يزيد بن القعقاع أبو جعفر المدني شيخ قراءة
المدينة في زمنه
هذا هو اسمه ونسبه على المشهور[1]،
وكان مولى للقارئ الكبير عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي ـ الآنف الذكر في
مدرسة أبي بن كعب ـ. عرض القرآن على مولاه عبد الله بن عياش وعبد الله ابن عباس
وأبي هريرة وروى عنهم[2]،
واختلف في قراءته على زيد بن ثابت، قال الأندرابي[3]
"وقيل إن أبا جعفر قرأ على زيد بن ثابت، وسنه تحتمل ذلك"[4]،
وذكر الذهبي مثله وقال: "ولم يصح"[5]،
وقال الأندرابي:
"وقرأ أبو جعفر أيضا على خباب بن الأرث ـ
معلم فاطمة أخت عمر بن الخطاب، من قبل أن يظهر الله الإسلام[6]
ـ وكان خباب من المهاجرين الأولين ممن شهد بدرا ـ، لكن مدار قراءة أبي جعفر على
الثلاثة الآخرين الذين مر ذكرهم"[7].
قال:
"وكان أبو جعفر ممن لقي أم المؤمنين عائشة
ـ رضي الله عنها ـ وهو صغير السن، فمسحت رأسه، ودعت له بأن يعلمه الله القرآن، وقد
لقي أبو جعفر عبد الله بن عمر[8]
ـ رضي الله عنهما، ولا أدري أقرأ عليه أم لا؟ وعن سليمان بن مسلم بن جماز قال:
أخبرني أبو جعفر أنه أتي به إلى أم سلمة زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهو
صغير السن، فمسحت رأسه، ودعت بالبركة"[9].
ولعل أرسخ شيوخه أثرا في نفسه، وأكثرهم تأثيرا
في مذاهبه في القراءة هو مولاه ابن عياش، وقد قدمنا أنه كان أول من مثل مشيخة
الإقراء خاصة بعد الصحابة، وكان من أهم أصحاب أبي وزيد، وقد ذكر سليمان بن مسلم بن
جماز كيف تلقى أبو جعفر عنه القراءة وتحقق من اختياراته فيها فقال:
"أخبرني أبو جعفر أنه كان يمسك على مولاه
عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي المصحف ـ وكان من أقرإ الناس ـ قال: ـ
وكنت أرى كل يوم ما يقرأ
[10]،
وأخذت عنه قراءته"[11].
أما زمن تصدره للإقراء فيظهر أنه قبل نهاية
العقد السادس من المائة الأولى، وفي ذلك ما يدل على قدمه وإمكان إدراكه لزيد بن
ثابت وأخذه عنه، لأن وفاة زيد إنما كانت على المشهور سنة 45هـ.
وقيل سنة 48 ـ قال ابن الجزري ـ: وأبعد من قال
سنة 55هـ أو سنة 56، بل مات عن 56 سنة"[12].
قال الأندرابي مشيرا إلى قدم تصدره:
"وكان أبو جعفر ـ رحمه الله ـ أول من اختير
بعد التابعين، وتصدر للإقراء قبل الحرة، وكان يوم الحرة سنة ثلاث وستين، فكان إمام
دار الهجرة بلا منازع والصحابة في الأحياء، وانما صار في الطبقة الأولى من
التابعين لأخذه القراءة ممن قرأ على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ[13].
ونقل الذهبي عن سليمان بن عباد أنه قال:
"سألت أبا جعفر متى علمت القرآن؟ قال: زمن معاوية"[14].
وقد نال أبو جعفر في زمنه وبعده منزلة عالية من
تقدير الناس وشهادتهم له بالإمامة، كما تدل على ذلك الأخبار الكثيرة الواردة في
تزكيته والتنويه به وبقراءته. فقد قال مالك: "كان أبو جعفر رجلا صالحا يقرئ
الناس بالمدينة"[15]،
وقال أبو الزناد: "لم يكن أحد أقرأ للسنة من أبي جعفر، وكان يقدم في زمانه
على عبد الرحمن بن هرمز"[16].
وقال يعقوب بن جعفر بن أبي كثير[17]
: "كان إمام المسجد بالمدينة أبو جعفر يزيد بن القعقاع مولى عبد الله بن
عياش.."[18].
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "كان أبو
جعفر يصلي خلف القراء في رمضان يلقنهم، يؤمر بذلك، وكان بعده شبية جعلوه
لذلك"[19].
وقال يحيى بن معين "كان إمام أهل المدينة
في القراءة فسمي "القارئ" بذلك، وكان ثقة كثير الحديث" [20].
وذكر مثل ذلك ابن سعد في الطبقات[21].
وقال ابن حبان: "وكان قد عني بعلم القرآن، مع النسك والورع"[22].
وقال أبو بكر بن مجاهد: "وكان أبو جعفر لا يتقدمه أحد في عصره"
[23].
