والسجود المنقول في الشريعة في أحد
موضعين إما عند الزيادة أو النقصان اللذين يقعان في أفعال الصلاة وأقوالها من قبل
النسيان لا من قبل العمد. وأما عند الشك في أفعال الصلاة، فأما السجود الذي يكون
من قبل النسيان لا من قبل الشك فالكلام فيه ينحصر في ستة فصول: الفصل الأول: في
معرفة حكم السجود. الثاني: في معرفة مواضعه من الصلاة. الثالث: في معرفة الجنس من
الأفعال والأفعال التي يسجد لها. الرابع: في صفة سجود السهو. الخامس: في معرفة من
يجب عليه سجود السهو. السادس: بماذا ينبه المأموم الإمام الساهي على سهوه.
اختلفوا في سجود السهو هل هو فرض أو
سنة، فذهب الشافعي إلى أنه سنة، وذهب أبو حنيفة إلى أنه فرض لكن من شروط صحة
الصلاة. وفرق مالك بين السجود للسهو في الأفعال وبين السجود للسهو في الأقوال وبين
الزيادة والنقصان فقال: سجود السهو الذي يكون للأفعال الناقصة واجب، وهو عنده من
شروط صحة الصلاة، هذا في المشهور، وعنه أن سجود السهو للنقصان واجب وسجود الزيادة
مندوب والسبب في اختلافهم اختلافهم في حمل أفعاله عليه الصلاة
والسلام في ذلك على الوجوب أو على الندب فأما أبو حنيفة فحمل أفعاله عليه الصلاة
والسلام في السجود على الوجوب إذ كان هو الأصل عندهم إذ جاء بيانا لواجب كما قال
عليه الصلاة والسلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وأما الشافعي فحمل
أفعاله في ذلك على الندب وأخرجها عن الأصل بالقياس، وذلك أنه لما كان السجود عند
الجمهور ليس ينوب عن فرض وإنما ينوب عن ندب رأى أن البدل عما ليس بواجب ليس هو
بواجب. وأما مالك فتأكدت عنده الأفعال أكثر من الأقوال، لكونها من صلب الصلاة أكثر
من الأقوال، أعني أن الفروض التي هي أفعال هي أكثر من فروض الأقوال، فكأنه رأى أن
الأفعال آكد من الأقوال، وإن كان ليس ينوب سجود السهو إلا عما كان منها ليس بفرض،
وتفريقه أيضا بين سجود النقصان والزيادة على الرواية الثانية ليكون سجود النقصان
شرع بدلا مما سقط من أجزاء الصلاة وسجود الزيادة كأنه استغفار لا بدل.
اختلفوا في مواضع سجود السهو على خمسة
أقوال: فذهبت الشافعية إلى أن سجود السهو موضعه أبدا قبل السلام، وذهبت الحنفية
إلى أن موضعه أبدا بعد السلام. وفرقت المالكية فقالت: إن كان السجود لنقصان كان
قبل السلام وإن كان لزيادة كان بعد السلام. وقال أحمد بن حنبل: يسجد قبل السلام في
المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل السلام، ويسجد بعد السلام
في المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد السلام، فما كان من
سجود في غير تلك المواضع يسجد له أبدا قبل السلام. وقال أهل الظاهر: لا يسجد للسهو
إلا في المواضع الخمسة التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، وغير ذلك
إن كان فرضا أتى به، وإن كان ندبا فليس عليه شيء والسبب في اختلافهم أنه عليه الصلاة والسلام ثبت عنه أنه سجد
قبل السلام وسجد بعد السلام، وذلك أنه ثبت من حديث ابن بحينة عنه أنه قال
"صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم قام فلم يجلس فقام الناس
معه، فلما قضى صلاته سجد سجدتين وهو جالس" وثبت أيضا أنه سجد بعد السلام في
حديث ذي اليدين المتقدم إذ سلم من اثنتين، فذهب الذين جوزوا القياس في سجود السهو:
أعني الذين رأوا تعدية الحكم في المواضع التي سجد فيها عليه الصلاة والسلام إلى
أشباهها في هذه الآثار الصحيحة ثلاثة مذاهب: أحدها مذهب الترجيح. والثاني مذهب
الجمع. والثالث الجمع بين الجمع والترجيح. فمن رجح حديث ابن بحينة قال:
"السجود قبل السلام" واحتج لذلك بحديث أبي سعيد الخدري الثابت أنه عليه
