زاد انطواء الإنسان المعاصر على نفسه بتطور الحاسوب واختراع الإنترنت والهاتف النقال وأجهزة الموسيقى التي تعلق على الأذن

غدت التكنولوجيا المتقدمة وسيلة لحل مشكلاتنا كافة، فالمعادلة الرياضية الصعبة يتم حلها عبر الحاسوب، والتصميم الإنشائي المعقد لمقاومة الرياح والزلازل في ظل أوزان البناء الحية والميتة معاً يتم معالجتها من خلال برامج متخصصة، إذ تقوم البرامج المتطورة بالوصول إلى الحلول بكفائة عالية وسرعة فائقة، ولكن هذا لا يعني أنها أفضل الحلول!
وقد وصلنا إلى حد من استخدام التكنولوجيا المتقدمة أن أخذنا نستغني عن دور الإنسان، حتى في العلاج الطبي، فقد بدأنا نفتقد لخدمات الممرضات مثلاً في غرف العناية المركزة، علماً بأن أبحاث حديثة تشير إلى ضرورة مشاركة الممرضات في العناية بالمريض من جهة الكلام اللطيف والمشجع للتغلب على المرض، ومن جهة أهمية اللمسة والنظرة المباشرة في أعين المرضى خلال فترة العلاج؛ بوصفها مشاعر إنسانية تساعد المريض على تجاوز أزمته الصحية، وتمده بالطمأنينة اللازمة لتجاوز أزمته. فالعلاج يبدأ بالراحة النفسية للمريض وأنه موضع اهتمام تام، كي نكسب ثقة المريض قبل أن نبدأ بالعلاج الفعلي.
لقد أبعدتنا التكنولوجيا المتطورة عن الأماكن العامة، ففيما كان الناس يتجمهرون في المضافة أو الساحة العامة في القرية حول النار يتسامرون ويتشاركون في همومهم وطموحاتهم، جاء اختراع المواقد الخاصة في المنازل فغدا عدد المتجمهرين حول النار العامة أقل بكثير. ومع اختراع التدفئة المركزية وأجهزة التبريد، أصبح بمقدور الإنسان أن يظل في غرفته صيفاً شتاءً من دون الحاجة إلى الاتصال بالجماعة من حوله إلا لقضاء الحاجات الضرورية.
وقد زاد انطواء الإنسان المعاصر على نفسه بتطور الحاسوب واختراع الإنترنت والهاتف النقال وأجهزة الموسيقى التي تعلق على الأذن، فقد غدا يعمل وينام ويتصل مع أصدقائه من داخل غرفته الخاصة؛ من دون الحاجة إلى مغادرة الغرفة إلا لظروف طارئة وحاجات خاصة.
وقد إزداد تمسّـك الإنسان بالتكنولوجيا المتطورة، لأنه أصبح يدرك أن من يمتلك الجهاز الأكثر تطوراً هو من سيحقق أعلى الأرباح في عصر السرعة والمنافسة الهائلة. وبذلك وقعنا، وفي دول الجنوب بخاصة، في فخ هدر الأموال على التكنولوجيا المعاصرة المتطورة التي لا ترحم مستخدميها، والتي تستفزهم وتحثهم بصورة مستمرة لتجديد أجهزتهم، وهم أصلاً بالكاد يملكون ثمن قوتهم الأساسي في دول لا يتجاوز معدل دخل الفرد 20 إلى 40% من معدل دخل الفرد في الدول الغنية، فماذا نقول في حال الدول التي يزيد الفرق في الدخول على 1 : 100، وأكثر كما هي الحال في بعض دول إفريقيا وآسيا.
لقد أدى استخدام الحاسوب المتطور وولوج عالم الإنترنت الهائل إلى اكتساح الشركات الكبرى للأسواق العالمية عبر E-commerce، فبدأت المؤسسات الصغيرة تذبل وتتساقط الواحدة تلو الأخرى كحال أوراق الخريف. وكذلك الأمر في   E-learning وفي M-learning، فإن المؤسسات التقليدية المتوسطة والصغيرة سوف تنهار في المستقبل القريب. وبالمقابل، فإنّ الإمكانات الهائلة للمؤسسات الضخمة القادرة على التجديد باستمرار، والجاهزة للتحديث على نحو مضطرد لا يعرف الملل، سوف تضمن لها الاستمرار والهيمنة المطلقة.
أصبحت الشركات الكبرى في العالم تشتري الشركات الأصغر لعدم قدرة الأضعف على المنافسة؛ في أسواق رأسمالية لا ترحم؛ خاضعة لقانون الانتخاب الطبيعي المستحدث البقاء فيه للأقوى بدلاً من البقاء للأصلح. وعليه، فإن المؤسسات التعليمية ستقع ضحية هذا النمط الرأسمالي الجديد الذي تقوده الرأسمالية الفائقة التطوير. عند ذاك تنحسر المنافسة وتتعاظم الاحتكارات ويصبح التعليم حكراً على أقلية متنفذة ثريّة. وعند ذلك يصبح توجيه التعليم آيديولوجياً واقتصادياً واجتماعياً أمر سهل؛ على النحو الذي يرغب به الممول، تماماً كما توضع الشروط على القروض والمعونات التي ينفقها الغربيون في بلادنا، فهي قروض مشروطة بنوع المشروع وأهدافه؛ فضلاً عن أن شروط القروض تحدد من أين ينبغي أن تشتري التكنولوجيا والأجهزة الضرورية لخدمة المشروع. وهذا التطور سوف يؤدي إلى تدمير بنية الاقتصاد الوطني وسيعيق بناء الثقافة القومية المنشودة.
وهناك أمر أخر فيما يتعلق بالتعليم عن بُعد، من خلال الإنترنت أو الخلوي، فهل يمكن أن تصل المعلومة إلى الطالب على نحو دقيق؟ بمعنى، هل يمكن أن يتفاعل الإنسان مع المحاضر إذا قرأ محاضرته أو سمعها على النحو الذي يمكن أن يتفاعل معه إذا رآه شخصياً وهو منفعل مع خطابه ويحاوره ويناقشه وجهاً لوجه؟
وبالتالي فإننا سوف نعاني من اغتراب في اتجاهين، الاتجاه الأول الذي هو نقيض للغرب، فنحن أصلاً لا نفهم لغته وقيمه وحضارته تماماً بحكم أننا لم نعش في الغرب، والآن نحن نتعرض لاغتراب مع وسائل التعليم الحديثة، فإننا نبتعد درجة أخرى عن الآخر بحكم تعلمنا عن بعد، فلا نستطيع أن نرى أستاذ المادة وهو يستعرض مادته بالانفعال المطلوب الضروري لتوصيل المعلومات.
والأكثر خطورة من ذلك هو الاعتماد الواضح والمتزايد على خريجي الجامعات الوطنية، وبخاصة في ظل تكلفة الابتعاث إلى الخارج. فما هو مصير طلبتنا الذي يدرسون على أساتذة تخرجوا في جامعات محلية، ودرسوا على أساتذة لم يغادروا الوطن قط؟ فهل سيصبح الأساتذة مجرد واسطة لنقل المعلومات التقليدية نفسها من جيل إلى آخر؟

Post a Comment

أحدث أقدم