الصلوات التي ليست فروض عين.
واختلفوا
في الوتر في خمسة مواضع: منها في حكمه، ومنها في صفته، ومنها في وقته، ومنها في
القنوت فيه، ومنها في صلاته على الراحلة. أما حكمه فقد تقدم القول فيه عند بيان
عدد الصلوات المفروضة. وأما صفته فإن مالكا رحمه الله استحب أن يوتر بثلاث يفصل
بينها بسلام. وقال أبو حنيفة: الوتر ثلاث ركعات من غير أن يفصل بينها بسلام. وقال
الشافعي: الوتر ركعة واحدة. ولكل قول من هذه الأقاويل سلف من الصحابة والتابعين. والسبب في اختلافهم
اختلاف الآثار في هذا الباب، وذلك أنه ثبت
عنه عليه الصلاة والسلام من حديث عائشة "أنه كان يصلي من الليل إحدى عشرة
ركعة يوتر منها بواحدة" وثبت عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
"صلاة الليل مثنى مثنى فإذا رأيت أن الصبح يدركك فأوتر بواحدة" وخرج
مسلم عن عائشة "أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي ثلاث عشرة ركعة ويوتر من
ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها" وخرج أبو داود عن أبي أيوب الأنصاري
أنه عليه الصلاة والسلام قال "الوتر حق على كل مسلم فمن أحب أن يوتر بخمس
فليفعل ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل" وخرج
أبو داود "أنه كان يوتر بسبع وتسع وخمس" وخرج عن عبد الله بن قيس قال
"قلت لعائشة بكم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر؟ قالت: كان يوتر
بأربع وثلاث وست وثلاث وثمان وثلاث عشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأنقص من سبع ولا
بأكثر من ثلاث عشرة"
وحديث
ابن عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "المغرب وتر صلاة النهار"
فذهب العلماء في هذه الأحاديث مذهب الترجيح. فمن ذهب إلى أن الوتر ركعة واحدة
فمصيرا إلى قوله عليه الصلاة والسلام "فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة"
وإلى حديث عائشة "أنه كان يوتر بواحدة" ومن ذهب إلى أن الوتر ثلاث من
غير أن يفصل بينها وقصر حكم الوتر على الثلاث فقط، فليس يصح له أن يحتج بشيء مما
في هذا الباب، لأنها كلها تقتضي التخيير ما عدا حديث ابن عمر أنه قال عليه الصلاة
والسلام "المغرب وتر صلاة النهار" فإن لأبي حنيفة أن يقول: إنه إذا شبه
شيء بشيء وجعل حكمهما واحدا كان المشبه به أحرى أن يكون بتلك الصفة، ولما شبهت
المغرب بوتر صلاة النهار وكانت ثلاثا وجب أن يكون وتر صلاة الليل ثلاثا. وأما مالك
فإنه تمسك في هذا الباب بأنه عليه الصلاة والسلام لم يوتر قط إلا في أثر شفع، فرأى
أن ذلك من سنة الوتر، وأن أقل ذلك ركعتان، فالوتر عنده على الحقيقة إما أن يكون
ركعة واحدة، ولكن من شرطها أن يتقدمها شفع، وإما أن يرى أن الوتر المأمور به هو
يشتمل على شفع ووتر، فإنه إذا زيد على الشفع وتر صار الكل وترا،
ويشهد
لهذا المذهب حديث عبد الله بن قيس المتقدم، فإنه سمي الوتر فيه العدد المركب من
شفع ووتر ويشهد لاعتقاده أن الوتر هو الركعة الواحدة أنه كان يقول: كيف يوتر
بواحدة ليس قبلها شيء، وأي شيء يوتر له؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"توتر له ما قد صلى" فإن ظاهر هذا القول أنه كان يرى أن الوتر الشرعي هو
