أبو قيس
أراح أبو قيس صدره فوق التراب الندي، فبدأت الأرض تخفق من تحته: ضربات قلب متعب تطوف في ذرات الرمل مرتجة ثم تعبر إلى خلاياه... في كل مرة يرمي بصدره فوق التراب يحس ذلك الوجيب كأنما قلب الأرض ما زال ، منذ أن استلقى هناك أول مرة، يشق طريقاً قاسياً إلى النور قادماً من أعمق أعماق الجحيم، حين قال ذلك مرة لجاره الذي كان يشاطره الحقل، هناك، في الأرض التي تركها منذ عشر سنوات، أجابه ساخراً:
"هذا صوت قلبك أنت تسمعه حين تلصق صدرك بالأرض "، أي هراء خبيث! والرائحة إذن؟ تلك التي إذا تنشقها ماجت في جبينه ثم انهالت مهمومة في عروقه؟. كلما تنفس رائحة الأرض وهو مستلق فوقها خيل إليه أنه يتنسم شعر زوجه حين تخرج من الحمام وقد اغتسلت بالماء البارد.. الرائحة إياها، رائحة امرأة اغتسلت بالماء البارد وفرشت شعرها فوق وجهه وهو لم يزل رطيباً .. الخفقان ذاته: كأنك تحمل بين كفيك الحانيتين عصفورا صغيراً.. الأرض الندية - فكر- هي لا شك بقايا من مطر أمس.. كلا، أمس لم تمطر! لا يمكن أن تمطر السماء الآن إلا قيظاً وغباراً ! أنسيت أين أنت؟ أنسيت؟
دور جسده واستلقى على ظهره حاضنا رأسه بكفيه وأخذ يتطلع إلى السماء: كانت بيضاء متوهجة، وكان ثمة طائر أسود يحلق عالياً وحيدا على غير هدى، ليس يدري لماذا امتلأ، فجأة بشعور آسن من الغربة، وحسب لوهلة أنه على وشك أن يبكي.. كلا، لم تمطر أمس، نحن في آب الآن.. أنسيت؟ كل تلك الطريق المنسابة في الخلاء كأنها الأبد الأسود.. أنسيتها؟ ما زال الطائر يحوم وحيدا مثل نقطة سوداء في ذلك الوهج المترامي فوقه.. نحن في آب ! إذن لماذا هذه الرطوبة في الأرض؟ إنه الشهد ! ألست تراه يترامى على مد البصر إلى جانبك ؟
- " وحين يلتقي النهران الكبيران: دجلة والفرات، يشكلان نهرا واحدا اسمه شط العرب يمتد من قبل البصرة بقليل إلى...
الأستاذ سليم، العجوز النحيل الأشيب، قال ذلك عشر مرات بصوته الرفيع لطفل صغير كان يقف إلى جانب اللوح الأسود، وكان هو ماراً حينذاك حذاء المدرسة في قريته.. فارتقى حجراً وأخذ يتلصص من الشباك: كان الأستاذ سليم واقفاً أمام التلميذ الصغير وكان يصبح بأعلى صوته وهو يهز عصاه الرفيعة:
- ".. وحين يلتقي النهران الكبيران: دجلة والفرات.. "
وكان الصغير يرتجف هلما فيما سرت ضحكات بقية الأطفال في الصف.. مد يده ونقر طفلا على رأسه فرفع الطفل نظره إليه وهو يتلصص من الشباك:
-"... ماذا حدث؟
ضحك الطفل وأجاب هامساً:
- " تيس !"
عاد، فنزل عن الحجر وأكمل طريقه وصوت الأستاذ سليم ما زال يلاحقه وهو يكرر:
- " وحين يلتقي النهران الكبيران... "
في تلك الليلة شاهد الأستاذ سليم جالساً في ديوانية المختار يقرقر بنرجيلته : كان قد أرسل لقريتهم في يافا كي يعلم الصبية، وكان قد أمضى شطراً طويلاً من حياته في التعليم حتى صارت كلمة أستاذ جزءاً لا يتجزأ من اسمه، وفي الديوانية سأله أحدهم، تلك الليلة:
- ".. وسوف تؤم الناس يوم الجمعة.. أليس كذلك؟ "
وأجاب الأستاذ سليم ببساطة:
- " كلا، إنني أستاذ ولست إماماً... "
قال له المختار:
- " وما الفرق؟ لقد كان أستاذنا إماماً.. "
- " كان أستاذ كتاب، أنا أستاذ مدرسة.. "
وعاد المختار يلح:
- " وما الفرق؟."
