تقف الفلسفة موقفاً غير محايد من تدمير البيئة العالمية، فقد أعلنت فلسفة ديكارت أننا اتجهنا صوب مركزية بشرية؛ يبدو كأنها أهملت ما سبقها من تاريخ، وأعلنت عن نفسها كمشروع للحداثة البشرية لم يرقَ إليه كائن من قبل. وغدت مقولة ديكارت، الفيلسوف الفرنسي الذي توفي عام 1650، "أنا أفكر، إذاً أنا موجود"، تعبيراً صارخاً جديداً عن مركزية الإنسان في هذا الكون، حيث غدا الإنسان يفكر بمعزلٍ عن أي وساطة خارجية، لقد غدا الإنسان مكتفياً ذاتياً، على الأقل معرفياً، فترسخت فكرة مركزية الإنسان وأُهملت القيمة الذاتية للأشياء الأخرى في الطبيعة، حيوانية كانت أم نباتية.
فالحداثة هي بمثابة انقلاب كوبرنيكي (نسبة إلى العالم الإيطالي كبرنيكوس Copernicus الذي قال بمركزية الشمس في مجموعتنا الشمسية) يقابل تحوّل الأرض إلى كوكب يدور حول الشمس؛ بعد أن كانت الأرض مركزاً للكون والإنسان سيّدها. هذا التمركز على الإنسان، بوصفه سيّد هذه الأرض، سوف يعلن عنه الفلاسفة الإنجليز في نهاية القرن السادس عشر، حيث غدت النظرة إلى العلم والمعرفة بوصفهما وسيلة للسيطرة على الطبيعة، على نحو ما جاء في الشعار الذي رفعه الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون في مطلع القرن السابع عشر: "المعرفة قوة للسيطرة على الطبيعة".
ونحن نعلم كيف كان حال الثقافة على يد فرانسيس بيكون (ت 1626) السالف الذكر، الذي اشتغل لإنجاز موسوعات ضخمة تحمل عناوين متعددة ومتنوعة وموضوعات كثيرة، وذلك إدراكاً منه لما هو قادم من تطور علمي وتكنولوجي؛ سوف يساهم في السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لخدمة الإنسان. لذلك أراد أن يقدم للناس علوم عصره بلغة بسيطة، فكتب عن تاريخ الرياح وتاريخ الحياة والموت وما إلى ذلك.
أمّا توماس هوبز(ت 1679)، الفيلسوف الإنجليزي المشهور بكتابه "التنين"، فقد كان صديقاً لجاليليو، وكان ذرّيـّاً بتأثير منه، بمعنى أنه فسّر الطبيعة والعلاقات الاجتماعية انطلاقاً من النظرية الذرية. أراد هوبز أن يؤسس للدولة الإنجليزية الحديثة فاستعان بما ينتجه العلم لتحقيق أهدافه. حاول تطبيق النظرية الذرية على السياسية والاجتماع. كذلك نجد نص قانون القصور الذاتي، الذي توصل إليه جاليليو، منشور في مختلف جنبات كتاب هوبز "ليفايثان". فمثلاً، عندما يقرأ المرء في فصل المخيلة The Imagination، يشعر بأنه يقرأ فيزياء جاليليو. ثم ينطلق هوبز لتطبيق هذا القانون على المجتمع والإنسان، وعلى عالمه الأخلاقي والمادي معاً. إذ يدعو إلى تغيير السلوك البشري، ويقترح استخدام التشريعات ووضع الحوافز لتحقيق ذلك. وهذه دعوة تستحق الدراسة والتطبيق في تعاملنا مع المشكلات البيئية اليوم.
ونجد جون لوك (ت 1704) وهو الطبيب الإنجليزي المرموق، يصرّح أن من وظيفته كفيلسوف، أن يكنس الأوهام العالقة في أذهان الناس؛ كي تستقبل عقولهم العلوم التي جاء بها إسحق نيوتن وقوانينه في الجاذبية والحركة. اعتبر جون لوك أن وظيفته الفلسفية تتمثل في كنس النفايات الفكرية العالقة في الأذهان والمعيقة لتقدم المعرفة العلمية، تلك المعرفة الجديدة التي بدأ نيوتن يصوغها في نظام شبه متكامل.
