العراق

        يبدو رمضان في العراق قبل قدومه بأيام عديدة، فتكون الحركة غير اعتيادية في الأسواق والمحلات، وباستطاعة المرء أن يشاهدها، لتدل على مجيئه الكريم. ويُعد سوق الشورجة القديم في قلب العاصمة بغداد أكبر سوق تجاري في العراق حيث يشهد إقبال الناس عليه من كل مدن ومحافظات العراق ليتبضعوا ويشتروا لوازم شهر الصيام من مواد تموينية مثل العدس والماش والحبيِّة، والنومي بصرة والقمر الدين، والطرشانة، والحمص، إضافة إلى شراء اللحوم بمختلف أنواعها.
    وتتميز موائد رمضان بالإعداد المُبكِّر لبعض الأكلات الخاصة بالشهر قبل حلوله،  لكي نتمكن من تحقيق التنويع المطلوب على موائدنا وهناك أطباق أساسية تسجل حضورها في المائدة مثل شوربة العدس والماش وهناك أيضاً الطبق العراقي الشهير الدولمة - الملفوف- كما أنّ جميع الموائد تقريباً لا تخلو من طبق التشـريب وهو خبز مغطس بمـرقة اللحم أو الدجاج. وهناك طبق الكبة بأنواعها كبة الحلب وكبة البرغل وكبة حامض الشلغم وهي أكلة عراقية مشهورة حيث تطبخ الكبة مع حساء يتكون من الشلغم والسلق والرز وتقدم الكبة مع حسائها كأحد أهم الأطعمة العراقية التي تلقى القبول من جميع أفراد الأسرة.
    إنّ من أبرز الحلويات التي تحرص النساء العراقيات على إعدادها في شهر رمضان هو طبق حلاوة النشأ وهي حلاوة تناسب الصائم لأنها خفيفة على المعدة، وحلاوة الشعرية التي تحشى بالجبن أو المحلبي إضافة إلى حلاوة الجزر، مع تقديم أنواع  عديدة من الشربت - العصير- كشربت أو القمر الدين أو الزبيب أو التمر هندي أو البرتقال. 
   وتحرص العوائل العراقية على أن يذهب الأب مع أولاده إلى المسجد القريب من سكناهم، وهم يحملون صينية مليئة بالطعام لتوضع على مناضد في حديقة المسجد، لتفطير الصائمين.
   كثيراً ما ينتظر الأطفال سماع إطلاق مدفع الإفطار عبر الإذاعة المسموعة ومن الشاشة الصغيرة وانتظار صوت المؤذن من أحد المساجد القريبة ليبدءوا تناول التمر وشرب قدح من اللبن ثم صلاة المغرب في المسجد، ويُسمى المدفع بـالطُوب، ويوجد نموذج له اليوم قرب منطقة الباب المُعظّم في بغداد، وسُميَّ أحد أبواب مدينة الموصل  باسم باب الطُوب. ويحكى أنّ أحد الباشوات الأتراك أيام الاحتلال العثماني للعراق كان جالساً لانتظار أذان المغرب فسمع صوت المدفع ممتزجاً مع صوت المؤذن، وتساءل عمّا حدث فأُخبِرَ بأنّ بعض الجنود القدّاحين في المُعسكر القريب من داره كان يُصلح مدفعاً مُعطلاّ وأراد أن يجربه فأطلق قنبلة لاختبار مدى صلاحيته للعمل، واستحسن الباشا الفكرة وأمر بأنْ يستمروا بإطلاق المدفع عند موعد أذان المغرب في كل أيام رمضان. ثم صار بعد سنوات قريبة أن يوضع المدفع قرب شاطئ نهر دجلة في بغداد لتطلق الصوت ذاته ورؤية اللهب الخارج جرّاء احتراق البارود في داخله، أي من دون أية قذيفة بقصد أن يسمع الناس صوت المدفع على امتداد النهر الخالد.