لم يجب الأستاذ سليم بل دور بصره من وراء نظارتيه فوق الوجوه، كأنه يستغيث بواحد من الجالسين، إلا أن الجميع كانوا مشوشين حول هذا الموضوع مثل المختار..
بعد فترة صمت طويلة تنحنح الأستاذ سليم وقال بصوت هاديء:
- " طيب، أنا لا أعرف كيف أصلي.. "
- " لا تعرف؟ "
زأر الجميع، فأكد الأستاذ سليم محدداً:
- " لا أعرف ! "
تبادل الجلوس نظرات الاستغراب ثم ثبتوا أبصارهم في وجه المختار الذي شعر بأن عليه أن يقول شيئاً، فاندفع دون أن يفكر:
- ".. وماذا تعرف إذن؟ "
وكأن الأستاذ سليم كان يتوقع مثل هذا السؤال، إذ أنه أجاب بسرعة وهو ينهض:
- " أشياء كثيرة.. إنني أجيد إطلاق الرصاص مثلا.. "
وصل إلى الباب فالتفت، كان وجهه النحيل يرتجف:
- " إذا هاجموكم أيقظوني، قد أكون ذا نفع.. "
***
ها هو إذن الشط الذي تحدث عنه الأستاذ سليم قبل عشر سنوات ! ها هو ذا يرتمي على بعد آلاف من الأميال والأيام عن قريته وعن مدرسة الأستاذ سليم.. يا رحمة الله عليك يا أستاذ سليم !.. يا رحمة الله عليك ! لا شك أنك ذا حظوة عند الله حين جعلك تموت قبل ليلة واحدة من سقوط القرية المسكينة في أيدي اليهود.. ليلة واحدة فقط.. يا الله ! أتوجد ثمة نعمة إلهية أكبر من هذه؟.. صحيح أن الرجال كانوا في شغل عن دفنك وعن إكرام موتك.. ولكنك على أي حال بقيت هناك.. بقيت هناك ! وفرت على نفسك الذل والمسكنة وأنقذت شيخوختك من العار .. يا رحمة الله عليك يا أستاذ سليم .. ترى لو عشت، لو أغرقك الفقر كما أغرقني.. أكنت تفعل ما أفعل الآن؟ أكنت تقبل أن تحمل سنيك كلها على كتفيك وتهرب عبر الصحراء إلى الكويت كي " تجد لقمة خبز؟
نهض، واستند إلى الأرض بكوعيه وعاد ينظر إلى النهر الكبير كأنه لم يره قبل ذلك. إذن هذا هو شط العرب: " نهر كبير تسير فيه البواخر محملة بالتمر والقش كأنه شارع في وسط البلد تسير فيه السيارات.. " هكذا صاح ابنه، قيس، بسرعة حين سألة تلك الليلة:
- " ما هو شط العرب؟ "
كان يقصد أن يمتحنه، إلا أن قيس صاح الجواب بسرعة، وأردف قائلا:
- ".. لقد رأيتك تطل من شباك الصف اليوم.. "
التفت إلى زوجه فضحكت، أحس بشيء من الخجل، وقال ببطء:
- " إنني أعرف ذلك من قبل.. "
- " كلا، لم تكن تعرفه.. عرفته اليوم وأنت تطل من الشباك.. "
- " طيب ! وماذا يهمني أن أعرف ذلك أو أن لا أعرفه، هل ستقوم القيامة؟ "
رمقته زوجته من طرف عينيها ثم قالت:
- " اذهب والعب يا قيس في الغرفة الأخرى... "
وحين صفق الباب خلفه قالت لزوجها:
- " لا تحكي أمامه بهذا الشكل، الولد مبسوط لأنه يعرف ذلك، لماذا تخيب أمله؟ "
قام واقترب منها ثم وضع كفه على بطنها وهمس:
- " متى ؟ "
-" بعد سبعة أشهر "
- " أوف !"