علـّـل لوك، فلسفياً، كيف يمكن أن يتقبل العقل البشري فكرة اللامتناهي في مسائل متنوعة، كالمكان والزمان والعدد ونحو ذلك. كما أخذ في تقريب الفكرة إلى الأذهان، فقد انتقد اعتقاد البعض السائد أنهم يعرفون الآخرة Eternity، ويؤمنون بها، فيما ظلوا يرفضون تملك فكرة المكان اللامتناهي! لذلك سعى إلى توضيح ذلك وإلى اختراق العقل التقليدي لزرع بذور العلم الجديد. وهو منهج ملائم لما نصبو إليه في هذا الكتاب، حيث قمنا بتسخير ثقافتنا التراثية للتأكيد على احترام الطبيعة الحيّة؛ وغير الحيّة للمحافظة على البيئة في انسجام عناصرها المتنوعة وتناغم وجودها.
وتترسخ الفلسفة الخلقية مع ديفيد هيوم وآدم سميث في القرن الثامن عشر؛ حيث تتجذر معاني الأخلاق كحب الخير والإخلاص في المشاعر الغيْرية. وفيما دخل القرن التاسع عشر، عصر الثورة الصناعية وغلبة الرأسمال الصناعي وأخلاقياته، بدأت تسود نزعة الابتعاد عن الدين. وانشغل الفكر العالمي بمفهوم "التقدم" وغفل عن الأبعاد التدميرية لهذا المفهوم.
        وقد جاءَت الفلسفة مع كانط بفكرة أن العالم تتم صياغته بمقولات وأحكام موجودة في العقل. وتنتهي إلى أن عالم النومينا Noumenon، أي عالم الشيء في ذاته، وهو عالم غير معروف ولا يمكن أن نعرف منه إلا عالم الظواهر وحسب. فإذا كان الأمر كذلك فإن الطبيعة كلها غير معروفة لنا، فكيف يحق لنا أن نتحدث عن قيمة خاصة داخلية Intrinsic Value للبيئة؟
جاء الفيلسوف الألماني كانط فيما بعد ليجعل من خلال فلسفته العقل الإنساني أداة تصيغ الواقع وفقاً لقوانين وقواعد ومنظومات؛ هي من بناء العقل الإنساني وقدرته الذاتية، حتى مفهوم "الواجب" أو "الوازع الأخلاقي" غدا مسألة شخصية تنبع من داخل الإنسان من دون وساطة خارجية. وسينتهي كانط إلى القول إن كل ما يمكن معرفته هو الظاهرة، أما الشيء في ذاته فلا يمكن معرفته!
فإذا كان الأمر كذلك، ولم يعد ممكناً معرفة حقيقة الأشياء، فهل بقي من معنى للحديث عن قيمة ذاتية للأشياء في الطبيعة؟
ونحو منتصف القرن التاسع عشر يأتي شارلز دارون ليؤكد على الانتخاب الطبيعي بوصفه قاعدة بقاء الإنسان ورقيّه. لقد أصبح تنازع البقاء هو سمفونية التغير التي تهيمن على الترانيم الأخرى في الكون. فظهرت مشكلة جديدة واجهت عناصر البيئة بنوع من التعالي، وطرحت تساؤلات حول مدى الضرر الذي يمكن أن يلحقه الإنسان في صراعه من أجل البقاء، فهل سيدمر البيئة إذا استلزم بقاءَه المؤقت ذلك؟
تتوجت الفلسفات المادية التي نشأت في القرن التاسع عشر ذاته بالماركسية، فقد ردت مادة الكون الحيّة إلى عناصر أولية بسيطة، فانكشفت أصول الإنسان من خلايا حية وحيدة الخلية، ما لبثت أن انقسمت وتكاثرت وتنوعت من خلال المادة الحية DNA، وازداد التنوع من خلال التنافس والصراع من أجل البقاء، فبلغت ما بلغته الحياة من تنوع وتعقيد ورقي، فانكشفت أسرار الطبيعة الحية واقتربت التنوعات الحية لتصبح عائلة واحدة تربطها قرابة معينة؛ تعود إلى تاريخ محدد في سلسلة التطور اللامتناهي.

Post a Comment

أحدث أقدم