تربية
الذاتية
والاجتماعية في المسلم : تتيح العبادات للمسلم قسطًا منها يؤديه منفردًا ؛ يناجيه ويسعد بالقرب منه ،
ويخشع له؛ فيشعر حينئذ بالقوة، وعزة النفس والاستعلاء على المتاع الدنيوي الزائل، ويعيش هادئ
النفس؛ لأنه موصول القلب بالقوة الكبرى، مصدر
الطمأنينة: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ
تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد: 28).
ويؤدي المسلم
جانبًا كبيرًا
من العبادة مع جماعته في نظام وتجاوب وتفاعل؛ الحج، الزكاة، صلاة الجماعة. فيشعر بأنه خلية حية من جسم كبير، وأنه مجاهد في جيش
عظيم، وأنه عضو في جماعة تبادله المودة
والتراحم والتعاطف، وتشد أزره، وتبارك مجاهداته في سعيه إلى
الله.
ونتيجة لذلك
تذوب المنافع
الشخصية في بوتقة المصلحة العامة للجماعة المسلمة. وتتجه سلوكيات المسلم وجهة الجماعة؛ لأن المسلمين جميعًا إخوة بعضهم من بعض
: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
إِخْوَةٌ} (الحجرات: من الآية: 10) وعندما يشعر المسلم بأن جميع من حوله إخوته يشيع التآلف،
وتقوم المعاملات اليومية
على المساواة والعدل والأمانة، وهي مثل عليا
يطبقها المسلم الصادق في حياته أينما كان، ومع كل الناس
بالضوابط التي
وضعها الإسلام.
وتربي العبادات
الناس على
أنهم سواسية كأسنان المشط، لا يتفاضلون إلا بالتقوى والعمل الصالح والعلم: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}
(الحجرات: من الآية: 13) {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ} (الزمر: من الآية: 9) ومن ثم
خرج عن مبادئ كل من يدعو إلى عصبية، أو ينحاز إلى عصبية،
أو يفضل نفسه على الآخرين لمجرد الانتساب إلى قبيلة
مغمورة، لم
يسمع بها إنسان طوال التاريخ الإسلامي.
وتربي العبادات
المسلمين على
العدل، الذي لا يتجزأ في الإسلام، ولا يتخذ شكلًا معينًا في كل موقف، زلفى للسلطان، وإنما العدل مبدأ إسلاميٌّ يجب أن يلتزم به
المسلم حتى مع من يبغضه:
{وَلا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا
اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}
(المائدة: من
الآية: 8).
وتربي العبادات
المسلمين على
الأمانة، ولها ميادين كثيرة في الإسلام، وعلى المسلم أن يلتزم بها فيؤدي الأمانة عملًا، أم مالًا أم سلوكًا أم شهادة تبرئ ساحة
مظلوم، أو كلمة حق عند سلطان جائر، أو فكرة هادفة
تنساب من عقل المعلم إلى تلاميذه؛ فتنير لهم الطريق،
وتبعدهم عن
الزيف والنفاق، وما أكثره في العصر الراهن
.
هذه المثل
العليا وغيرها
تربيها العبادات في الشخصية المسلمة؛ فتنتظم حياتها، وتطبع علاقتها بالآخرين بطابع فريد، لا يكون إلا حيث يوجد الإسلام في القلوب
الحية الصادقة.
خامسًا : تجديد
حياة المسلم
وإعادة تربيته : خلق الله الإنسان من عنصرين
أحدهما الطين:
{إِنِّي
خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ}
(ص: من الآية:
71) يعني الطين كنصر أولي للإنسان؛ أن تكون حياته محفولة
بالإغراءات والأهواء، وأن يكون تكوينه الداخلي والخارجي
قابلًا
للشهوات متفاعلًا معها، أو قامعًا لها:
{فَأَلْهَمَهَا
فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (الشمس: 8).
ومن هنا قد
يندفع الإنسان
العادي إلى الخطأ أو الخطيئة، ويتهاوى إلى حمئة الرذيلة، ثم يستعيد يقظة روحه فيشعر بالذنب لما اقترفه، وقد يصل به الإحساس إلى أن
يظن أنه قد طرد من رحمة ربه؛ فتولد في نفسه
الهموم والأحزان والمخاوف فتنتابه موجات من سوء الظن بنفسه
وبالآخرين.
فإذا ما ترك هكذا تمادى في معاصيه؛ لأنه لا أمل عنده، وعاش بقية حياته ضالًّا ضائعًا سجين نفسه وذنبه وأهوائه؛ فيحرم المجتمع من طاقة
عاملة، كان يمكن إصلاحها بعد فسادها.
من هنا تفتح
العبادات
للإنسان طريق الإصلاح؛ فتنقذه من حياته الضائعة، وتعيد إليه الأمل في رحمة ربه، والثقة برعايته، والاطمئنان إلى فضله ومغفرته، وهذا الطريق
تفتحه التوبة والإنابة إلى الله وموالاة
العبادة والذكر والاستغفار، فالتوبة هي في الحقيقة إعادة
تربية للشخصية
التي ضعفت فذلت، ولما تيأس من رحمة الله؛ فعملت على تربية نفسها من جديد بعد أن تخففت من الأوزار النفسية للمعصية. وفي الحديث
المشهور: ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)).
وتقوم إعادة
تربية النفس
أو التوبة على دعامتين رئيسيتين؛ الأولى: الندم على ما حدث، والإصرار على عدم معاودته، وإزالة ما في النفس من عقبات وأشواك، تتمثل في
الأهواء والهواجس، والحاجات غير السوية؛ أي:
تخلية النفس من كل سوء، وبذلك تصير أرضًا ممهدة للدعامة
الثانية وهي
الرجوع إلى الله في كل شيء، وذلك يتأتى بموالاة الطاعة، وغرس الفضائل، وتعود السلوك الصالح.
وبهذا تشغل
النفس
الإنسانية الفراغ في داخلها بالطاعات والخيرات، بعد أن أزالت منها الأهواء والسيئات، أي: أنها كما يقول أرباب الطريق: تحليت بالفضائل بعض
تخليت الرذائل.
وتستطيع النفس
المسلمة أن
تعيد تربية نفسها إذا صدقت النية، ووضح أمامها الطريق، وتهيئة لها إرادة قوية تعتصم بالله، وبهذه العملية التربوية، تستعيد النفس
العاصية اتزانها واستواءها على الطريق المستقيم.
إرسال تعليق