- " نريد بنتا هذه المرة.. "
- " كلا ! نريد صبياً ! صبياً ! "
***
ولكنها أنجبت بنتاً سماها "حسنا " ماتت بعد شهرين من ولادتها وقال الطبيب مشمئزاً: " لقد كانت نحيلة للغاية ! "
كان ذلك بعد شهر من تركه قريته ، في بيت عتيق يقع في قرية أخرى بعيدة عن خط القتال :
- " يا أبا قيس، أحس بأنني سألد ! "
- " طيب، طيب، اهدئي "
وقال في ذات نفسه :
وربما نبني غرفة في مكان ما ..
- " بودي لو تلد المرأة بعد مئة شهر من الحمل ! أهذا وقت ولادة ؟ "
- " يا إلهي ! "
- " ماذا؟ "
- " سألد "
- " أأنادي شخصاً ؟ "
- " أم عمر"
- " أين أجدها الآن؟ "
- " ناولني هذه الوسادة.."
- " أين أجد أم عمر؟ "
- " يا إلهي.. ارفعني قليلا، دعني أتكىء على الحائط.. "
- " لا تتحركي كثيراً، دعيني أنادي أم عمر.. "
- " أسرع... أسرع.. يا رب الكون ! "
هرول إلى الخارج، وحين صفق وراءه الباب سمع صوت الوليد، فعاد وألصق أذنه فوق خشب الباب..
صوت الشط يهدر، والبحارة يتصايحون، والسماء تتوهج والطائر الأسود ما زال يحوم على غير هدى.
قام ونفض التراب عن ملابسه ووقف يحدق إلى النهر..
أحس، أكثر من أي وقت مضى، بأنه غريب وصغير، مرر كفه فوق ذقنه الخشنة ونفض عن رأسه كل الأفكار التي تجمعت كجيوش زاحمة من النمل.
وراء هذا الشط، وراءه فقط ، توجد كل الأشياء التي حرمها.
هناك توجد الكويت.. الشيء الذي لم يعش في ذهنه إلا مثل الحلم والتصور يوجد هناك.. لا بد أنها شيء موجود، من حجر وتراب وماء وسماء، وليست مثلما تهوم في رأسه المكدود.. لا بد أن ثمة أزقة وشوارع ورجالاً ونساء وصغاراً يركضون بين الأشجار.. لا.. لا.. لا توجد أشجار هلاك.. سعد، صديقه الذي هاجر إلى هناك واشتغل سواقا وعاد بأكياس من النقود قال إنه لا توجد هناك أية شجرة.. الأشجار موجودة في رأسك يا أبا قيس.. في رأسك العجوز التعب يا أبا قيس.. عشر أشجار ذات جذوع معقدة كانت تساقط زيتونا وخيرا كل ربيع.. ليس ثمة أشجار في الكويت، هكذا قال سعد.. ويجب أن تصدق سعدا لأنه يعرف أكثر منك رغم أنه أصغر منك.. كلهم يعرفون أكثر منك.. كلهم. في السنوات - العشر الماضية لم تفعل شيئاً سوى أن تنتظر.. لقد أحتجت إلى عشر سنوات كبيرة جائعة كي تصدق أنك فقدت شجراتك وبيتك وشبابك وقريتك كلها.. في هذه السنوات الطويلة شق الناس طرقهم وأنت مقع ككلب عجوز في بيت حقير.. ماذا تراك كنت تنتظر؟ أن تثقب الثروة سقف بيتك.. بيتك؟ إنه ليس بيتك.. رجل كريم قال لك: أسكن هنا ! هذا كل شيء وبعد عام قال لك أعطني نصف الغرفة، فرفعت أكياسا مرقعة من الخيش بينك وبين الجيران الجدد..
وبقيت مقعيا حتى جاءك سعد وأخذ يهزك مثلما يهز الحليب ليصير زبداً.. "
- " إذا وصلت إلى الشر بوسعك أن تصل إلى الكويت بسهولة، البصرة مليئة بالأدلاء الذين يتولون تهريبك إلى هناك عبر الصحراء.. لماذا لا تذهب؟ "
سمعت زوجته كلام سعد فنقلت بصرها بين وجهيهما وأخذت تهدهد طفلها من جديد.
- " إنها مغامرة غير مأمونة العواقب؟ "
- " غير مأمونة العواقب؟ ها ! ها ! أبو قيس يقول، غير مأمونة العواقب.. ها ها " !
