أطوار ومراحل تكون القراءة قبل استقرارها على الوجوه الرسمية التي اختارها الأئمة:
وبهذا يتضح أن الأطوار التي مر منها علم القراءات هي الأطوار الثلاثة التي مر منها غيره من علوم الرواية كالتفسير والفقه والحديث، وأن ما انتهى إليه القراء من هذه الاختيارات التي تنسب إلى أئمة القراء بالأمصار، شبيهة في صورتها بالاختيارات التي تنسب إلى أئمة الفقه مثلا في صورة "مذاهب" فقهية تعزى إلى أئمة الأمصار، وباستقراء هذه المراحل يتبين أنها مراحل ثلاث:
أ‌-     مرحلة السمع، وتبتدئ بالسماع والتلقي مباشرة عن مشكاة النبوة من لدن رواة العلم الذين سمعوا القرآن غضا من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ثم من لدن من سمع منهم من التابعين.
ب‌-مرحلة الجمع، وهي المرحلة الموالية، وقد مثلها كبار رواة العلم من أئمة التابعين من القراء والفقها فكان عملهم منصبا على جمع الأحاديث والآثار الواردة في القراءة والتفسير ونحو ذلك عن مصادرها التي أخذت عن المصدر الأول.
ج- مرحلة التحرير والتمحيص وتهذيب الروايات والآثار بالنظر في معانيها وتأويلها، ودرجة ثبوتها، ومعرفة صحيحها وسقيمها، واستنباط القواعد والأحكام منها، وتدوين الاختيارات الخاصة بكل إمام، وهي الاختيارات الكبرى التي تعزى إلى الأئمة المجتهدين في المجالين الفقهي والقرائي، وهي أيضا تمثل ثمرة مجهود كبير استفاد فيه الخلف من السلف، وزادوه تحريرا وضبطا وتهذيبا، وإلى هذه المراحل الثلاث أشار بعض الفقهاء بقوله:
فأول سمـع والثاني جمــع     وثالث حرر فقها يتبــع [1]
وكما أن علماء أصول الفقه قد استنبطوا للفقه قواعد نسجوا على منوالها، فقد استنبط علماء أصول القراءات أصولا للقراءات جعلوها معايير للقبول والرد، أشار إلى عناصرها الإمام مكي بن أبي طالب فقال:
"وهؤلاء الذين اختاروا إنما قرأوا لجماعة وبروايات، فاختار كل واحد مما قرأ وروى قراءة تنسب إليه بلفظ "الاختيار"، وقد اختار الطبري وغيره[2]، وأكثر اختيارهم إنما هو في الحرف إذا اجتمعت فيه ثلاثة أشياء:
أ‌-     قوة وجهه في العربية.
ب‌-موافقة المصحف.
ج- اجتماع العامة عليه.
"والعامة عندهم ما اتفق عليه أهل المدينة وأهل الكوفة، فذلك عندهم حجة توجب الاختيار، وربما جعلوا العامة ما اجتمع عليه أهل الحرمين، وربما جعلوا الاعتبار بما اتفق عليه نافع وعاصم، فقراءة هذين الإمامين أولى القراءات وأصحها سندا، وأفصحها في العربية، ويتلوها في الفصاحة خاصة قراءة أبي عمرو بن العلاء والكسائي"[3].
وهذا التقويم الذي ذكر مكي ـ رحمه الله ـ، وإن كان مستقى من مناهج أئمة القراء الذين كانت لهم اختيارات بعد زمن السبعة، بعد أن أصبحت قراءاتهم نماذج تحتذى في مجال الموازنة بين أوثق وجوه القراءات، فإنه مع ذلك يرسم لنا الإطار الذي اختار السبعة أنفسهم في ظلاله، "حيث قام كل فرد من القراء في تلكم الفترة بالنظر فيما روى من حروف قرائية مختلفة، واختار من بينها حروفه، على أساس من مقياس معين انتهجه في الموازنة والاختيار قد يرجع إلى مستوى وثاقة السند، وقد يرجع إلى قوة الوجه في العربية، وقد يرجع إلى مطابقة الرسم، وربما رجع إلى عوامل أخرى، ثم بعد اختياره يتبناه، فينسب إليه، ويسمى اختياره حرفه، وفي ضوئه نستطيع أن نعرف "الاختيار" بأنه: الحرف الذي اختاره القارئ من بين مروياته، مجتهدا في اختياره"[4].
فإذا كان هذا منهج عامة أصحاب الاختيارات، فما هي المعالم التي تحدد اختيارات الإمام نافع خاصة؟ وهل اكتفى بالمعايير الثلاثة التي حددها الإمام مكي بن أبي طالب، أم تجاوزها إلى اعتبار عوامل أخرى معها كما ذكر الفضيلي؟؟


[1] - انتصار المجتهد لمحمد العربي بن البهلول 41.
[2] - ينظر أهل الاختيار للحروف في المنبهة للإمام الداني.
[3] - الإبانة لمكي 89 ومثله في البرهان للزركشي 1/331.
[4] - القراءات القرآنية للدكتور عبد الهادي الفضيلي 105.

Post a Comment

Previous Post Next Post