، قال ابن حجر في كتابه تلخيص الحبير:
"حديث ـ إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه ليس دونها حجاب
ولا ستر، فقد وجب عله الوضوء، - ابن حبان في صحيحه من طريق نافع بن أبي نعيم ويزيد
بن عبد الملك[13]
جميعا عن سعيد المقبري عن أبي هريرة بهذا". وقال ـ يعني ابن حبان ـ
"احتجاجنا في هذا بنافع دون يزيد بن عبد الملك" ـ وقال في كتاب الصلاة
له: "هذا حديث صحيح متنده، عدول نقلته"، وصححه الحاكم من هذا الوجه،
وابن عبد البر، وأخرجه البيهقي والطبراني في الصغير[14]،
وقال: لم يروه عن نافع بن أبي نعيم إلا عبد الرحمن بن القاسم، تفرد به أصبغ".
وقال ابن السكن: "هو أجود ما روي في هذا الباب". وقال ابن عبد البر:
"كان هذا الحديث لا يعرف إلا من رواية يزيد حتى رواه
أصبغ عن ابن القاسم عن نافع بن أبي نعيم ويزيد جميعا عن المقبري، فصح الحديث، إلا
أن أحمد بن حنبل كان لا يرضى نافع بن أبي نعيم في الحديث، ويرضاه في القراءة،
وخالفه ابن معين فوثقه"[15].
وذكر ابن القيم كلام ابن عبد البر هذا ثم قال: - يعني ابن
عبد البر -: "فصح الحديث بنقل العدل عن العدل على ما قال ابن السكن، إلا أن
أحمد بن حنبل كان لا يرضى نافع بن أبي نعيم، وخالفه ابن معين فقال: هو ثقة"[16].
ذلك شأنه عند أئمة الحديث، أما عند أصحابه وغيرهم من علماء
المدينة وقرائها، فقد كان في أعلى المستويات، وعلى الأخص في فنه الذي اختص به، وهو
علم القراءات وما يتصل به، ولقد كان فيما يتصل بهذه العلوم من المنزلة بمكان،
لاسيما في المسائل الخلافية كقضية الجهر بالبسملة في الصلاة وغيرها ولأهمية هذه
القضية نسوقها هنا لبيان منزلته عند علماء المدينة في هذا الشأن.
[11]- طبع ونشر بتحقيق أبو الفضل الجويني الأثرى ـ طنطا ـ دار الصحابة
1411هـ في 84 صفحة.
[12]- جلاء الأفهام لابن القيم 264.
[13]- هو زد بن عبد الملك بن المغيرة النوفلي أبو المغيرة المدني، قال
الخزرجي في الخلاصة: 433: عن أبي سلمة، وعنه ابن القاسم، قال النسائي:
متروك".
[14]- حديثه عند الطبراني في المعجم الصغير 1/42-43. بسنده عن أصبغ بن
الفرج، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم عن نافع بن أبي نعيم ويزيد ن عبد الملك
النوفلي، عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-:
"إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه ليس دونها حجاب، فقد وجب عليه الوضوء"
قال الطبراني: "لم يروه عن نافع إلا عبد الرحمن بن القاسم الفقيه المصري.
[15]- تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير لابن حجر
1/1/125-126.
[16] - تهذيب سنن أبي داود لابن القيم – منشور بحاشية مختصر سنن أبي
داود للحافظ المنذري ومعالم السنن للخطابي 134.
إرسال تعليق