وقد حظيت قراءته بعده بمثل هذا التقدير، فكانت
تدعى بالحرف المدني الأول، وقد روى الحسن بن الحباب عن أبي الحسن البزاز قال: حضرت
أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، وسأله رجل فقال له: يا أبا عبد الله، بأي حرف
ترى لي أن أقرأ؟ قال: حرف "المدني الأول"، قال: فإن لم أجد؟ قال: حرف
عاصم[24].
وعن قتيبة بن مهران قال: سألت سليمان بن مسلم بن
جماز فقلت: أقرأت على أبي جعفر وشبية ونافع؟ قال: نعم، قد قرأت على أبي جعفر وشبية
ونافع، وسألته فقلت له: أتقرأ بقراءة أبي جعفر أو نافع؟ فقال: أقرئ الناس بقراءة
نافع، وإذا كنت وحدي فأحب إلي أن أقرأ بقراءة أبي جعفر"[25].
أما رواة قراءته فلا يحيط بهم الحصر، لطول
تصدره، واعتماد جمهور أهل بلده فيها عليه، وقد اقتصر المترجمون له على المشهورين
منهم: وأهمهم نافع بن أبي نعيم، وسليمان بن مسلم بن جماز، وعيسى بن وردان، وأبو
عمرو بن العلاء البصري، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وإسماعيل بن جعفر الأنصاري،
كما رواها أبناء أبي جعفر الثلاثة: إسماعيل ويعقوب وميمونة، وهي زوج شبية بن نصاح
ـ كما سيأتي ـ[26].
واشتهرت في المدينة قبل قراءة نافع، وإنما ترك
ابن مجاهد عدها مع القراءات السبع المشهورة، مع أنه صدر لما سيذكره في أول كتابه
"السبعة في القراءات" بقوله: "ومخبر عن القراءة التي عليها الناس
بالحجاز والعراق والشام"[27]،
لما اعتذر به عنه أبو علي الأهوازي ونقله ابن الجزري بقوله:
"وأما أبو جعفر فلم تقع له روايته، وإلا
فهو قد ذكر لأبي جعفر في كتابه "السبعة" من المناقب ما لم يذكره
لغيره"[28].
ويكفي في الدلالة على شهرة قراءته واشتهارها من
طريقه في العراق وغيرها.
قال ابن الجزري وقد أسند أبو عبد الله القصاع[29]
قراءة أبي جعفر من رواية نافع عنه في كتابه "المغني" وروينا قراءته عنه
في كتاب "الكامل" لأبي القاسم الهذلي، وكذلك أقرأ بها أبو عبد الرحمن
قتيبة بن مهران، وقرأ بها على إسماعيل بن جعفر، وصحت عندنا من طريقه، والعجب ممن
يطعن في هذه القراءة أو يجعلها من الشواذ، وهي لم يكن بينها وبين غيرها من السبع
فرق، كما بيناه في كتابنا المنجد"[30].
ومن خلال ما تقدم يمكن أن ندرك أهمية أبي جعفر
في المدرسة المدنية على العموم، وفي مشيخة نافع على الخصوص، ونشير بصفة خاصة فيما
يفيدنا في دراستنا لقراءة نافع من خلال أبي جعفر إلى العناصر التالية:
1- أنه يسند قراءته من طريق أبي هريرة
وابن عباس وابن عياش من قراءة الثلاثة على أبي بن كعب عن النبي صلى الله
عليه وسلم، وهذا إسناد لا غاية وراءه في القوة والصحة والثبوت، وهو أوثق أسانيد
نافع من طرق شيوخه الخمسة جميعا.
2- أنه أول ممثل رسمي للقراءة المدنية الموافقة
لخط المصحف الإمام، وذلك هو المراد بقولهم: "لم يكن أحد أقرا
للسنة منه"[31].
3- أنه أقدم أستاذ لنافع في القراءة، وقد قدمنا
قوله: "كنت أقرأ عليه، وأنا ابن تسع، ولي ضفيرتان"[32]
.
4- أن نافعا يعتبر بالنسبة إليه بمنزلة قالون
وورش بالنسبة لنافع، بل ان ابن الجزري يذكر في ترجمة قالون أنه
"أخذ القراءة عرضا عن نافع، قراءة نافع وقراءة أبي جعفر"[33].
وقال في منجد المقرئين: "أما أبو جعفر يزيد
بن القعقاع فروى عنه قراءته أحد القراء السبعة، وهو نافع بن عبد الرحمن، وأقرأ بها
القرآن، ورواها عنه جماعة منهم قالون"[34].
وقد قرأ الأندرابي بقراءة أبي جعفر من طرق
عديدة، ومنها طريق العمري ـ وهو أبو عبد الرحمن الزبير ابن محمد بن سالم بن عبد
الله بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ، ويعرف بسمنة، وقرأ سمنة على قالون،
وقرأ قالون على نافع وعيسى بن وردان، وهما قرآ على أبي جعفر"[35].
فهكذا كان نافع من أهم الطرق المشهورة في قراءة
أبي جعفر.
