ادلة
إفادة العموم الاستغراق:
وهذا المعنى جاءَ في براهينِ
الشَّرعِ ما يدلُّ عليهِ، فمن ذلكَ:
[1] قوله تعالى: { وَلَمَّا
جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ
الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ }، ففهِمَ الخليلُ عليه السَّلامُ
من مجرَّدِ اللَّفظِ العُمومِ، ولذَا قال: { إِن فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ
بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ
}.
[2] وقولهُ تعالى عن نوح
عليه السَّلامُ: { وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي
}، ففهِمَ نوحٌ من عُمومِ قوله تعالى: { وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ
}، أنَّ عُموم الأهلِ يشملُ ولدَهُ، وحملَ الاستثناءَ في قوله: { سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ
} على امرأته، ولذَا لم يَدَعُ لها كما دعَا لوَلَدِهِ، حتَّى أعلمَهُ الله تعالى دُخولَ
ولَدِه فيمَنْ سبقَ عليه القولُ بسببِ عملِهِ غيرِ الصَّالحِ.
[3] وحديثُ عبدالله بن عبَّاسٍ
رضي الله عنهما، قالَ: جاءَ عبدالله بن الزِّبعرَى إلى النَّبي rفقالَ: تزعُمُ أنَّ الله
أنزلَ عليكَ هذِه الآية: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ
جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ }، فقال ابنُ الزِّبعرَى: قد عُبِدَتِ الشَّمسُ
والقمرُ والملائكةُ وعُزيرٌ وعيسى بنُ مريم؛ كلُّ هؤلاءِ في النَّارِ مع آلهتِنَا؟
فنزلتْ: { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ
(57) وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا
بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } ، ثمَّ نزلتْ: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا
الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ }
فابنُ الزِّبعريّ استعملَ
العُموم ليُجادل بهِ،وذلكَ بأنَّه جارٍ على لُغته ولسانهِ، وهوا لعربيُّ الفصيحُ، حتَّى
أنزل الله تعالى دليل التَّخصيصِ، فأبطل خُصومتهُ.
[4] وقوله - حين سُئلَ عن
الزَّكاةِ في الحُمرِ)) ما أُنزل عليَّ في الحمُرِ إلاَّ هذه الآية الفاذّة الجامعةُ:
{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } فهذا استدلال بالعموم من رسول الله r.
[5] وحديث عبد الله بن
مسعود قال: لما نزلت ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ) شقَّ ذلك على أصحابِ
رسول الله-، وقالوا: أيُّنا لا يظلمُ نفسهُ؟ فقال رسول اللهr-:((ليسَ هوَ كما تظنُّونَ، إنَّما هو كما قال لُقمانُ
لابنِهِ: { يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِن الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } فأجرى
الصَّحابةُ الآية الأولى على العُموم بمقتضى لُغتهم ولسانِهم، حتّى بيَّن لهُم النَّبي
أنَّ العمومَ هنَا مخصوصٌ.
وفي هذا الحديث من الفائدة
كذلك: أنَّ دلالة العُمومِ ظنيَّةٌ بصريحِ قول النَّبيِّ -
فهذه براهينُ ظاهرةٌ في صحَّةِ
الاستِدلالِ بالعمُومِ، وأنَّهُ مُدركٌ بمقتضى لُغة العربِ.
Post a Comment