ثم نظر إليها وقال:
- " أسمعت ما يقول زوجك؟ غير مأمونة العواقب ! كأن الحياة شربة لبن ! لماذا
لا يفعل مثلنا ؟ هل هو أحسن؟..
لم ترفع بصرها إليه، وكان هو يرجو أن لا تفعل..
- " أتعجبك هذه الحياة هنا؟ لقد مرت عشر سنوات وأنت تعيش كالشحاذ..
حرام ! ابنك قيس، متى سيعود للمدرسة؟ وغدا سوف يكبر الآخر.. كيف ستنظر إليه وأنت لم... "
- " طيب ! كفى ! "
- لا ! لم يكف ! حرام ! أنت مسؤول الآن عن عائلة كبيرة، لماذا لا تذهب إلى هناك . ما رأيك أنت ؟
زوجته ما زالت صامتة وفكر هو: " غدا سيكبر هو الآخر.. " ولكنه قال:
- " الطريق طويلة، وأنا رجل عجوز ليس بوسعي أن أسير كما سرتم أنتم.. قد أموت .. "
لم يتكلم أحد في الغرفة زوجته ما زالت تهدهد طفلها ، وكف سعد عن الإلحاح ولكن الصوت ! انفجر في رأسه هو :
- " تموت؟ هيه ! من قال أن ذلك ليس أفضل من حياتك الآن ؟ منذ عشر سنوات وأنت تأمل أن تعود إلى شجرات الزيتون العشر التي امتلكتها مرة في قريتك... قريتك ! هيه ! "
عاد فنظر إلى زوجته :
- " وماذا ترين يا أم قيس؟ "
حدقت إليه وهمست:
" كما ترى أنت.. "
" سيكون بوسعنا أن نعلم قيس.. "
- " نعم " ..
- " وقد نشتري عرق زيتون أو اثنين.. "
- " طبعاً ! "
- " وربما نبني غرفة في مكان ما.."
- " أجل "
- " إذا وصلت.. إذا وصلت.."
كف، ونظر قليلا ثم ستنساب دمعة واحدة تكبر رويداً رويداً ثم تنزلق فوق خدها المغضن الأسمر.. حاول أن يقول شيئاً، ولكنه لم يستطع، كانت غصة دامعة تمزق حلقه.. غصة ذاق مثلها تماما حين وصل إلى البصرة وذهب إلى دكان الرجل السمين الذي يعمل في تهريب الناس من البصرة إلى الكويت، وقف أمامه حاملا على كتفيه كل الذل وكل الرجاء اللذين يستطيع رجل عجوز أن يحملهما.. وكان الصمت مطبقاً مطنا حين كرر الرجل السمين صاحب المكتب:
- " إنها رحلة صعبة، أقول لك، ستكلفك خمسة عشر ديناراً ".
- " وهل تضمن أننا سنصل سالمين؟
- " طبعاً ستصل سالماً، ولكن ستتعذب قليلا، أنت تعرف، نحن في آب الآن، الحر شديد والصحراء مكان بلا ظل.. ولكنك ستصل.."
كانت الغصة ما تزال في حلقه، ولكنه أحس أنه إذا ما أجل ذلك الذي سيقوله فلن يكون بوسعه أن يلفظه مرة أخرى:
- " لقد سافرت آلافا من الأميال كي أصل إليك، لقد أرسلني سعد، أتذكره؟ ولكنني لا أملك إلا خمسة عشر ديناراً، ما رأيك أن تأخذ منها عشرة وتترك الباقي لي؟ "
قاطعه الرجل:
- " إننا لا نلعب.. ألم يقل لك صديقك أن السعر محدود هنا؟ إننا نضحي بحياة الدليل من أجلكم.. "
- " ونحن أيضا نضحي بحياتنا.. "
- " إنني لا أجبرك على هذا "
- " عشرة دنانير؟ "
- " خمسة عشر ديناراً.. ألا تسمع؟ "
لم يعد بوسعه أن يكمل، كان الرجل السمين الجالس وراء كرسيه، المتصبب عرقاً، يحدق إليه بعينين واسعتين وتمني هو لو يكف الرجل عن التحديق، ثم أحس بها، ساخنة تملأ مؤقه وعلى وشك أن تسقط.. أراد أن يقول شيئاً لكنه لم يستطع، أحس أن رأسه كله قد امتلأ بالدمع من الداخل فاستدار وانطلق إلى الشارع، هناك بدأت المخلوقات تغيم وراء ستار من الدمع. اتصل أفق النهار بالسماء وصار كل ما حوله مجرد وهج أبيض لا نهائي. عاد، فارتمى ملقيا صدره فوق التراب الندي الذي أخذ يخفق تحته من جديد.. بينما انسابت رائحة الأرض إلى أنفه وانصبت في شرايينه كالطوفان.