    لقد مارس العراقيون منذ عهود طويلة لعبتيّ المحيبس والصينية التي اشتهرت قبل عقود في أغلب المدن والمحافظات، والمحيبس هو تصغير محبس أي خاتم اليد، ولهذه اللعبة الشعبية لها جذور المتوارثة من جيل الأجداد الذين كانوا يحرصون على الاجتماع في بيت معين بعد تأديتهم لصلاة التراويح، ثم يبدأون بممارستها ويقضون وقاص للتسلية نظراً لانعدام وسائل اللهو البريء في الماضي قبل ظهور الإذاعة المسموعة والمرئية، ولازالت لعبة المحيبس حتى يومنا هذا تقاوم كل تطور كونها من التراث المحلي العراقي و لذا تصرُّ على الحضور في كل المجالس الرمضانية ويستمر وقتها إلى قبيل إطلاق مدفع السحور.
   ومن قواعد اللعبة أن اللاعبين الذين يشكلون فيما بينهم فريقاً يُعرف باسم المنطقة التي يسكنونها فهؤلاء يقومون بدعوة فريق آخر. وتقدم للفريق المنافس الحلويات – البقلاوة والزلابية- ويودعهم الفريق الضيف بكل حفاوة، وبانتهاء اللعبة تقدم للفريق المنافس الحلويات ويودعهم الفريق المضيف بنفس الحفاوة التي استقبلهم بها· وتسير اللعبة على أساس وجود فريقين يتكون الواحد من 20 إلى 100 لاعب، وإدارة اللعب هي الخاتم، ومنه اشتق اسم اللعبة وأساس قيامها هي اكتشاف مكان الخاتم عند الفريق المنافس، ويضم كل فريق لاعبين أساسيين هما اللذان يستخرجان الخاتم والباقون ما عليهم سوى الاحتفاظ به.
    وتبدأ لعبة المحيبس بعد تقابل الفريقين حيث يقوم أحد الفريقين بأخذ الخاتم إما بطريقة القرعة أو شراء الخاتم بالنقاط، فالفريق الأول يطلب من الثاني الاحتفاظ بالخاتم مقابل منح عشر نقاط له، وهكذا يتم الاتفاق على بقاء الخاتم مقابل عدد من النقاط يجري التفاوض عليها بين كلا الفريقين، وتعلن بداية اللعبة حيث يقوم شخص من الفريق الذي يحتفظ بالخاتم بإخفائه بطريقة سرية لدى أعضائه، بعدها يصيح بصوت عال بات أي أن الخاتم استقر في إحدى الأيادي، وهنا يأتي دور لاعب من الفريق المنافس الثاني الذي يمرر نظراته على أيدي الفريق الخصم وينتقي أشخاصاً يشك بوجود الخاتم معهم ويستثنيهم من الأمر الذي يصدره لبقية أعضاء الفريق بأن يفتح الجميع أيديهم، وفي هذه المرحلة يجب ألاّ يظهر الخاتم مع أحد من المشاركين، بل يبقى مستقراً لدى أحد الذين استثناهم اللاعب المحترف من الفريق، ثم تأتي المرحلة الثانية من اللعبة الشعبية وهي مرحلة استخراج الخاتم من الأيادي القليلة المغلقة والتي تستغرق وقتاً طويلاً حسب ذكاء اللاعب وتمرسه، وما أن يكتشف اللاعب مكان الخاتم حتى يحتفظ به لفريقه وتبدأ نفس المرحلة ولكن بتبادل الأدوار. وتتخلل فترة الاستراحة بين لاعبي الفريقين تقديم فقرات  غنائية تراثية يؤدونها بأنفسهم أو يستضيفون أحد مغنيّ المقام العراقي ليؤدي لهم ما يُسمى بالمربعات. 
