ولذلك اشتمل
مفهوم العبادة
بالتربية الإسلامية على ثلاثة مظاهر: مظهر شعائري، ومظهر اجتماعي، ومظهر كوني .
أما المظهر الشعائري : فهو يتمثل في
شعائر وممارسات ترمز إلى أشكال الحب والطاعة التي يعبد بها
الإنسان الخالق ،
وتطبيق هذا المظهر يتطلب من التربية
تعريف المتعلمين بتفاصيل الشعائر والممارسة
الدينية، وتدريبهم على أدائها في ضوء
التوجيهات
الإسلامية المتعلقة بذلك.
وأما المظهر
الاجتماعي :
فموضع الثقافة والقيم والعادات
والتقاليد والنظم: وتطبيق هذا المظهر
يتطلب من
التربية أن تعرف المتعلمين بشبكة العلاقات الاجتماعية، وأن تدربهم على ممارساتها، وأن تهيئ لهم دراسة ممارسات الآخرين في الماضي
والحاضر؛ للوقوف على نتائجها وثمراتها إيجابًا
وسلبًا.
ويتفرع عن ذلك
دراسة
الاجتماع البشري، وتعاقب الحضارات، وتنوع الأحوال والأحداث، واكتشاف قوانينها وعلاقاتها، والنتائج التي تترتب عليها؛ لأن ذلك كله يرشد إلى
معرفة أفعال الله في الاجتماع البشري، ومعرفة آثار
القرب منه والبعد عنه؛ لتكون ثمرة ذلك كله: الوقوف
على ثمرات
المحبة الكاملة، والطاعة الكاملة، وأثرها في سعادة الإنسان، وتوفير قوام حياته.
وأما المظهر
الكوني
للعبادة : فموضوعه العلوم الطبيعية ،
التي توفر للعالم المسلم دخول مختبر الآفاق، وإبراز معجزات العصر وبراهينه، وتوفير الشواهد التي
تكشف عن عظيم صنع الله وقدرته، وتقنع المتعلم
الجديد والأجيال الجديدة بوجوب محبة الخالق محبة كاملة،
وطاعته طاعة
كاملة، وتطبيق هذا المظهر للعبادة، يتطلب من التربية أن تدخل
بالمتعلمين
مختبر الكون؛ لتعرفهم به، وتوجههم إلى اكتشاف القوانين التي تنظم الكائنات الحية والطبيعة، واكتشاف خصائصها
.
أما تطبيقها
وتدريب
المتعلمين على أشكال التعلم معها، والانتفاع بها حسب التوجيهات الإلهية؛ فهي الجوائز والنعم الإلهية التي يخرج به المتعلمون والعباد من
المظهر الكوني؛ لأن اتباع هذه التوجيهات، هو
كمال الانتفاع بالمكونات المذكورة، ومن خلال هذا التعليم
والتدريب يصل
المتعلم إلى الغاية من المظهر الكوني للعبادة، وهي معرفة دقة الصنعة الإلهية في المخلوقات، وكثرة أصنافها وتنوع أحوالها، ووفرة نعم
الله الناتجة عن الانتفاع بها، معرفة تفوق
الحسرة والإحاطة.
وانطلاقًا من
هذا المفهوم
للعبادة؛ تتفرع علوم كثيرة لا حصر لها، يمكن أن تنقسم إلى علوم دينية، وعلوم اجتماعية، وعلوم كونية، وكلها مما أمرت به أصول التربية
الإسلامية؛ لأن ثمرتها مجتمعة، تخريج عباد
يحبون الله محبة كاملة، ويطيعون طاعة كاملة، ويدعون باقي
البشرية لمحبته
وطاعته.
ولا بد أن
تتكامل هذه
المظاهر: الشعائري، والاجتماعي، والكوني؛ فتأكد فلسفة التربية الإسلامية، على وجوب تكامل المظاهر الثلاثة للعبادة ووحدتها؛
لإسهام كل مظهر في تحقيق هدف معين، فالمظهر
الشعائري ثمرته التوازن النفسي، والمظهر الاجتماعي ثمرته
التطبيق
العملي، والمظهر الكوني ثمرته القناعة العقلية، والمحصلة النهائية لعمل المظاهر الثلاثة، هي اليقين في النفوس، والاستقامة في السلوك
والعلاقات.
ولذلك كان الفصل
بين المظاهر
الثلاثة للعبادة خرقًا يؤدي إلى تعطيل فاعلية كل منها، ويحيله إلى مجرد حركات وممارسات خاوية لا روح فيها، ولا أثر لها، وهذا ما تؤكد
عليه عشرات المواقف التي تتحدث عن حوار الرسل
مع أقوامهم، واستغراب أولئك الأقوام الربط بين أداء
الصلاة وبين
التلاعب بشئون المال والمكيال والأسعار والأجور، وغير ذلك من ممارسات الحياة الاجتماعية.
ومن أمثلة ذلك
قوله تعالى عن
قوم شعيب: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ
غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ
وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ
عَلَيْكُمْ
عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ
أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ *
بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ
مُؤْمِنِينَ
وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ * قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ
نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ
إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}
(هود: من
الآية: 84- 87).
إرسال تعليق