أسعد
وقف أسعد أمام الرجل السمين صاحب المكتب الذي يتولى تهريب الناس من البصرة إلى الكويت ، ثم انفجر :
- خمسة عشر ديناراً سأدفعها لك ؟ .. لا بأس ولكن بعد أن أصل وليس قبل ذلك قط ..
حدق إليه الرجل من وراء جفنيه السمينين وسأل ببلاهة :
- لماذا ؟
- لماذا ؟ ها ! لأن الدليل الذي سترسلونه معنا سوف يهرب قبل أن نصل إلى منتصف الطريق ! خمسة عشر ديناراً ، لا بأس .. ولكن ليس قبل أن نصل ..
طوى الرجل أوراقا صفراء أمامه وقال بلؤم :
- أنا لا أجبرك على أي شيء .. أنا لا أجبرك .
- ماذا تعني ؟
- أعني أنه إذا لم تعجبك شروطنا فبوسعك أن تستدير ، وتخطو ثلاث خطوات ، وستجد نفسك في الطريق .
الطريق ! .. أتوجد بعد طرق في هذه الدنيا ؟ ألم يمسحها بجبينه ويغسلها بعرقه طوال أيام وأيام ، كلهم يقولون ذلك : ستجد نفسك على الطريق ! .. قال له أبو العبد الذي هربه من الأردن إلى العراق :
- " ما عليك إلا أن تدور حول الإتشفور ، لا بأس أن تضرب قليلا إلى الداخل . أنت ما زلت فتى وبوسعك أن تتحمل قليلا من القيظ .. ثم عد ، وستجدني بانتظارك على الطريق ..
- " ولكن هذا لم يكن ضمن الشروط .. لقد قلت لي ، ونحن في عمان أنك ستأخذني إلى بغداد ودفعت لك عشرين دينارا كاملا .. لم تقل لي أنني سأدور حول الإتشفور .. "
وضرب أبو العبد جناح سيارته المغبر فعلمت أصابعه الخمسه وبان من تحتها لون السيارة الأحمر الفاقع .. كانت السيارة الضخمة واقفه إلى جانب البيت قرب جبل عمان حين تفاوض معه ، وهو يذكر تماما كل الشروط التي قيلت :
- " إنها مهمة صعبة ، وسوف يأخذونني إلى السجن لو أمسكوك معي ، ورغم ذلك فسوف أقدم لك خدمة كبرى لأنني كنت أعرف والدك ، رحمه الله .. بل إننا قاتلنا سوية في الرملة منذ عشر سنوات .. "
صمت أبو العبد قليلا .. كان قميصه الأزرق ينضح بالعرق وأعطاه وجهه الحاد شعورا بأنه أمام واحد من أولئك الرجال الذين يعتقدون أن اجتراح معجزة ما هو واجب من واجبات رب العائلة :
- " سأخذ منك عشرين دينارا .. وسوف تجد نفسك في بغداد "
- " عشرون ديناراً ؟ "
- " نعم ! وعليك أيضا أن تساعدني طوال الطريق . سنبدأ بعد غد ، على أن أشحن سيارة صغيرة لرجل ثري في بغداد كان قد أمضى شطرا من الصيف في رام الله ثم أراد أن يعود إلى بغداد بالطائرة .."
- " ولكن .. عشرين دينار ؟ "
نظر إليه أبو العبد بإلحاح ، ثم انفجر :
- " إنني أنقذ حياتك بعشرين ديناراً .. أتحسب أنك ستمضي عمرك مختفيا هنا ؟ غدا يلقون القبض عليك .."
- " ولكن من أين .. من أين أحضر لك عشرين ديناراً ؟ "
- " استدن .. استدن ، أي صديق بوسعه أن يعطيك عشرين دينارا إذا عرف بأنك ستسافر إلى الكويت .. "
- " عشرون .. عشرون .. "
- " إلى بغداد ؟ "
- مباشر !