العدد الوتر بنفسه: أعني الغير مركب من الشفع والوتر وذلك أن هذا هو وتر لغيره،
وهذا التأويل عليه أولى. والحق في هذا أن ظاهر هذه الأحاديث يقتضي التخيير في صفة
الوتر من الواحدة إلى التسع على ما روي ذلك من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم،
والنظر إنما هو في هل من شرط الوتر أن يتقدمه شفع منفصل أم ليس ذلك من شرطه، فيشبه
أن يقال ذلك من شرطه، لأنه هكذا كان وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشبه أن
يقال ليس ذلك من شرطه لأن مسلما قد خرج "أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا
انتهى إلى الوتر أيقظ عائشة فأوترت" وظاهره أنها كانت توتر دون أن تقدم على
وترها شفعا،
وأيضا
فإنه قد خرج من طريق عائشة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر بتسع
ركعات يجلس في الثامنة والتاسعة ولا يسلم إلا في التاسعة ثم يصلي ركعتين وهو جالس
فتلك إحدى عشرة ركعة، فلما أس وأخذ اللحم أوتر بسبع ركعات ولم يجلس إلا في السادسة
والسابعة ولم يسلم إلا في السابعة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس فتلك تسع ركعات"
وهذا الحديث فيه الوتر متقدم على الشفع، ففيه حجة على أنه ليس من شرط الوتر أن
يتقدمه شفع، وأن الوتر ينطلق على الثلاث ومن الحجة في ذلك ما روى أبو داود عن أبي
بن كعب قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل
يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد" وعن عائشة مثله "وقالت في الثالثة
بقل هو الله أحد والمعوذتين". وأما وقته فإن العلماء اتفقوا على أن وقته من
بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر لورود ذلك من طرق شتى عنه عليه الصلاة والسلام،
ومن أثبت ما في ذلك ما خرجه مسلم عن أبي نضرة العوفي أن أبا سعيد أخبرهم أنهم
سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الوتر فقال "الوتر قبل الصبح"
واختلفوا في جواز صلاته بعد الفجر، فقوم منعوا ذلك وقوم أجازوه ما لم يصل الصبح،
وبالقول الأول قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة وسفيان الثوري،
وبالثاني قال الشافعي ومالك وأحمد.
وسبب
اختلافهم معارضة عمل الصحابة في ذلك بالآثار،
وذلك أن ظاهر الآثار الواردة في ذلك أن لا يجوز أن يصلي بعد الصبح كحديث أبي نضرة
المتقدم وحديث أبي حذيفة العدوي نص في هذا خرجه أبو داود وفيه "وجعلها لكم ما
بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر" ولا خلاف بين أهل الأصول أن ما بعد إلى
بخلاف ما قبلها إذا كانت غاية، وإن هذا وإن كان من باب دليل الخطاب فهو من أنواعه
المتفق عليها، مثل قوله {وأتموا الصيام إلى الليل} وقوله {إلى المرفقين} لا خلاف
بين العلماء أن ما بعد الغاية بخلاف الغاية وأما العمل المخالف في ذلك للأثر فإنه
روي عن ابن مسعود وابن عباس وعبادة بن الصامت وحذيفة وأبي الدرداء وعائشة أنهم
كانوا يوترون بعد الفجر وقبل صلاة الصبح، ولم يرو عن غيرهم من الصحابة خلاف هذا؛
وقد رأى قوم أن مثل هذا هو داخل في باب الإجماع ولا معنى لهذا فإنه ليس ينسب إلى
ساكت قول قائل: أعني أنه ليس ينسب إلى الإجماع من لم يعرف له قول في المسألة.
