الإيمان بالقدر لا يمنح العاصي حجة على ترك الواجبات، أو
فعل المعاصي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =وليس لأحد أن يحتج بالقدر
على الذنب باتِّفاق المسلمين، وسائر أهل الملل، وسائر العقلاء؛ فإن هذا لو كان
مقبولاً لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس، وأخذ الأموال وسائر أنواع
الفساد في الأرض، ويحتج بالقدر.
ونفَّسُ المحتجِّ بالقدر إذا اعتُدي عليه، واحتج المعتدي
بالقدر لم يُقْبَل منه، بل يتناقض، وتناقض القول يدل على فساده، فالاحتجاج بالقدر
معلوم الفساد في بداية العقول+.
ومما يؤيد ما ذكر ويؤكده أننا نرى الإنسان يحرص على ما
يلائمه في أمور دنياه حتى يدركه، ولا يعدل عنه إلى ما لا يلائمه ثم يحتج على عدوله
بالقدر.
فلِمَا ذا يعدل عما ينفعه في أمور دينه إلى ما يضره ثم
يحتج بالقدر؟!
وإليك مثالاً يوضح ذلك: لو أراد إنسان السفر إلى بلد،
وهذا البلد له طريقان، أحدهما آمن مطمئن، والآخر كله فوضى واضطراب، وقتل، وسلب،
فأيهما سيسلك؟
لا شك أنه سيسلك الطريق الأول، فلماذا لا يسلك في أمر
الآخرة طريق الجنة دون طريق النار؟
ومما يمكن أن يردُّ به على المحتج بالقدر على ترك
الواجبات، وفعل المعاصي _بناء على
مذهبه_ أن يقال له: لا تتزوج؛ فإن كان الله قد قضى لك بِوَلد فسيأتيك، وإلا فلن،
ولا تأكل ولا تشرب؛ فإن قدَّر الله لك شبعاً ورياً فسيكون، وإلا فلن، وإذا هاجمك أسد
ضارٍ فلا تفر منه؛ فإن قدَّر الله لك النجاة فستنحو، وإن لم يقدرها لك فلن ينفعك
الفرار، وإذا مَرِضْت فلا تتداوَ؛ فإن قدَّر الله لك شِفاءً شُفيت، وإلا فلن ينفعك
الدواء، وهكذا...
فهل سيوافقنا على هذا القول أَوْ لا؟ إن وافقنا عَلِمْنا
فساد عقله، وإن خالفنا علمنا فساد قوله، وبطلان حجته.
وبالجملة فإن الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي، أو ترك
الطاعات احتجاج باطل في الشرع، والعقل، والواقع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×عن المحتجِّين بالقدر:
=هؤلاء القوم إذا أصروا على هذا الاعتقاد كانوا
كانوا أكفر من اليهود والنصارى. +
يسوغ الاحتجاج بالقدر عند المصائب التي تحل بالإنسان
كالفقر، والمرض، وفقد القريب، وتلف الزرع، وخسارة المال، وقتل الخطأ، ونحو ذلك؛
فهذا من تمام الرضا بالله ربَّاً، فالاحتجاج
إنما يكون على المصائب، لا المعائب، فالسعيد يستغفر من المعائب، ويصبر على
المصائب، كما قال _تعالى_: [فَاصْبِرْ
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ] غافر: 55.
والشقي يجزع عند المصائب، ويحتج بالقدر على المعائب.
ويوضح ذلك المثال الآتي: لو أن رجلاً قتل آخر عن طريق
الخطأ، ثم لامه من لامه، واحتج القاتل بالقدر، لكان احتاجه مقبولاً، ولا يمنع ذلك
من أن يؤاخذ.
ولو قتل رجلٌ رجلاً عن طريق العمد ثم قُرِّع القاتل
ووُبِّخ على ذلك، ثم احتج بالقدر، لم يكن الاحتجاج منه مقبولاً.
إرسال تعليق