ولكنه كذب عليه ! استغل براءته وجهله ، خدعه ، أنزله من السيارة ، بعد رحلة يوم قائظ ، وقال له أن يدور حول الإتشفور كي يتلافى الوقوع في أيدي رجال الحدود ، ثم يلتقيه على الطريق !
لكنني لا أعرف هذه المنطقة .. أتفهم أنت معنى أن أسير كل هذه المسافة حول الإتشفور ، في عز الحر ؟
ضرب أبو العبد جناح سيارته المغبرة مرة أخرى ، كانا واقفين منفردين قبل ميل من الإتشفور وصاح :
- ماذا تعتقد ؟ أن اسمك مسجل في كل نقاط الحدود ، إذا رأوك معي الآن ، لا جواز سفر ولا سمة مرور .. ومتآمر على الدولة ماذا تعتقد أنه سيحدث ؟ كفاك دلالا .. أنك قوي كالثور بوسعك أن تحرك ساقيك .. سألاقيك وراء الإتشفور على الطريق .
كلهم يتحدثون عن الطرق .. يقولون : تجد نفسك على الطريق ! وهم لا يعرفون من الطريق إلا لونها الأسود وأرصفتها ! وها هو الرجل السمين ، المهرب البصراوي يكرر القصة نفسها .
- ألا تسمع ؟ أنني رجل مشغول جدا ً ، قلت لك : خمسة عشر دينار وسأوصلك إلى الكويت ، طبعا عليك أن تمشي قليلا ولكنك فتى في غاية القوة ، لن يضرك هذا .
- ولكن لماذا لا تصغي إلى ؟ قلت لك أنني سأعطيك المبلغ إذا ما وصلنا إلى الكويت .
- ستصل ! ستصل !
- كيف ؟
- إنني أقسم لك بشرفي أنك ستصل إلى الكويت !
- تقسم بشرفك ؟
- أقسم لك بشرفي إنني سألتقيك وراء الإتشفور! ما عليك إلا أن تدور حول تلك المنطقة الملعونة وستجدني بانتظارك !
لقد دار دورة كبيرة حول الإتشفور ، كانت الشمس تصب لهبا فوق رأسه ، وأحس فيما كان يرتقي الوهاد الصفر ، أنه وحيد في كل هذا العلم .. جرجر ساقيه فوق الرمل كما لو أنه يمشي على رمل الشاطئ بعد أن سحب زورقا كبيرا امتص صلابة ساقيه .. اجتاز بقاعا صلبة من صخور بنية مثل الشظايا ثم صعد كثبانا واطئة ذات قمم مسطحة من تراب أصفر ناعم كالطحين .. تراهم لو حملوني إلى معتقل الجفر الصحراوي .. هل سيكون الأمر أرحم مما هو الآن ؟ عبث .. الصحراء موجودة في كل مكان ، كان أبو العبد قد أعطاه كوفية لف بها رأسه ، ولكنها لم تكن ذات جدوى في رد اللهب بل خيل إليه أنها آخذة ، هي الأخرى ، في الاحتراق .. كان الأفق مجموعة من الخطوط المستقيمة البرتقالية ، ولكنه كان قد عقد عزمه على المسير بجد .. وحتى حينما انقلب التراب إلى صفائح لامعة من ورق أصفر ، لم يتباطأ .. وفجأة بدأت الأوراق الصفر تتطاير فانحنى يلمها :
شكرا..شكرا.. إن هذه المروحة الملعونة تطير الأوراق من أمامي، ولكن دونها ليس بوسعي أن أتنفس.. ها! ماذا قررت؟.
- هل أنت متأكد من أن الدليل الذي سترسله معنا لن يهرب؟
كيف يهرب أيها الغبي؟ ستكونون أكثر من عشرة أشخاص.. لن يكون بوسعه أن يهرب منكم ..
- وإلى أين سيوصلنا؟
حتى طريق الجهرة، وراء المطلاع، وهناك ستكونون داخل الكويت..
هل سنمشي كثيرا؟.
- ست أو سبع ساعات فقط...