وأما
هذه المسألة فكيف يصح أن يقال إنه لم يرو في ذلك خلاف عن الصحابة، وأي خلاف أعظم
من خلاف الصحابة الذين رووا هذه الأحاديث، أعني خلافهم لهؤلاء الذين أجازوا صلاة
الوتر بعد الفجر، والذي عندي في هذا أن هذا من فعلهم ليس مخالفا للآثار الواردة في
ذلك أعني في إجازتهم الوتر بعد الفجر، بل إجازتهم ذلك هو من باب القضاء لا من باب
الأداء، وإنما يكون قولهم خلاف الآثار لو جعلوا صلاته بعد الفجر من باب الأداء
فتأمل هذا، وإنما يتطرق الخلاف لهذه المسألة من باب اختلافهم في هل القضاء في العبادة
المؤقتة يحتاج إلى أمر جديد أم لا؟ أعني غير أمر الأداء وهذا التأويل بهم أليق،
فإن أكثر ما نقل عنهم هذا المذهب من أنهم أبصروا يقضون الوتر قبل الصلاة وبعد
الفجر وإن كان الذي نقل عن ابن مسعود في ذلك قول، أعني أنه كان يقول: إن وقت الوتر
من بعد العشاء الآخرة إلى صلاة الصبح، فليس يجب لمكان هذا أن يظن بجميع من ذكرناه
من الصحابة أنه يذهب هذا المذهب من قبل أنه أبصر يصلي الوتر بعد الفجر، فينبغي أن
تتأمل صفة النقل في ذلك عنهم. وقد حكى ابن المنذر في وقت الوتر عن الناس خمسة
أقوال: منها القولان المشهوران اللذان ذكرتهما. والقول الثالث أنه يصلي الوتر وإن
صلى الصبح، وهو قول طاوس. والرابع أنه يصليها وإن طلعت الشمس، وبه قال أبو ثور
والأوزاعي. والخامس أنه يوتر من الليلة القابلة وهو قول سعيد بن جبير. وهذا
الاختلاف إنما سببه اختلافهم في تأكيده وقربه من درجة الفرض، فمن رآه أقرب أوجب
القضاء في زمان أبعد من الزمان المختص به، ومن رآه أبعد أوجب القضاء في زمان أقرب،
ومن رآه سنة كسائر السنن ضعف عنده القضاء إذ القضاء إنما يجب في الواجبات، وعلى
هذا يجيء اختلافهم في قضاء صلاة العيد لمن فاتته، وينبغي أن لا يفرق في هذا بين
الندب والواجب أعني أن من رأى أن القضاء في الواجب يكون بأمر متجدد أن يعتقد مثل
ذلك في الندب، ومن رأى أنه يجب بالأمر الأول أن يعتقد مثل ذلك في الندب
وأما
اختلافهم في القنوت فيه فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يقنت فيه ومنعه مالك
وأجازه الشافعي في أحد قوليه في النصف الآخر من رمضان، وأجازه قوم في النصف الأول
من رمضان، وقوم في رمضان كله.
والسبب
في اختلافهم في ذلك اختلاف الآثار، وذلك أنه روي
عنه صلى الله عليه وسلم القنوت مطلقا، وروي عنه القنوت شهرا، وروي عنه أنه آخر
أمره لم يكن يقنت في شيء من الصلاة، وأنه نهى عن ذلك، وقد تقدمت هذه المسألة.
وأما
صلاة الوتر على الراحلة حيث توجهت به فإن الجمهور على جواز ذلك لثبوت ذلك من فعله
عليه الصلاة والسلام، أعني أنه كان يوتر على الراحلة: وهو مما يعتمدونه في الحجة
على أنها ليست بفرض إذا كان قد صح عنه عليه الصلاة والسلام "أنه كان يتنفل
على الراحلة" ولم يصح عنه أنه صلى قط مفروضة على الراحلة. وأما الحنفية
فلمكان اتفاقهم معهم على هذه المقدمة، وهو أن كل صلاة مفروضة لا تصلى على الراحلة،
واعتقادهم أن الوتر فرض وجب عندهم من ذلك أن لا تصلى على الراحلة، وردوا الخبر
بالقياس وذلك ضعيف.
وذهب
أكثر العلماء إلى أن المرء إذا أوتر ثم نام فقام يتنفل أنه لا يوتر ثانية، لقوله
عليه الصلاة والسلام "لا وتران في ليلة" خرج ذلك أبو داود، وذهب بعضهم
إلى أنه يشفع الوتر الأول بأن يضيف إليه ركعة ثانية ويوتر أخرى بعد التنفل شفعا،
وهي المسألة التي يعرفونها بنقض الوتر وفيه ضعف من وجهين: أحدهما أن الوتر ليس
ينقلب إلى النفل بتشفيعه، والثاني أن التنفل بواحدة غير معروف من الشرع. وتجويز
هذا ولا تجويزه هو سبب الخلاف في ذلك، فمن راعى من الوتر المعقول وهو ضد
الشفع قال ينقلب شفعا إذا أضيف إليه ركعة ثانيا، ومن راعى منه المعنى الشرعي قال:
ليس ينقلب شفعا لأن الشفع نفل والوتر سنة مؤكدة أو واجبة.
