الحضارة الاسلامية على ارض الاندلس

لاشك في الأهمية البالغة التي تمثلها أسبانيا في تاريخ الحضارة الإسلامية وفي التاريخ الحضاري الإسلامي بشكل عام. ذلك أن الدعوة الإسلامية قد انطلقت من شبه الجزيرة العربية في رحلة طويلة، امتدت شرقًا إلى بلاد فارس وبلاد ما بين النهرين وغربًا لتشمل ممالك دولة الروم، ولتدخل إلى شمال أفريقيا وأوروبا عن طريق الأندلس لتُنير الطريق أمام أمم وشعوب كانت غافلة، تعرفهم بالله وبرسالته وتعلمهم التمييز بين الحق والباطل، وبين الحلال والحرام عملاً بقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَـٰـتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ الإسراء: آية 9.
     وهكذا كانت رسالة حق، وليست حملة استعمار، كانت رسالة خير للبشرية وليست حركة للسيطرة أو الهيمنة أو استغلال الشعوب ونهب خيراتها، كانت الدعوة الإسلامية دعوة سلام وحق غايتها (أن تكون كلمة الله هي العليا) ومن أهم أهدافها أن تطهّر الناس من عبادة العباد وأن تهديهم إلى عبادة الله الواحد وأن تخرج الناس من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة؛ بل كان المقاتل المسلم في حد ذاته داعيةً يقاتل باسم الله وعلى بركة الله بهدف نشر الدعوة؛ ولكنه ملزم قبل رفع السلاح أن يرفعه بقانون يحدد ذلك، وهو القانون الإسلامي، الذي لم يكتف بتحديد بواعث وأسباب القتال فحسب؛ بل وضع كذلك قواعد لاستخدام هذا السلاح. وعندما دخل الإسلام بلاد الأندلس في رحلة دينية كبرى كان هدفها نشر هذا الدين وشرح هذه العقيدة لتكون واضحةً جليةً أمام كل الناس، فمن شاء منهم دخل في دين الله وله كافة حقوق المسلمين، ومن شاء منهم البقاء على دينه بقى عليه، كما يؤكد القرآن في أكثر من آية يقول تعالى: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ البقرة: آية 256، ويقول تعالى ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ الكهف: آية 29، لم يكن الإسلام على الإطلاق دينًا لاستعمار الشعوب واستغلالها ونهب ثرواتها والهيمنة الاقتصادية عليها، وإنما كان دين دعوة وهداية،

ومن ثم التزم الجيش المسلم بأن يعلن الدعوة ويدعو الناس للإيمان به قبل أن يبدأ أحد بقتال. وكان أمام القادة أن يحقنوا الدماء دائمًا إذا ما سمحوا للجيش المسلم بإعلان الدعوة وتصالحوا معه حتى وإن لم يدخلوا في الدين الجديد .
     لذا دخلت الحضارة الإسلامية بلاد الأندلس وعاشت هناك تسعة قرون كاملة، استطاعت خلالها أن تنشر نور العلم والدين والهداية في كلّ أوروبا، وصارت الأندلس بكاملها مدرسةً للعلم والفكر والثقافة، نهل منها الأوروبيون وتشكلت مدارس لها خصائصها في الفنون والعلوم والآداب ومختلف ألوان الحضارة بوجهيها المادي والمعنوي، وكانت بلا جدال، أساس النهضة الأوروبية الحديثة .

Post a Comment

Previous Post Next Post