     أما لعبة الصينية تتطلب وجود  صينية وفناجين نحاسية وتوضع الشيرة - السكر المذاب - في القاعدة الدائرية لها لغرض تثبيت الفناجين بالمقلوب، وتبدأ اللعبة عقب صلاة التراويح بمشاركة فريقين فيضع أعضاء الفريق الأول خاتماً تحت أحد الفناجين ثم يدوِّر الصينية من أسفلها وهو يمسكها من وسطها بيد واحدة حتى لا يعرف لاعبو الفريق الخصم أين وضعها وأخفاها. وهنا يقوم أمهر لاعبي الفريق الثاني بمحاولة كشف الفناجين بعد نظرات طويلة عليها، وعندما يتم الكشف عن الفنجان الموضوع فيه الخاتم فسرعان ما تعلو الأصوات وتحتسب نقطة للفريق، ويستمر هذا اللعب حتى موعد السحور، ويتخلله تناول اللاعبين لصواني الحلويات والشربت، وبوجود عدد كبير من المشجعين الكبار والصغار على حدٍّ سواء. 
    ومن العادات التي يحرص الأولاد على ترديدها في ليالي رمضان الكريم، هي  "الماجينة"،  وهي لعبة غنائية مختلطة، يمارسها أطفال من سن 8-12 سنة. وتبدأ منذ منتصف شهر شعبان، وتسمى بالماجينة في وسط العراق، وبكركيعان في جنوبه خاصة في محافظة البصرة. وتقوم مجموعة من الأطفال وعقب تناول طعام الإفطار بالتجمع في الأحياء، ويحمل أكبرهم عُمراً كيساً من القماش، ليدور مع زملائه على بيوت الحي أو الطرف، ويبدأ أحد الأطفال بطرق أحد أبواب الجيران، ووينشدون مع الآخرين بصوت واحد:
"ماجينة ياماجينة
حلُّوا الجِيس وأنطونه
تنطونه لو ننطيكم
 بيت مكة أنوديكـم
هاي مكة المعمورة 
مبنيّة إبجص ونورة
  وإذا طال وقوف الأطفال أمام البيت، ولم يخرج إليهم أحد منهم ليمنحهم شيء فإنّهم ما يلبثوا أن يرفعوا صوتهم منادين بقولهم:
يا أهل السطوح:
 تنطونا لو نروح"
   وما إنْ تسمع ربّة المنزل هذا النداء الطفولي، حتى تخرج إليهم حاملة بيديها أو بوساطة وعاء كمية من الحلويات أو النقود لتوزعها عليهم، وعندها يتسلّم كل واحد نصيبه من الهدايا، وهنا يقفون أمام البيت نفسه، ليرددوا باسم صاحبه، فإذا كان ابن صاحب الدار اسمه محمد، فإنّهم يصغرون اسمه إلى حمودي، ويرددون معاً: 
الله يخلِّي حمودي… آمين
ابجاه الله وإسماعيل… آمين 
    وبعد ذلك ينتقل الأطفال جميعاً ليطرقوا باباً آخر في الحيّ، أو الدربونة- الزقاق- ولينهوا جولتهم في هذا المساء الرمضاني ثم يعودون إلى بيوتهم محملين بالهدايا الوافرة من الجيران.
    وكما اختفت ظاهرة أبو طبيلة أو المسحراتي في أغلب المدن العربية، فإنّها اختفت أيضاً في المدن العراقية في العقود الأخيرة، ولكنّ الرجل الذي كان يوقظ الصائمين وهو يجوب طرقات المدن والأرياف مازالت صورته في الذاكرة الجمعية. ونشير هنا إلى أنّ ظاهرة التسحير قد عُرفت  في العراق منذ أيام الخلافة العباسية في بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية، فكان ابن نقطة هو الشخص الذي يتولّى إيقاظ الخليفة العباسي الناصر لدين الله في بغداد دار السلام ليتناول طعام السحور في أيام رمضان، وعُرِفَ التسحير في ذلك العصر بـالقوما من قول المُسحِّر:
 قوما تسحر قوما
   ولما مات المسحراتي ابن نقطة ذهب ابنه وكان له صوت جميل ووقف تحت قصر الخليفة الناصر لدين الله وأنشده قوله:
           يا سيد السادات 
          لك في الكرم آيات
          أنا ابن أبو نقطة 
          تعيش أبويا مات
    وأُعْجِبَ الخليفة العباسي بحسن بيانه وشدة إيجازه، فأحضره وخلع عليه الهبات ومنحه راتباً ضعف ما كان يعطيه لأبيه.  