الصلاة والسلام قال "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا
فليصل ركعة وليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم، فإن كانت الركعة التي صلاها خامسة
شفعها بهاتين السجدتين، وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم للشيطان" قالوا: ففيه
السجود للزيادة قبل السلام لأنها ممكنة الوقوع خامسة، واحتجوا لذلك أيضا بما روي
عن ابن شهاب أنه قال: "كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم
السجود قبل السلام" وأما من رجح حديث ذي اليدين فقال: السجود بعد السلام،
واحتجوا لترجيح هذا الحديث بأن حديث ابن بحينة قد عارضه حديث المغيرة ابن شعبة "أنه
عليه الصلاة والسلام قام من اثنتين ولم يجلس ثم سجد بعد السلام" قال أبو عمر:
ليس مثله في النقل فيعارض به، واحتجوا أيضا لذلك بحديث ابن مسعود الثابت "أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى خمسا ساهيا وسجد لسهوه بعد السلام". وأما
من ذهب مذهب الجمع فإنهم قالوا: إن هذه الأحاديث لا تتناقض، وذلك أن السجود فيها
بعد السلام إنما هو في الزيادة والسجود قبل السلام في النقصان، فوجب أن يكون حكم
السجود في سائر المواضع كما هو في هذا الموضع، قالوا: وهو أولى من حمل الأحاديث
على التعارض. وأما من ذهب مذهب الجمع والترجيح فقال: يسجد في المواضع التي سجد
فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على النحو الذي سجد فيها رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فإن ذلك هو حكم تلك المواضع. وأما المواضع التي لم يسجد فيها رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فالحكم فيها السجود قبل السلام فكأنه قاس على المواضع التي
سجد فيها عليه الصلاة والسلام قبل السلام، ولم يقس على المواضع التي سجد فيها بعد
السلام، وأبقى سجود المواضع التي سجد فيها على ما سجد فيها، فمن جهة أنه أبقى حكم
هذه المواضع على ما وردت عليه وجعلها متغايرة الأحكام هو ضرب من الجمع ورفع
للتعارض بين مفهومها ومن جهة أنه عدى مفهوم بعضها دون البعض، وألحق به المسكوت عنه
فذلك ضرب من الترجيح: أعني أنه قال على السجود الذي قبل السلام ولم يقس على الذي
بعده. وأما من لم يفهم من هذه الأفعال حكما خارجا عنها وقصر حكمها على أنفسها وهم
أهل الظاهر فاقتصروا بالسجود على هذه المواضع فقط. وأما أحمد بن حنبل، فجاء نظره
مختلطا من نظر أهل الظاهر ونظر أهل القياس، وذلك أنه اقتصر بالسجود كما قلنا بعد
السلام على المواضع التي ورد فيها الأثر ولم يعده، وعدى السجود الذي ورد في
المواضع التي قبل السلام، ولكل واحد من هؤلاء أدلة يرجح بها مذهبه من جهة القياس:
أعني لأصحاب القياس وليس قصدنا في هذا الكتاب في الأكثر ذكر الخلاف الذي يوجبه
القياس كما ليس قصدنا ذكر المسائل المسكوت عنها في الشرع إلا في الأقل، وذلك إما
من حيث هي مشهورة، وأصل لغيرها، وإما من حيث هي كثيرة الوقوع. والمواضع الخمسة
التي سها فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحدها أنه قام من اثنتين على ما جاء
في حديث ابن بحينة. والثاني أنه سلم من اثنتين على ما جاء في حديث ذي اليدين.
والثالث أنه صلى خمسا على ما في حديث ابن عمر، خرجه مسلم والبخاري. والرابع أنه
سلم من ثلاث على ما في حديث عمران بن الحصين. والخامس السجود عن الشك على ما جاء
في حديث أبي سعيد الخدري، وسيأتي بعد. واختلفوا لماذا يجب سجود السهو؟ فقيل يجب
للزيادة والنقصان، وهو الأشهر؛ وقيل للسهو نفسه، وبه قال أهل الظاهر والشافعي
.
