موقف الشريعة الإسلامية من شروط التنفيذ على المال بطريق الحجز ونزع الملكية :
        إن التنفيذ بهذا الطريق أقرب موضوع له عند الفقهاء هو الحجر والتفليس . ومن المُسلَّم به أنه لابُد أن يكون هذا المال حقاً للمدين ويمكن التصرف فيه وأن يكون مما يجوز الحجر فيه ، وهذا ما تُعبِّر عنه النظم الوضعية بأن يكون مما يجوز الحجز عليه. وقد يكون عدم جواز الحجر مطلقاً أو نسبياً كما قد يكون كلياً أو جزئياً ، ولابد من التنبيه هنا إلى أنه إذا أحاط الدين بمال المدين ، وطلب الغرماء الحجر عليه ، وجب على الحاكم تفليسه عند المالكية والشافعية والحنابلة وصاحبي أبي حنيفة وهو المفتى به عند الحنفية ، ولم يخالف في ذلك سوى الإمام أبي حنيفة فقال : إنه لا يُفَلَّس ؛ لأنه كامل الأهلية وفي الحجر عليه إهدار لآدميته ، إلا أن الحاكم يجبره على البيع إذا لم يمكن الإيفاء بدون إجبـار ([1]).
        وقد ذكرت قريباً حالات عدم جواز الحجز على الأموال في النظم الوضعية ، وأنها تنقسم باعتبار سبب تقريرها إلى أربعة أقسام وضربت عليها بعض الأمثلة.
وفيما يلي بيان موقف الشريعة من كل قسم بإيجاز من خلال تلك الأمثلة .
موقف الشريعة الإسلامية من حالات عدم جواز الحجز على الأموال باعتبار سبب تقريرها :
أ  - حالات ترجع إلى طبيعة المال أو الغرض منه. ومن أمثلة ذلك : الاختراع قبل صدور براءته ، وقد علَّل شُرَّاح النظم الوضعية عدم جواز الحجز عليه بأن المخترع قد يرى عدم الإعلان عن اختراعه فينتج عن الحجز على هذا الاختراع وبيعه إساءةٌ لسمعة المخترع ([2]) .
        وأرى تكليف اثنين من أهل الخبرة لمعاينة الاختراع وفحصه ، فإن كان صالحاً للانتفاع منه فإنه يتم تسجيل براءته ومن ثم حجزه وبيعه . وليس في ذلك إساءةٌ لسمعة المخترع وإنما فيه إشهار له وحفظ لحقه وحقوق غرمائه .
        وإنما قلت ذلك تخريجاً على ما ذكره الحنابلة من أن المفلس المحترف يُجبَر على الكسب وإيجار نفسه فيما يليق به من الصنائع ؛ محتجين بأن المنافع تجري مجرى الأعيان في صحة العقد عليها ، فأجبر على العقد عليها ، كما يباع ما له رغماً عنـه ([3]) .
        ومن الأمثلة أيضاً : المال المخصص لغرض النفقة على أقارب المدين ممن هم خارج أسرته .
        والنظم الوضعية قد خالفت في هذه المسألة ما ذهب إليه جمهور الفقهاء الذين يرون عدم وجوب النفقة على المدين في هذه الحالة ما دام معسراً ، وبالتالي يجوز الحجز على هذا المال ([4]) .
ب - حالات ترجع إلى الرغبة في احترام إرادة المتبرع بمال معين .
        ومن أمثلة ذلك : المال الموهوب الذي اشترط واهبه عدم التصرف فيه؛ ضماناً لبقاء غلَّته .
        الأصل في الشريعة الإسلامية أن الهبة تمليك للعين الموهوبة ([5])، وبناءً على ذلك لا يكون من حق الواهب اشتراط عدم التصرف فيها ؛ ومن هذا المنطلق يمكن حجزها وبيعها. إلا أنه قد توجد قرينة تجعل المقصود من الهبة مجرد تمليك المنافع دون العين ، كالعُمرى والرُقبى ([6]) عند بعض الفقهاء ([7]).  وفي هذه الحالة تعتبر من باب العارية ، فلا يمكن حجزها وبيعها حتى ولو لم يشترط الواهب عدم التصرف فيها .
جـ - حالات ترجع إلى الرغبة في رعاية المدين وأسرته ، وهي ما يلي ([8]):
1 - القوت الضروري : يرى المالكية والحنابلة أنه يُترك للمفلس من ماله قدرُ ما يكفيه وعيالَه من القوت الضروري الذي تقوم به البنية . وقال المالكية : تترك له ولزوجاته وأولاده ووالديه النفقة الواجبة عليه بالقدر الذي تقوم به البنية. وهذا إن كان ممن لا يمكنه الكسب ، أما إن كان ذا صنعةٍ يكتسب منها أو يمكنه أن يؤجر  نفسه فلا يترك له شيء . وأضاف المالكية : أنه يترك ذلك له ولمن ذكر قدر ما يكفيهم إلى وقت يُظن بحسب الاجتهاد أنه يحصل له فيه ما تمكن معه المعيشة نحو الشهر ([9]).