     لقد اقتصرت مناسبات الاحتفالات الشعبية العامة في الماضي في مدن وقرى العراق على الأعياد الدينية. وكانت تلك الاحتفالات غالباً ما تأخذ طابعها الشعبي في عموم كل المدن. وقد ابتدع العراقيون لإضفاء البهجة والفرح على حياتهم عادة - الكَسْلا - جمع كَسْلَة وهي التوقف عن العمل والتي كانت تعقب تلك الأعياد الدينية، والتي يراد منها إطالة أمدها، والتمتع بمزيد من المباهج والاحتفالات. وكانت الكَسْلات، وتنطوي على زيارات جماهيرية واسعة، تشمل عامة الناس إلى بعض الأماكن الأثرية والسياحية وبعض المزارات في العاصمة بغداد، أو في المحافظات العراقية الأخرى التي تضم بعض المعَالِم التاريخية والدينية والأثرية لقضاء وقت جميل فيها. 
      وتبدأ الاحتفالات بعيد الفطر في العراق في الساحات العامة التي يتمّ فيها تنصيب المراجيح ودواليب الهواء والفرارات وتهيئتها لركوب الأطفال الذين يقبلون عليها طيلة أيام العيد.  وتقوم النساء بتهيئة وعمل الكِلِيْجَة ، أي المعمول كما يُسمى في بعض الدول العربية، بأنواع حشوها المتعددة، إمّا بالجوز المبروش أو بالتمر أو بالسمسم وإضافة السكر والهيل، وتقدم للضيوف في العيد مع استكان الشاي أبو الهيل إضافة إلى قطع من الحلقوم- أي الرَاحَة أو - مَنّ السَما - المنّ والسلوى - أو المسقول، كذلك تعمل النساء نوعاً  آخر من الكِلِيْجَة من دون حشوّ يطلق عليه الخِفِيِفِي على هيئة أقراص دائرية التي يضاف إليها قليل من السكر ويدهن بصفار البيض ويخبز إمّا بالفرن أو بالتنور.
    وتتم الزيارات العائلية عقب تناول فطور صباح الأول من أيام عيد الفطر والمكوّن من القيمر- القشطة- والمربى، أو الكاهي، أو الجبن الحلو، أو البيض المسلوق، ويذهب الأهل لزيارة بيت الجد والجدة والبقاء عندهم لتناول طعام الغذاء، ومن ثم القيام بزيارة الأقارب، بعدها تذهب العائلة إلى بيت الجدّ والجدّة لمعايدتهما والبقاء عندهم لتناول طعام الغذاء، ثم يغادرون منزلهما لمعايدة الأقارب والأرحام ومن ثم الأصدقاء، ويحصل الأطفال على العيدية خلال هذه الزيارات من الأب  أولاً ومن الأخ الأكبر، ومن الجد والأعمام والأخوال والأقارب الآخرين. بعدها ينطلق الصغار إلى ساحات الألعاب لركوب دواليب الهواء والمراجيح والفرارات ولشراء بعض الألعاب، وهم يؤدون بعض الأغنيات الخاصة وسط احتفالية طفولية بريئة للجميع. وكان الأطفال في العراق يتغنون في أيام العيد بأغنية: ياطير غنِّي غنّي، وهي لعبة جماعية، ويرددون بأصوات عالية:
      يا طير غنِّي غنِّي
     على جناحك طيّرنِّي
     وديني للبساتين
     أشرب ماي
     طق.. طق.. طق
     آكل تين
     طق.. طق.. طق
     فرِّحني فرحة العيد
     لبِّسني ثُوبي الجديد
     كُلما يريد
     طق.. طق.. طق
     بابا.. يريد
     طق.. طق.. طق

Post a Comment

Previous Post Next Post