وأما الأقوال والأفعال التي يسجد لها
فإن القائلين بسجود السهو لكل نقصان أو زيادة وقعت في الصلاة على طريق السهو
اتفقوا على أن السجود يكون عن سنن الصلاة دون الفرائض ودون الرغائب. فالرغائب لا
شيء عندهم فيها: أعني إذا سها عنها في الصلاة ما لم يكن أكثر من رغيبة واحدة، مثل
ما يرى مالك أنه لا يجب سجود من نسيان تكبيرة واحدة، ويجب من أكثر من واحدة. وأما
الفرائض فلا يجزئ عنها الإتيان بها وجبرها إذا كان السهو عنها مما لا يوجب إعادة
الصلاة بأسرها على ما تقدم فيما يوجب الإعادة وما يوجب القضاء، أعني على من ترك
بعض أركان الصلاة هكذا هذه بالعبارة بالأصول، وفيها من الغموض ما لا يخفى تأمل ا هـ،
وأما سجود السهو للزيادة فإنه يقع عند الزيادة في الفرائض والسنن جميعا، فهذه
الجملة لا اختلاف بينهم فيها، وإنما يختلفون من قبل اختلافهم فيما هو منها فرض أو
ليس بفرض، وفيما هو منها سنة أو ليس بسنة، وفيما هو منها سنة أو رغيبة؛ مثال ذلك
أن عند مالك ليس يسجد لترك القنوت لأنه عنده مستحب، ويسجد له عند الشافعي لأنه
عنده سنة، وليس يخفى عليك هذا مما تقدم القول فيه من اختلافهم بين ما هو سنة أو
فريضة أو رغيبة، وعند مالك وأصحابه سجود السهو للزيادة اليسيرة في الصلاة وإن كانت
من غير جنس الصلاة، وينبغي أن تعلم أن السنة والرغيبة هي عندهم من باب الندب،
وإنما تختلفان عندهم بالأقل والأكثر: أعني في تأكيد الأمر بها، وذلك راجع إلى
قرائن أحوال تلك العبادة، ولذلك
يكثر اختلافهم في هذا الجنس كثيرا، حتى إن بعضهم
يرى أن في بعض السنن ما إذا تركت عمدا إن كانت فعلا، أو فعلت عمدا إن كانت تركا أن
حكمها حكم الواجب: أعني في تعلق الإثم بها، وهذا موجود كثيرا لأصحاب مالك، وكذلك
تجدهم قد اتفقوا ما خلا أهل الظاهر على أن تارك السنن المتكررة بالجملة آثم، مثل
ما لو ترك إنسان الوتر أو ركعتي الفجر دائما لكان مفسقا آثما، فكأن العبادات بحسب
هذا النظر مثلها ما هي فرض بعينها وجنسها مثل الصلوات الخمس. ومنها ما هي سنة
بعينها فرض بجنسها مثل الوتر وركعتي الفجر وما أشبه ذلك من السنن. وكذلك قد تكون
عند بعضهم الرغائب رغائب بعينها سنن بجنسها مثل ما حكيناه عن مالك من إيجاب السجود
لأكثر من تكبيرة واحدة: أعني للسهو عنها، ولا تكون فيما أحسب عند هؤلاء سنة بعينها
وجنسها. وأما أهل الظاهر فالسنن عندهم هي سنن بعينها لقوله عليه الصلاة والسلام
للأعرابي الذي سأله عن فروض الإسلام "أفلح إن صدق، دخل الجنة إن صدق"
وذلك بعد أن قال له: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه: يعني الفرائض، وقد تقدم
هذا الحديث. واتفقوا من هذا الباب على سجود السهو لترك الجلسة الوسطى واختلفوا
فيها هل هي فرض أو سنة، وكذلك اختلفوا هل يرجع الإمام إذا سبح به إليها أو ليس
يرجع؟ وإن رجع فمتى يرجع؟ قال الجمهور: يرجع ما لم يستو قائما. وقال قوم: يرجع ما
لم يعقد الركعة الثالثة. وقال قوم: لا يرجع إن فارق الأرض قيد شبر، وإذا رجع عند
الذين لا يرون رجوعه، فالجمهور على أن صلاته جائزة. وقال قوم: تبطل صلاته.
وأما صفة سجود السهو فإنهم اختلفوا في
ذلك؛ فرأى مالك أن حكم سجدتي السهو إذا كانت بعد السلام أن يتشهد فيها ويسلم منها،
وبه قال أبو حنيفة لأن السجود كله عنده بعد السلام، وإذا كانت قبل السلام أن يتشهد
لها فقط، وأن السلام من الصلاة هو سلام منها، وبه قال الشافعي إذا كان السجود كله
عنده قبل السلام، وقد روي عن مالك أنه لا يتشهد للتي قبل السلام، وبه قال جماعة.
