أول سلم متدرج عرفته البشرية Hierarche :
إنه تنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلب رسوله الكريم، وأودع فيه أسرار نجاحه .
إن السلم الذي تدرج بنفوس العرب فهيأها وخلصها من أسوأ الآفات  النفسية التي تحكمت في سلوكياتهم فكان بينهم العداوة والبغضاء  والشحناء وسفك الدماء، إنها آفة شرب الخمر .
ولنذهب مع هذا السلم من البداية وهو يهيئ نفوس العرب، ويقرب إليهم المفاهيم، ويحدثهم عن المادة التي تصنع منها الخمر، وأنها من نعم الله وفضله على العباد، يقول سبحانه في سورة النحل :
(ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون)(النحل : 67)
وهذا أول التدرج في تحريم الخمر، فقد سلب الله محاسن النعمة من السكر، فلم يدخل في مضمون الرزق الحسن .
ثم تأتي آية سورة البقرة إيضاحاً وتحديدا لمفهوم الخمر وما تحتويه .
(يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما)(البقرة : 219)
أما الدرجة الثالثة من درجات السلم، فهي درجة من  درجات التحريم الوقتي فقد كان هناك من يصلي فتأخذ الخمر برأسه، فيأثم بتلاوة الكتاب بما يحدث فيها من سهو وخطأ .
يقول سبحانه :
(يا أيها الذين أمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون)(النساء:43)
ولا يخفى أن الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة وهذا ما حدد أوقات تعاطي الخمر، فكان من يتعاطاها ينتظر إلى نهاية اليوم بعد صلاة العشاء الآخرة، ويضيق صدر المؤمنين الصادقين بما يحدث من أعراض تناول الخمر، ويرفع عمر بن الخطاب يديه إلى السماء، ويطلب من الله أن ينزل في الخمر قولاً فاصلاً، ويستجيب الله وينزل قوله سبحانه :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ الأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {90} إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ(المائدة 90 –91)
وقال أهل المدينة بلسان واحد انتهينا يا ربنا انتهينا، وانتهت هذه الآفة التي تفشت فيهم من عهود أجدادهم، وكانت سبباً في كل مصائبهم .
وأصبح هذا السلم المتدرج، أشهر سلم متدرج عرفته البشرية، لم يعالج فرداً ولكنه عالج أمة بأسرها، وأصبح هذا في عقل كل مسلم آيات محكمات، قرآنا يتلى، فظل ماثلاً في الفكر والضمير والوجدان، وتقرر الصحة العالمية في إحصاءاتها أن إدمان الخمر في البلاد الإسلامية لا يكاد يُقارن بما يحدث في بلاد العالم كله .
وهكذا نجح هذا المنهج السلوكي عندما تدرج معهم، وكان سبباً في تهيئة عقولهم واقتلاع فتيل العناد والمكابرة من نفوسهم وعندما نزلت آية التحريم، كانت الاستجابة سريعة فعّالة، لم تتأخر لحظة واحدة، وكان هذا أعظم سلم متدرج عالج الله به نفوس العرب في جاهليتهم .
وبعد فترة من الزمان، يصل العلم المعاصر إلى أصالة السلم المتدرج، ويصبح طريقاً من طرق المعالجة السلوكية المعاصرة، والمدرسة السلوكية لها طرق متعددة في معالجة السلوك السيئ، فقد استعملت طريقة أخرى في معالجة إدمان الخمر وغيره من آفات النفس بطريقة العقاب الوقتي الذي يصاحب الفعل وهو ما يسمى Aversion، فإذا طبقناها في علاج إدمان الخمر، فإن المدمن يتعاطى عقاراً كيماوياً يتفاعل مع الخمر يسمى Antebuse ومع تفاعله يحدث أعراضا غير مستساغة يشعر المدمن معها بألم في أمعائه أو بغثيان قد يلفظ معه كل ما في جوفه.
فإذا تكرر التعاطي، وتكرر معه استعمال Antebuse، فإن عادة الشراب ترتبط بمؤثر سيئ، وهو الألم والغثيان والقيء، ويكون ذلك من وسائل امتناع المريض، وقد يستبدل العقار الكيمائي بمؤثر كهربائي خفيف، يحدث ألماً ولا يترك أثراً بطريقة Galvanic Stimulation وهذه وسائل سلوكية سهلة، تحقق نتائجها بدون مشكلات، والعقوبة التي يحدثها العقار أو يحدثها المؤثر الكهربائي، يمكن أن تكون تصوراً، وفي الخيار، فإذا تصور المريض ألم العقوبة هذا يفقده متعة النشوة، والميكانيكية السلوكية تحدث من انطفاء العادة نتيجة الألم الذي يصاحب الأعراض، وهذا تسميه المدرسة السلوكية Receprocal inhibtion، وهذا يكفي لانتهاء العادة السيئة"المرض النفسي " وذلك بفك ارتباطها نتيجة ما يصاحب العادات والآفات من ألم ومما جاء في القرآن الكريم يعالج بعض آفات النفس وسلوكها السيئ، وهو ما يتم تحقيقه بمنهج العقاب الوقتي بالتصورAversion، قول الحق سبحانه في معالجة أكل أموال اليتيم.
(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)(النساء:10)
وقوله سبحانه من سورة الحجرات في معالجة آفة التجسس والغيبة :
(وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (الحجرات : 12)
وقوله سبحانه في معالجة آفة الربا من سورة البقرة :
(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي بتخبطه الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)(البقرة:275)
وهذه الآيات يقرأها المصلي إذا كان قارئاً أو يستمع إليها من الإمام فتصل إلى عقله ووجدانه، وهو مستغرق في صلاته فيقشعر بدنه، وترتجف أوصاله، وتشمئز نفسه من بشاعة تصورها في النفس وكأنها حقيقة مجسدة، إنها أسرار كلام الله سبحانه، استودعها منهجه و قرآنه، وهي بمفاهيم المدرسة السلوكية، معالجة نفسية بطريقة العقاب الوقتي والحقيقة التي لا يختلف عليها المؤمن الصادق، أن القرآن ينفرد بمنهجه السلوكي، فيتحقق به كل ما جاء به البشر من اجتهادات، إلا أن القرآن يبقى هو الأصل الثابت الذي لا يعوّج فيقوم أو يزيغ فيستعتب، بل دائماً وأبداً لا تنقضي عجائبه.

Post a Comment

أحدث أقدم