بعد أربع ساعات وصل إلى الطريق، كان قد خلف الإتشفور وراءه، وكانت الشمس قد سقطت وراء التلال البنية إلا أن رأسه كان ما يزال يلتهب وخيل إليه أن جبينه يتصبب دماً.. لقد اقتعد حجرا وألقى بصره بعيدا إلى رأس الطريق الأسود المستقيم، كان رأسه مشوشا تخفق فيه آلاف الأصوات المتشابكة ، وبدا له أن بروز سيارة كبيرة حمراء في رأس تلك الطريق أمر خيالي وسخيف .. وقف، حدق إلى الطريق من جديد، لم يكن بوسعه أن يرى بوضوح بعد ، تراه الغسق أم العرق؟.. كان رأسه ما يزال يطن مثل الخلية وصاح بملء رئتيه :
- أبو العبد .. يلعن أبوك.. يلعن أصلك..
- ماذا قلت ؟
- أنا ؟ لا شيء.. متى ستبدأ الرحلة؟
- حال يصير عددكم عشرة.. أنت تعرف، ليس بوسعنا أن نرسل دليلاً مع كل واحد منكم ، ولذلك فنحن ننتظر حتى يرتفع العدد إلى عشرة أشخاص ونرسل معهم دليلا واحداً.. هل ستعطيني النقود الآن؟
- شد على النقود في جيبه وفكر: سوف يكون بوسعي أن أرد لعمي المبلغ في أقل من شهر.. هناك في الكويت يستطيع المرء أن يجمع نقودا في مثل لمح البصر..
لا تتفاءل كثيرا، قبلك ذهب العشرات ثم عادوا دون أن يحضروا قرشاً.. ورغم ذلك سأعطيك الخمسين ديناراً التي طلبتها، وعليك أن تعرف أنها جنى عمر..
- إذن لماذا تعطيني النقود إذا كنت متأكدا من أنني لن أعيدها لك؟
- أنت تعرف لماذا.. ألست تعرف؟ إنني أريدك أن تبدأ.. أن تبدأ ولو في الجحيم حتى يصير بوسعك أن تتزوج ندى.. إنني لا أستطيع أن أتصور ابنتي المسكينة تنتظر أكثر هل تفهمني؟
أحس الإهانة تجترح حلقه ورغب في أن يرد الخمسين ديناراً لعمه يقذفها بوجهه بكل ما في ذراعه من عنف وفي صدره من حقد، يزوجه ندى ! من الذي قال له إنه يريد أن يتزوج ندى؟ لمجرد أن أباه قرأ معه الفاتحة حين ولد هو وولدت هي في يوم واحد؟ إن عمه يعتبر ذلك قدراً، بل إنه رفض مئة خاطب قدموا ليتزوجوا ابنته، وقال لهم إنها مخطوبة ! يا إله الشياطين ! من الذي قال له أنه يريد أن يتزوجها؟ من قال له أنه يريد أن يتزوج أبداً ؟ وها هو الآن يذكره مرة أخرى ! يريد أن يشتريه لابنته مث لما يشرى كيس الروث للحقل، شد على النقود في جيبه وتحفز في مكانه.. ولكنه حين لمسها هناك، في جيبه، دافئة ناعمة، شعر بأنه يقبض على مفاتيح المستقبل كله، فلو أتاح الآن لحنقه أن يسيطر عليه ليرجع النقود إلى عمه، إذن لما تيسرت له قط فرصة الحصول على خمسين دينار بأي شكل من الأشكال.. هدأ غضبه مطبقا فمه بأحكام وشد أصابعه على النقود الملتفة في جيب بنطاله، ثم قال:
- لا، لا، سأسلمك النقود حالما تجهز الرحلة تماماً.. سوف أراك مرة كل يوم.. إنني أنزل في فندق قريب..
ابتسم الرجل السمين، ثم تطاولت ابتسامته فانفجر ضاحكاً بصخب:
من الخير لك أن لا تضيع وقتك يا بني .. كل المهربين يتقاضون نفس السعر، نحن متفقون فيما بيننا.. لا تتعب نفسك.. وعلى أي حال: احتفظ بنقودك حتى تجهز الرحلة، أنت حر.. ما اسم الفندق الذي تنزل فيه؟
- فندق الشط..
- آه ! فندق الجرذان !
نط جرذ الحقل عبر الطريق فلمعت عيناه الصغيرتان في ضوء السيارة وقالت الفتاة الشقراء لزوجها المنهمك بالسياقة:
- إنه ثعلب ! أرأيته؟
قال الزوج الأجنبي ضاحكاً:
- أف منكن أيتها النساء ! تجعلن من الجرذ ثعلبا !