قال أبو عمر: أما السلام من التي بعد السلام فثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما التشهد فلا أحفظه من وجه ثابت. وسبب
هذا الاختلاف هو اختلافهم في تصحيح ما ورد من ذلك
في حديث ابن مسعود أعني من أنه عليه الصلاة والسلام "تشهد ثم سلم"
وتشبيه سجدتي السهو بالسجدتين الأخيرتين من الصلاة، فمن شبهها بها لم يوجب لها
التشهد، وبخاصة إذا كانت في نفس الصلاة. وقال أبو بكر بن المنذر: اختلف العلماء في
هذه المسألة على ستة أقوال: فقالت طائفة: لا تشهد فيها ولا تسليم، وبه قال أنس بن
مالك والحسن وعطاء. وقال قوم: مقابل هذا وهو أن فيها تشهدا وتسليما. وقال قوم:
فيها تشهد فقط دون تسليم، وبه قال الحكم وحماد والنخعي، وقال قوم: مقابل هذا وهو
أنه فيها تسليما وليس فيها تشهد وهو قول ابن سيرين. والقول الخامس إن شاء تشهد
وسلم، وإن شاء لم يفعل، وروي ذلك عن عطاء. والسادس قول أحمد بن حنبل إنه إن سجد بعد
السلام تشهد وإن سجد قبل السلام لم يتشهد، وهو الذي حكيناه نحن عن مالك. قال أبو
بكر قد ثبت "أنه صلى الله عليه وسلم كبر فيها أربع تكبيرات وأنه سلم"
وفي ثبوت تشهده فيها نظر.
اتفقوا على أن سجود السهو من سنة
المنفرد والإمام. واختلفوا في المأموم يسهو وراء الإمام هل عليه سجود أم لا؟ فذهب
الجمهور إلى أن الإمام يحمل عنه السهو، وشذ مكحول فألزمه السجود في خاصة نفسه. وسبب اختلافهم اختلافهم فيما يحمل الإمام من الأركان عن
المأموم وما لا يحمله، واتفقوا على أن الإمام إذا سها أن المأموم يتبعه في سجود
السهو وإن لم يتبعه في سهوه. واختلفوا متى يسجد المأموم إذا فاته مع الإمام بعض
الصلاة وعلى الإمام سجود سهو، فقال قوم: يسجد مع الإمام ثم يقوم لقضاء ما عليه،
وسواء كان سجوده قبل السلام أو بعده، وبه قال عطاء والحسن والنخعي والشعبي وأحمد
وأبو ثور وأصحاب الرأي. وقال قوم: يقضي ثم يسجد، وبه قال ابن سيرين وإسحاق. وقال
قوم: إذا سجد قبل التسليم سجدهما معه، وإن سجد بعد التسليم سجدهما بعد أن يقضي،
وبه قال مالك والليث والأوزاعي. وقال قوم: يسجدهما مع الإمام ثم يسجدهما ثانية بعد
القضاء، وبه قال الشافعي. وسبب
اختلافهم اختلافهم أي أولى وأخلق أن يتبعه في
السجود مصاحبا له أو في آخر صلاته، فكأنهم اتفقوا على أن الاتباع واجب لقوله عليه
الصلاة والسلام "إنما جعل الإمام ليؤتم به" واختلفوا هل موضعها للمأموم
هو موضع السجود أعني في آخر الصلاة؟ أو موضعها هو وقت سجود الإمام؟ فمن آثر مقارنة
فعله لفعل الإمام على موضع السجود ورأى ذلك شرطا في الاتباع، أعني أن يكون فعلهما
واحدا حقا قال: يسجد مع الإمام وإن لم يأت بها في موضع السجود، ومن آثر موضع
السجود قال: يؤخرها إلى آخر الصلاة، ومن أوجب عليه الأمرين أوجب عليه السجود مرتين
وهو ضعيف.