واتفقوا
على أن ركعتي الفجر سنة لمعاهدته عليه الصلاة والسلام على فعلها أكثر منه على سائر
النوافل والترغيبة فيها، ولأنه قضاها بعد طلوع الشمس حين نام عن الصلاة. واختلفوا
من ذلك في مسائل إحداها في المستحب من القراءة فيهما؛ فعند مالك المستحب أن يقرأ
فيهما بأم القرآن فقط، وقال الشافعي: لا بأس أن يقرأ فيهما بأم القرآن مع سورة
قصيرة، وقال أبو حنيفة: لا توقيف فيهما في القراءة يستحب، وأنه يجوز أن يقرأ فيهما
المرء حزبه من الليل. والسبب
في اختلافهم اختلاف قراءته عليه الصلاة والسلام
في هذه الصلاة واختلافهم في تعيين القراءة في الصلاة، وذلك أنه روي عنه عليه
الصلاة والسلام "أنه كان يخفف ركعتي الفجر" على ما روته عائشة قالت
"حتى أني أقول أقرأ فيهما بأم القرآن أم لا؟" فظاهر هذا أنه كان يقرأ
فيهما بأم القرآن فقط. وروي عنه من طريق أبي هريرة خرجه أبو داود "أنه كان
يقرأ فيهما بقل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون" فمن ذهب مذهب حديث عائشة
اختار قراءة أم القرآن فقط، ومن ذهب مذهب الحديث الثاني اختار أم القرآن وسورة
قصيرة، ومن كان على أصله في أنه لا تتعين للقراءة في الصلاة لقوله تعالى {فاقرءوا
ما تيسر منه} قال يقرأ فيهما ما أحب.
والثانية
في صفة القراءة المستحبة فيهما، فذهب مالك والشافعي وأكثر العلماء إلى أن المستحب
فيهما هو الإسرار، وذهب قوم إلى أن المستحب فيهما هو الجهر، وخير قوم في ذلك بين
الإسرار والجهر. والسبب في ذلك تعارض مفهوم الآثار، وذلك أن حديث عائشة
المتقدم المفهوم من ظاهره "أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ فيهما سرا"
ولولا ذلك لم تشك عائشة هل قرأ فيهما بأم القرآن أم لا؟ وظاهر ما روى أبو هريرة
أنه كان يقرأ فيهما بـ {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} أن قراءته عليه
الصلاة والسلام فيهما جهرا" ولولا ذلك ما علم أبو هريرة ما كان يقرأ فيهما،
فمن ذهب مذهب الترجيح بين هذين الأثرين قال: إما باختيار الجهر إن رحج حديث أبي
هريرة، وإما باختيار الإسرار إن رجح حديث عائشة، ومن ذهب مذهب الجمع قال بالتخيير
والثالثة في الذي لم يصل ركعتي الفجر وأدرك الإمام في الصلاة أو دخل المسجد
ليصلهما، فأقيمت الصلاة فقال مالك: إذا كان قد دخل المسجد فأقيمت الصلاة فليدخل مع
الإمام في الصلاة ولا يركعهما في المسجد والإمام يصلي الفرض، وإن كان لم يدخل
المسجد فإن لم يخف أن يفوته الإمام بركعة فليركعها خارج المسجد، وإن خاف فوات
الركعة فليدخل مع الإمام ثم يصليهما إذا طلعت الشمس؛
ووافق أبو حنيفة مالكا في الفرق بين أن يدخل
المسجد أو لا يدخله، وخالفه في الحد في ذلك فقال: يركعهما خارج المسجد ما ظن أنه
يدرك ركعة من الصبح مع الإمام. وقال الشافعي إذا أقيمت الصلاة المكتوبة فلا
يركعهما أصلا لا داخل المسجد ولا خارجه، وحكى ابن المنذر أن قوما جوزوا ركوعهما في
المسجد والإمام يصلي وهو شاذ. والسبب
في اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة
والسلام "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" فمن حمل هذا على
عمومه لم يجز صلاة ركعتي الفجر إذا أقيمت الصلاة المكتوبة لا خارج المسجد ولا
داخله، ومن قصره على المسجد فقد أجاز ذلك خارج المسجد ما لم تفته الفريضة أو لم
يفته منها جزء. ومن ذهب مذهب العموم فالعلة عنده في النهي إنما هو الاشتغال بالنفل
عن الفريضة، ومن قصر ذلك على المسجد فالعلة عنده إنما هو أن تكون صلاتان معا في
موضع واحد لمكان الاختلاف على الإمام كما روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال
"سمع قوم الإقامة فقاموا يصلون، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: أصلاتان معا؟ أصلاتان معا؟" قال: وذلك في صلاة الصبح والركعتين اللتين
قبل الصبح.