        أما عند الشافعية فلا يُترك له من القوت شيء ما عدا قوت يوم القسمة، ولا نفقة عليه أيضاً لقريب ؛ لأنه معسر ، بخلاف حاله قبل القسمة .
        وتسقط نفقة القريب لما بعد القسمة أيضاً عند الحنابلة ([10]) .
2 -  الثياب : اتفق الفقهاء على أنه يُترك للمفلس دست ([11]) من ثيابه ، وقال الحنفية : أو دستان ، ويباع ما عداهما من الثياب .
        وقال الحنفية : يُباع مالا يحتاج إليه في الحال كثياب الشتاء في الصيف .
        وقال المالكية : يُباع ثوبا جمعته إن كثرت قيمتهما ، ويُشترى له دونهما. وهذا القول يقارب ما صَرَّح به الشافعية والحنابلة من أن الثياب إن كانت رفيعة لا يلبس مثله مثلها تُباع ، ويُترك له أقل ما يكفيه من الثياب .
        وقال المالكية والشافعية : يترك لعياله مثل ما يترك له من الملابس ([12]) .
3 - دار السكنى : قال مالك والشافعي -في الأصح عنه - وشريح : تباع دار المفلس ويُكترى له بدلها . واختار هذا ابن المنذر .
        وقال أحمد وإسحاق ، وهو قول عند الحنفية والشافعية : لا تباع داره التي لا غنى له عن سكناها .
        فإن كانت الدار نفيسة بيعت واشتُري له ببعض ثمنها مسكنٌ يبيت فيه ، ويُصرفُ الباقي إلى الغرماء ([13]).
4 - الكتب : يرى الشافعية وبعض المالكية أنه تترك للمفلس الكتب التي يحتاج إليها في العلوم الشرعية إن كان عالماً لا يستغـني عنها. ولكـن المقدم عند المالكية أنها تباع أيضاً ([14]) .
5 - آلات الصانع : قال الحنابلة وبعض المالكية : تترك للمفلس آلة صنعته . ثم قال المالكية من هؤلاء : إنما تترك إن كانت قليلة القيمة كمطرقة الحداد. وقال بعضهم : تباع أيضاً. ونص الشافعية على أنها تباع ([15]).
6 - رأس مال التجارة : يرى الحنابلة وابن سريج من الشافعية أنه يُترك للمفلس رأس مال يتَّجر فيه إذا لم يحسن الكسب إلا به . قال الرملي : وأظنه يريد الشيء اليسير أما الكثير فلا .([16]) 
          ولا بدّ من التنبيه هنا إلى أن دار السكنى أو غيرها مما ذكر إذا كانت مرهونةً أو كانت عين مال الغريم فإنها تباع عند جمهور الفقهاء ([17]).
د  - حالات ترجع إلى اعتباراتٍ تتعلق بالمصلحة العامة .
        ومن أمثلة ذلك : الأموال اللازمة لسير المرفق العام .
        وأرى أن النظم الوضعية تتفق في هذه المسألة مع الشريعة الإسلامية ؛ لأن من القواعد الفقهية المقررة شرعاً أن ( المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة ) فإذا كان أحد مرافق الدولة مديناً فإنه لا يجوز الحجرُ عليه وبيع أملاكه ؛ لأن المرفق الحكومي موضوع لرعاية مصالح عموم المسلمين في الدولة، ومصلحتهم مقدمة على مصلحة الدائن الخاصة سواءً أكان واحداً أم أكثر .




مقدمات التنفيذ
تشترط معظم النظم الوضعية أن يتقدم على إجراء التنفيذ خمسة شروط وهي :
1-إرفاق السند التنفيذي المذيل بالصيغة التنفيذية .
2- الكفالة .
3-إعلان السند التنفيذي والتكليف بالوفاء .
4-انقضاء ميعاد التنفيذ .
5-طلب التنفيذ .
        وقد عقدت لكل شرط منها مبحثاً مستقلاً فإلى بيانها .



(1) انظر : إيـثـار الإنـصـاف – شمس الدين الفقيه ص 760 ، وطريقة الخلاف – السمرقندي ص 481، وتبيين الحقائق 5/199 ، وبدائع الصنائع 7/169 وما بعدها ، والاختيار 1/269 ، وشرح الزرقانـي على مختصر خليل وحاشية البنانـي عليه 5/261-265 ، وبداية المجتهد 2/284 ، 285 ،وحـاشـيـة الـدسـوقـي عـلـى الـشـرح الكبير 3/263 ، 264،وشرح المنهاج وحاشية قليوبي عليه 2/285 ، وكشاف القناع 3/423 ، وقواعد ابن رجب القاعدة 12ص 14 ، والقاعدة 53 ص 87 ، والمغني - ابن قدامة 4/438 ، وشرح المنتهى 2/278 .