5- أن أبا جعفر كان من أول من عنوا من قراء أهل
المدينة بضبط عدد الآي في السور القرآنية ومعرفة رؤوسها فيما يعرف عند القراء بـ"العدد
المدني الأول"، وقد نسب إليه وإلى شيبة صهره.
قال الحافظ أبو عمرو الداني في كتابه
"إيجاز البيان": "أما المدني الأول فهو الذي رواه نافع عن أبي جعفر
يزيد بن القعقاع وشبية بن نصاح، وبه كان يأخذ القدماء من المتمسكين بقراءة
نافع"[36]
.
6- أن قراءة أبي جعفر ما تزال معروفة عند قراء
"القراءات العشر" إلى اليوم، إلا أنها من غير طريق
نافع، وإنما هي من طريق عيسى بن وردان وسليمان بن مسلم بن جماز، وقد ذكرها ابن
الجزري في النشر من اثنتين وخمسين طريقا عنهما[37].
أما وفاة أبي جعفر فقد اختلفت المصادر فيها،
فقال الأندرابي "توفي بالمدينة في خلافة مروان سنة ثمان وعشرين ومائة"[38]
وقال ابن حبان "مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وقيل انه مات في ولاية مروان
ابن محمد"[39].
وذكر ابن خلكان وغيره سنتي 133-130هـ[40]،
وهي في الجملة سنوات متقاربة.
[1]- وقيل اسمه جندب بن فيروز ـ وفيات الأعيان
لابن خلكان 6/274-275 ترجمة 814 – وقيل اسمه فيروز غاية النهاية 2/382 ترجمة 3881.
[2]- الطبقات الكبرى لابن سعد 151-152 – القسم التابع
المتم لذكر تابعي أهل المدينة ترجمة 60. ومثل ذلك في غاية النهاة 2/282-معرفة
القراء 1/58 – ووفيات الأعيان 6/274-275.
[3]- هو احمد بن أبي بن أبي عمر المعروف بالأندرابي
صاحب الكتاب الآتي.
[4]- قراءات القراء المعروفين 46.
[5]- معرفة القراء الكبار 1/59.
[6]- يذكر ذلك في قصة إسلام عمر بن الخطاب في كتب
الحديث.
[7]- قراءات القراء المعروفين بروايات الرواة
المشهورين45.
[8]- ذكر الذهبي انه صلى بابن عمر – معرفة القراء
الكبار 1/59. واصل الخبر في الموطأ – تنوير الحوالك 1/179.
[9]- قراءات القراء المعروفين للأندرابي 46.
[10]- في كتاب السبعة "فكنت أروي كما يقرأ"
ولعله تحريف، والصواب ما في وفيات الأعيان 6/274-275 ترجمة 814. ـ ومعرفة القراء
الكبار 1/59.
[11]- كتاب السبعة 58 ـ ووفيات الأعيان 6/274-275 –
ومعرفة القراء 1/59.
[12]- غاية النهاية 1/296 ترجمة 1305.
[13]- قراءات القراء المعروفين بروايات الرواة
المشهورين 46.
[14]- معرفة القراء الكبار 1/59.
[15]- في "معرفة القراء" " يفتي
الناس" بدل يقرئ الناس" ولعله تحريف – معرفة القراء 1/60 – وغاية
النهاية 2/283.
[16]- السبعة في القراءات لابن مجاهد 57- وقراءات
القراء المعروفين 47 – ومعرفة القراء 1/59.
[17]- هو أخو إسماعيل بن جعفر الأنصاري، وكلاهما من
أصحاب نافع كما سيأتي.
[20]- غاية النهاية 2/383 ترجمة 3882.
[21]- الطبقات الكبرى لابن سعد– القسم المتم لتابعي
أهل الدينة 151-152 ترجمة 60.
[22]- مشاهير علماء الامصار لابن حبان 76 ترجمة 541.
[24]- قراءات القراء المعروفين بروايات الرواة
المشهورين 47.
[25]- المصدر نفسه 47-48.
[26]- معرفة القراء الكبار 1/58 ـ غاية النهاية 2/382
ـ383 ترجمة 3882.
[27]- السبعة في القراءات 45.
[28]- منجد المقرئين لابن الجزري 72.
[29]- هو محمد بن إسرائيل الدمشقي إمام كبير، تفي سنة
671 هـ. ترجمته في غاية النهاية 2/100.
[30]- غاية النهاية 2/383.
[32]- كنز المعاني للجعبري (مخطوط).
[33]- غاية النهاية 1/615 ترجمة 2507.
[34]- منجد المقرئين 28. وقد أسندها أبو القاسم
الهذلي في الكامل من طريق قالون عن نافع.
[35]- قراءات القراء المعروفين بروايات الرواة
المشهورين 43.
[38]- قراءات القراء المعروفين 49.
[39]- مشاهير علماء الأمصار 76.
[40]- وفيات الأعيان 6/274-275 ترجمة 814 – ومعرفة
القراء 1/59-62- وغاية النهاية 2/383-385. ترجمة 3882.
Post a Comment