وإنما
اختلف مالك وأبو حنيفة في القدر الذي يراعى من فوات صلاة الفريضة من قبل اختلافهم
في القدر الذي به يفوت فضل صلاة الجماعة للمشتغل بركعتي الفجر إذا كان فضل صلاة
الجماعة عندهم أفضل من ركعتي الفجر، فمن رأى أنه بفوات ركعة منها يفوته فضل صلاة
الجماعة قال: يتشاغل بها ما لم تفته ركعة من الصلاة المفروضة، ومن رأى أنه يدرك
الفضل إذا أدرك ركعة من الصلاة لقوله عليه الصلاة والسلام "من أدرك ركعة من
الصلاة فقد أدرك الصلاة" أي قد أدرك فضلها وحمل ذلك على عمومه في تارك ذلك
قصدا أو بغير اختيار قال: يتشاغل بها ما ظن أنه يدرك ركعة منها. ومالك إنما يحمل
هذا الحديث والله أعلم على من فاتته الصلاة دون قصد منه لفواتها، ولذلك رأى أنه
إذا فاتته منها ركعة فقد فاته فضلها. وأما من أجاز ركعتي الفجر في المسجد والصلاة
تقام، فالسبب في ذلك أحد أمرين: إما أنه لم يصح عنده هذا
الأثر أو لم يبلغه. قال أبو بكر بن المنذر: هو أثر ثابت: أعني قوله عليه الصلاة
والسلام "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة"
وكذلك
صححه أبو عمر بن عبد البر، وإجازة ذلك تروى عن ابن مسعود، والرابعة في وقت قضائها
إذا فاتت حتى صلى الصبح، فإن طائفة قالت يقضيها بعد صلاة الصبح، وبه قال عطاء وابن
جريج وقال قوم يقضيها بعد طلوع الشمس، ومن هؤلاء من جعل لها غير هذا الوقت غير
المتسع، ومنهم من جعله لها متسعا فقال: يقضيها من لدن طلوع الشمس إلى وقت الزوال
ولا يقضيها بعد الزوال، ومن هؤلاء الذين قالوا بالقضاء، ومنهم من استحب ذلك، ومنهم
من خير فيه. والأصل في قضائها صلاته لها عليه الصلاة والسلام بعد طلوع الشمس حين
نام عن الصلاة.