([2])انظر : التنفيذ الجبري - فتحي والي ص 183 ، وقواعد التنفيذ القضائي - محمود هاشم ص 399 .
([3]) انظر : كشاف القناع 3/439 .
([4]) انظر : الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 3/273 ، وشرح المنهاج وحاشية قليوبي عليه 2/290 ، 291 ، ونهاية المحتاج 4/317 ، والمغني -ابن قدامة 4/446 ، ومطالب أولي النهى 3/391 .
([5]) انظر : رد المحتار 4/530 ، وفتح القدير -الكمال 7/113 ، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4/97 وما بعدها ، ومغني المحتاج 2/396 ، وكشاف القناع 4/329 ، وغاية المنتهى 2/328.
([6]) العُمرى : يقال أعمرتك الدار عمرك أى جعلتها لك مدة حياتك فإذا متَّ أنت فهي ردٌّ عليَّ .
والرُقبى : يقـال أرقبتك هذه الدار أي إن متُّ أنا قبلك فهي لك ، وإن متَّ أنت قبلي فهي لي .فكل منهما يرقب موت صاحبه .
انظر : بدائع الصنائع 6/116 ، 117 ، والمطلع على أبواب المقنع ص 291 ، 292 ، ومعجم ألفاظ الفقه الحنبلي ص 39 .
([7]) انظر : الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4/97 وما بعدها ، وبدائع الصنائع 6/116 ، 117 ، بينما يرى جمهور الفقهاء أن شرط العمرى والرقبى باطل ، وتكون العين ملكاً لمن وهبت له متى قبضها . انظر : بدائع الصنائع 6/116 ، 117 ، وتحفة الطلاب ص 172 ، والمغني -ابن قدامة 5/624 ، والفقه الإسلامي وأدلته 5/8 وما بعدها .
([8]) انظر في هذه الحالات : الموسوعة الفقهية – ا لكويت – 5/318 ، 319 .
([9]) انظر : الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 3/277 ، وعقد الجواهر الثمينة - ابن شاس 2/613، ومنتخب الأحكام -ابن أبي زمنين 1/200 ، والمغني - ابن قدامة 4/446 ،والتوضيح - الشويكي 2/691 ، ومطالب أولي النهى 3/391 .
([10]) انظر : نهاية المحتاج 4/317 ، وشرح المنهاج وحاشية قليوبي عليه 2/290،291 ، وأدب القاضي -ابن القاص 2/418 ، والمغني - ابن قدامة 4/446 ، ومطالب أولي النهى 3/391 .
([11]) الدست : ما يلبسه الإنسان ويكفيه لتردده في حوائجه ، انظر : المصباح المنير 1/194 ، والمعجم الوسيط 1/282 0
([12]) انظر : رد المحتار 5/95 ، ، وشرح أدب القاضي -الشهيد 2/380 ، 381 ، وأدب القضاء -السروجي ص 551 ، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 5/270 ، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3/277 ، ونهاية المحتاج 4/319 ، وشرح المحلي على المنهاج 2/291 ، والديباج المذهب -البنبي 3/741 ، وأدب القاضي -ابن القاص 2/418 ، 419 ، والمغني -ابن قدامة4/441 ، 445 ، وكشاف القناع 3/434 . 
([13]) انـظـر : الـفـتـاوى الـهـنـديـة 5/62 ، وشـرح الـزرقـانـي عـلـى مـخـتـصـر خليل 5/270 ، وشرح عماد الرضا ببيان آداب القضاء – الأنــصــاري 2/31 ، ومـغـنـي المـحـتـاج 2/154 ، ونـهـأيـة المـحـتـاج 4/318،319 ، وكــشــاف الــقــنــاع 3/433، والمغني-ابن قدامة 4/444 ،445 . 
([14]) انـظـر : شـرح الـزرقـانـي 5/270 ، ونــهــأيــة المــحــتــاج وحــاشــية الشبراملسي عليه 4/319 ، والديباج المذهب -البنبى 3/ 741 ، 742  .
([15]) انظر : المرجعين السابقين ، ومطالب أولي النهى 3/391 .
([16]) انظر : نهاية المحتاج 4/317 ، ومطالب أولي النهى 3/391 .
([17]) انظر : الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 3/270 ، 271 ، 282 ، ونهاية المحتاج 4/310 - 312  ، وشرح المنهاج 2/293 ، والمغني - ابن قدامة 4/443 ، 444، 453 .

Post a Comment

Previous Post Next Post