كانا قد التقطاه بعد الغروب بقليل بعد أن لوح لهما وهماً في سيارتهما الصغيرة، فلما أوقف الزوج السيارة، أطل هو من النافذة.. كان يرجف من فرط البرد، وكانت الزوجة خائفة منه.. إلا أنه جمع في ذهنه ما تعلمه من اللغة الإنكليزية وقال:
- لقد اضطر صديقي أن يعود إلى الإتشفور بالسيارة وتركني..
قاطعه الرجل:
- لا تكذب.. أنت هارب من هنالك، لا بأس، اصعد.. سأوصلك إلى بعقوبة.
كان المقعد الخلفي مريحا وناولته الفتاة بطانية التفح بها وكان لا يستطيع أن يعرف بالضبط، هل هو يرجف بسبب البرد الصحراوي، أم بسبب الخوف، أم بسبب التعب.. وقال الرجل:
- هل مشيت كثيراً؟
- لست أدري.. ربما أربع ساعات..
- لقد تركك الدليل.. أليس كذلك؟ إن ذلك يحدث دائما.
التفتت إليه الفتاة وسألت:
- لماذا تهربون من هناك؟
- أجابها زوجها:
إنها قصة طويلة.. قل لي.. هل تجيد قيادة السيارات؟
- نعم
- بوسعك أن تأخذ مكاني بعد أن تستريح قليلا.. قد أستطيع أن أساعدك على عبور مركز الحدود العراقي... سنصل هناك في الثانية بعد منتصف الليل، وسيكون المسؤولون نياما..
لم يكن يستطيع أن يركز رأسه على محور واحد، كان مشوشا ولم يكن بوسعه أن يهتدي إلى أول طريق التساؤلات كي يبدأ، ولذلك حاول جهده أن ينام ولو لنصف ساعة..
- من أين أنت؟.
- من فلسطين.. من الرملة.
- أوف .. أن الرملة بعيدة جدا.. قبل إسبوعين كنت في زيتا.. أتعرف زيتا؟ لقد وقفت أمام الأسلاك الشائكة، فاقترب مني طفل صغير وقال بالإنكليزية أن بيته يقع على بعد خطوات وراء الأسلاك..
- هل أنت موظف؟
- موظف ؟ ها ! أن الشيطان نفسه تأبي عليه براءته أن يكون موظفاً.. كلا يا صديقي .. أنا سائح..
- " انظر، إنه ثعلب آخر.. ألم تر إلى عينيه كيف تتقدان؟ "
- " يا عزيزتي إنه جرذ.. جرذ.. لماذا تصرين على أنه ثعلب؟ هل سمعت ما حدث أخيرا هناك، قرب زيتا؟. "
- " كلا .. ماذا حدث؟ "
- " الشيطان لا يعرف ماذا حدث ! هل ستستقر في بغداد؟ "
- " كلا "
- " أوف ! إن هذه الصحراء مليئة بالجرذان، تراها ماذا تقتات؟ "
أجاب بهدوء:
- جرذانا أصغر منها.. "
قالت الفتاة :
- حقا ؟ إنه شيء مرعب! الجرذ نفسه حيوان مرعب كريه... "
قال الرجل السمين صاحب المكتب:
- " الجرذ حيوان كريه.. كيف بوسعك أن تنام في ذلك الفندق؟ "
- " أنه رخيص ".
نهض الرجل السمين صاحب المكتب واقترب منه ثم وضع ذراعه الثقيلة فوق كتفيه :
- تبدو متعبا أيها الفتى.. ماذا حدث ؟ هل أنت مريض؟ "
- " أنا ؟ كلا ! "
- " إذا كنت مريضا قل لي .. قد أستطيع أن أساعدك. لي كثير من الأصدقاء يعلمون أطباء .. واطمئن ، لن تدفع شيئا ..
- بارك الله فيك ، ولكنني تعب قليلا .. هذا كل ما في الأمر .. هل سيتأخر إعداد الرحلة ؟
- " كلا ، نحمد الله أنكم كثر .. خلال يومين ستجد نفسك على الطريق .. "
أدار ظهره واتجه إلى الباب ، ولكن قبل أن يتجازه سمع الرجل السمين يقهقه من وراء كتفيه :
- " .. لكن حاذر أن تأكلك الجرذان قبل أن تسافر .. "
إرسال تعليق