واختلفوا
في النوافل هل تثنى أو تربع أو تثلث؟ فقال مالك والشافعي: صلاة التطوع بالليل
والنهار مثنى مثنى يسلم في كل ركعتين. وقال أبو حنيفة: إن شاء ثنى أو ثلث أو ربع
أو سدس أو ثمن دون أن يفصل بينهما بسلام؛ وفرق قوم بين صلاة الليل وصلاة النهار
فقالوا: صلاة الليل مثنى مثنى، وصلاة النهار أربع. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار الواردة في هذا الباب، وذلك
أنه ورد في هذا الباب من حديث ابن عمر أن رجلا سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن
صلاة الليل فقال "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة
توتر له ما قد صلى" وثبت عنه عليه الصلاة والسلام "أنه كان يصلي قبل
الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين وبعد الجمعة ركعتين وقبل العصر
ركعتين" فمن أخذ بهذين الحديثين قال: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. وثبت
أيضا من حديث عائشة أنها قالت، وقد وصفت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
"كان يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن
وطولهن، ثم يصلي ثلاثا، قالت: فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة
إن عيني تنامان ولا ينام قلبي" وثبت عنه أيضا من طريق أبي هريرة أنه قال عليه
الصلاة والسلام "من كان يصلي بعد الجمعة فليصلي أربعا" وروى الأسود عن
عائشة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل تسع ركعات فلما
أسن صلى سبع ركعات" فمن أخذ أيضا بظاهر هذه الأحاديث جوز التنفل بالأربع
والثلاث دون أن يفصل بينهما بسلام، والجمهور على أنه لا يتنفل بواحدة، وأحسب أن
فيه خلافا شاذا.
والجمهور
على أن ركعتي دخول المسجد مندوب إليها من غير إيجاب، وذهب أهل الظاهر إلى وجوبها. وسبب الخلاف في ذلك هل الأمر في قوله عليه الصلاة
والسلام "إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين" محمول على الندب أو على
الوجوب، فإن الحديث متفق على صحته، فمن تمسك في ذلك بما اتفق عليه الجمهور من أن
الأصل هو حمل الأوامر المطلقة على الوجوب حتى يدل الدليل على الندب، ولم ينقدح
عنده دليل ينقل الحكم من الوجوب إلى الندب قال: الركعتان واجبتان، ومن انقدح عنده
دليل على حمل الأوامر ههنا على الندب أو كان الأصل عنده في الأوامر أن تحمل على
الندب حتى يدل الدليل على الوجوب فإن هذا قد قال به قوم قال الركعتان غير واجبتين،
لكن الجمهور إنما ذهبوا إلى حمل الأمر ههنا على الندب لمكان التعارض الذي بينه
وبين الأحاديث التي تقتضي بظاهرها أو بنصها أن لا صلاة مفروضة إلا الصلوات الخمس
التي ذكرناها في صدر هذا الكتاب مثل حديث الأعرابي وغيره، وذلك أنه إن حمل الأمر
ههنا على الوجوب لزم أن تكون المفروضات أكثر من خمس، ولمن أوجبها أن الوجوب ههنا
إنما هو متعلق بدخول المسجد لا مطلقا، كالأمر بالصلوات المفروضة، وللفقهاء أن
تقييد وجوبها بالمكان شبيه وجوبها بالزمان، ولأهل الظاهر أن المكان المخصوص ليس من
شرط صحة الصلاة، والزمان من شرط صحة الصلاة المفروضة. واختلف العلماء من هذا الباب
فيمن جاء بالمسجد وقد ركع ركعتي الفجر في بيته، هل يركع عند دخوله المسجد أم لا؟
فقال الشافعي: يركع، وهي رواية أشهب عن مالك؛ وقال أبو حنيفة: لا يركع، وهي رواية
ابن القاسم عن مالك. وسبب اختلافهم معارضة عموم قوله عليه الصلاة والسلام
"إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين" وقوله عليه الصلاة والسلام
"لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الصبح" فههنا عمومان وخصوصان: أحدهما في
الزمان، والآخر في الصلاة، وذلك أن حديث الأمر بالصلاة عند دخول المسجد عام في
الزمان خاص في الصلاة، والنهي عن الصلاة بعد الفجر إلا ركعتا الصبح خاص في الزمان
عام في الصلاة، فمن استثنى خاص الصلاة من عامها رأى الركوع بعد ركعتي الفجر، ومن
استثنى خاص الزمان من عامه لم يوجب ذلك، وقد قلنا: إن مثل هذا التعارض إذا وقع
فليس يجب أن يصار إلى أحد التخصيصين إلا بدليل، وحديث النهي لا يعارض به حديث
الأمر الثابت والله أعلم، فإن ثبت الحديث وجب طلب الدليل من موضع آخر.
Post a Comment