الحِلْـــمُ:
مصدر حَلُمَ فُلانٌ
أي صار حليماً، وهو مأخوذ من مادة (ح ل م) التي تَدُلُ على ترك العجلة([349]).
والحلم في الاصطلاح
يدور حول معنى ضبط النفس عند شدة الغضب وترك الانتقام مع القدرة عليه([350]).
ويكفي الحِلْمُ منزلة
ومكانة أن وصف الله نفسه به في كتابه في معرض ذكره لفضله ورحمته ومغفرته لعباده، جاءت
صفة الحلم مقرونة بصفات المغفرة والعلم والغنى والشكر
وجعلها الله تعالى
صفة مدح وثناء على أنبيائه
وبَشَّرَ الله نبيه
إبراهيم بإسماعيل، ووصفه بالحلم، وقد تمثل الحلم في سيرته ^ ما لم تنتهك حرمة من حرمات
الله تعالى، فقد كان ^ حليماً في دعوته يتحمل الأذى الذي يلحق به في نفسه، فعن أبي
هريرة رضي الله عنه أنه قال: إن رجلاً أتى النبي ^ يتقاضاه فأغلظَ، فَهمَّ به أصحابُه،
فقال رسول الله ^: «دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً»، ثم قال: «أعطُوه سناً مثل سنه»، قالوا:
يا رسول الله، لا نَجِدُ إِلاَّ أمْثَلَ مِنْ سِنِّهِ، قَالَ: «أعْطُوهُ، فإنَّ خَيْرَكُمْ
أحْسَنُكُمْ قَضَاءً»([351]).
ومن حلمه ^ ما ورد
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «كنت أمشي مع رسول الله ^ وعليه بُردُ نجراني
غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول
الله ^ قد أثرت بها حاشيةُ البُرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمدُ مُرْ لي من مال الله
الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله ^ ثم ضحك ثم أمر له بعطاء»([352]).
والأمثلة على حلمه
^ من سيرته كثيرة، وقد أخبر عن نبي من أنبياء الله، كما ورد عن عبدالله بن مسعود رضي
الله عنه قال: «كأني أنظر إلى النبي ^ يحكي: نبياً من الأنبياء ضربه قومُهُ فأدموهُ،
فهو يمسحُ الدم عن وجهه ويقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»([353]).
الحلم من الخصال
التي يحبها الله ورسوله ^، فقد قال ^ لأشجع بن عبد القيس: «إن فيك لخصلتين يُحبهما
الله: الحِلْمُ والأناةُ»([354]).
وفي مقابل الحلم
الغضب، وهو صفة قبيحة عندما يكون مبدؤها الانتقام للنفس والتشفي من الأقران، ويكون
الغضب محموداً إذا صدر الغضب من الله أو لله، وقد ورد إخبار الله تعالى بغضبه على اليهود
والمنافقين، ومن خالف أمره جل وعلا وانتهك حرماته، من ذلك غضبه جل وعلى على اليهود،
ومع حلمه ^ والذي
ذكرنا جانباً منه فيما مضى إلا أنه كان يغضب لله إذا انتهكت حرمات الله، ففي الحديث
عن عائشة رضي الله عنها قالت: رخَّصَ رسولُ الله ^ في أمر فتنزه عنه ناسٌ من الناسِ،
فبلغ ذلك النبي ^، فغضب حتى بان الغضبُ في وجهه. ثم قال: «ما بال أقوامٍ يرغبون عمَّا
رُخِّصَ لي فيه، فوالله لأنا أعلمُهُم بالله وأشدُهُم له خشية»([355]).
وعن جابر رضي الله
عنهما أنه قال: كان رسولُ الله ^ إذا خطب احمرَّتْ عيناه وعلا صوتُهُ، واشتد غَضَبُهُ
حتى كأنه مُنذِرُ جيش يقول: صبَّحكُم ومسَّاكُم...»([356]).
والغضب إذا كان انتقاماً
للنفس، وتجاوز حدود ما شرع الله تعالى أودى بصاحبه إلى المهالك، وقد حذر منه ^، وأرشد
إلى طرق توقيه، ففي الحديث عن سليمان بن صُرَدٍ رضي الله عنه أنه قال: استب رجُلان
عند النبي ^ ونحن عنده جُلوسٌ وأحدهما يسُبُ صاحبه مغضباً قد احمرَّ وجهُهُ، فقال النبي
^: «إني لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»([357]).
وقال ^: «إذا غضب
أحدُكُم وهو قائم فليجلس فإذا ذهب عنه الغضبُ وإلا فليضطجع»([358]).
وكان من وصيته الجامعة
^ أن رجلاً أتاه فقال أوصني. قال: «لا تغضب»، فردد مراراً، قال: «لا تغضب»([359]).
والغضب المذموم من
أسباب نشر الأحقاد والضغائن بين الناس ومُورث لغضب الله تعالى، يقول ابن القيم رحمه
الله: «دخل الناسُ النار من ثلاثة أبواب: باب شبهة أورثت شكاً في دين الله، وباب شهوة
أورثت تقديم الهوى على طاعته ومرضاته، وبابُ غضب أورث العُدوان على خلقه»([360]).
Post a Comment