واتفقوا على أن السنة لمن سها في
صلاته أن يسبح له، وذلك للرجل لما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "مالي
أراكم أكثرتم من التصفيق من نابه شيء في صلاته فليسبح فإنه إذا سبح التفت إليه،
وإنما التصفيق للنساء" واختلفوا في النساء فقال مالك وجماعة: إن التسبيح
للرجال والنساء. وقال الشافعي وجماعة: للرجال التسبيح وللنساء التصفيق. والسبب في اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة
والسلام "وإنما التصفيق للنساء" فمن ذهب إلى أن معنى ذلك أن التصفيق هو
حكم النساء في السهو وهو الظاهر قال: النساء يصفقن ولا يسبحن، ومن فهم من ذلك الذم
للتصفيق قال: الرجال والنساء في التسبيح سواء، وفيه ضعف لأنه خروج عن الظاهر بغير
دليل، إلا أن تقاس المرأة في ذلك على الرجل، والمرأة كثيرا ما يخالف حكمها في
الصلاة حكم الرجل، ولذلك يضعف القياس.
وأما سجود السهو الذي هو لموضع الشك
فإن الفقهاء اختلفوا فيمن شك في صلاته فلم يدر كم صلى أواحدة أو اثنتين أو ثلاثا
أو أربعا على ثلاثة مذاهب. فقال قوم: يبني على اليقين وهو الأقل ولا يجزيه التحري
ويسجد سجدتي السهو، وهو قول مالك والشافعي وداود. وقال أبو حنيفة: إن كان أول أمره
فسدت صلاته، وإن تكرر ذلك منه تحرى وعمل على غلبة الظن ثم يسجد سجدتين بعد السلام.
وقالت طائفة: إنه ليس عليه إذا شك لا رجوع إلى اليقين ولا تحر، وإنما عليه السجود
فقط إذا شك. والسبب في اختلافهم تعارض ظواهر الآثار الواردة في هذا الباب،
وذلك أن في هذا الباب ثلاثة آثار: أحدها حديث البناء على اليقين، وهو حديث أبي
سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا شك أحدكم في صلاته
فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين
قبل أن يسلم، فإن صلى خمسا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما
للشيطان" خرجه مسلم. والثاني حديث ابن مسعود أن النبي عليه الصلاة والسلام
قال "إذا سها أحدكم في صلاته فليتحر وليسجد سجدتين" وفي رواية أخرى عنه
"فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب ثم ليسلم ثم ليسجد سجدتي السهو ويتشهد
ويسلم" والثالث حديث أبي هريرة خرجه مالك والبخاري أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال "إن أحدكم إذا قام يصلي جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم
صلى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس" وفي هذا المعنى أيضا حديث
عبد الله بن جعفر، خرجه أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من شك
في صلاته فليسجد سجدتين بعدها ويسلم" فذهب الناس في هذه الأحاديث مذهب الجمع
ومذهب الترجيح، والذين ذهبوا مذهب الترجيح منهم من لم يلتفت إلى المعارض، ومنهم من
رام تأويل المعارض وصرفه إلى الذي رجح، ومنهم من جمع الأمرين، أعني جمع بعضها ورجح
بعضها، وأول غير المرجح إلى معنى المرجح، ومنهم من جمع بين بعضها وأسقط حكم البعض.
فأما من ذهب مذهب الجمع في بعض والترجيح في بعض مع تأويل غير المرجح وصرفه إلى
المرجح، فمالك بن أنس فإنه حمل حديث أبي سعيد الخدري على الذي لم يستنكحه الشك،
وحمل حديث أبي هريرة على الذي يغلب عليه الشك ويستنكحه، وذلك من باب الجمع، وتأول
حديث ابن مسعود على أن المراد بالتحري هنالك هو الرجوع إلى اليقين، فأثبت على
مذهبه الأحاديث كلها. وأما من ذهب مذهب الجمع بين بعضها وإسقاط البعض وهو الترجيح
من غير تأويل المرجح عليه فأبو حنيفة، فإنه قال: إن حديث أبي سعيد إنما هو حكم من
لم يكن عنده ظن غالب يعمل عليه، وحديث ابن مسعود على الذي عنده ظن غالب، وأسقط حكم
حديث أبي هريرة وذلك أنه قال: ما في حديث أبي سعيد وابن مسعود زيادة، والزيادة يجب
قبولها والأخذ بها، وهذا أيضا كأنه ضرب من الجمع. وأما الذي رجح بعضها وأسقط حكم
البعض فالذين قالوا إنما عليه السجود فقط، وذلك أن هؤلاء رجحوا حديث أبي هريرة
وأسقطوا حديث أبي سعيد وابن مسعود، ولذلك كان أضعف الأقوال.
Post a Comment