السودان قطر تعيش فيه قبائل وأعراف مختلفة الأمر الذي بثقافات متعددة ، فلكل قبيلة وثقافة ممارساتها الشعبية المختلفة عن غيرها . غير أن احتكاك بعض هذه الثقافات المتجاوزة قد أدي إلي تبادل عناصرها أحياناً كما أدي إلي تصارعها في أحيان أخرى .
       تعرف السودانيون علي المسرح قبل ما يزيد قليلاً عن القرن منقولاً بواسطة الجاليات الأجنبية في فترة الاستعمار الإنجليزي المصري . وقد ظل المسرح يتطور في اتجاه المسرح الغربي بعيداً عن الممارسات الشعبية مما جعل غالب الدارسين يستخدمون مصطلح (المسرح في السودان) بديلاً عن (المسرح السوداني) وقد ظلت محاولات البحث عن المسرح السوداني تراوح مكانها رغماً عن أهميتها في خلق مسرح يميز السودانيين ويحمل بصماتهم الخاصة ومن ثم يصبح إضافة لحركة المسرح العالمية يدفع في شرايينها دماءً جديدة ، عليه فإن هذه الدراسة تحاول البحث في إمكانية الاستفادة من الممارسات الشعبية في خلق مسرح يميز السودانيين مفترضاً أن الممارسات الشعبية الأدائية تحمل في داخلها عناصر مسرحية ودرامية يمكن تطويرها في اتجاه فن المسرح ، كما أنه يمكن البحث عن العناصر المشتركة فيها للوصول إلي عرض جامع للثقافات المختلفة .
       تتفق المصادر[1] في أن المسرح فن من فنون الأداء والفرجة يتكون من مؤدين ومتفرجين يتواجدون في مكان واحد . يقدم المؤدون محاكاة لأحداث تحتوي علي عناصر درامية عليه فإنه يمكن القول بأنه لابد من وجود عناصر أساسية تميز المسرح عن غيره من الفنون . كما أنه لابد من وجود عناصر أخرى تميزه عن الحياة وأهمها (المحاكاة) .

       نعني بالممارسات الشعبية هنا تلك الطقوس ذات الصبغة الأدائية التي يمارسها السودانيون أثناء حياتهم من طقوس الميلاد وحتى طقوس الموت والدفن وما بينهما مثل طقوس الزواج والعبادات والحرب وغيرها . وفي هذه الورقة نحاول استنباط عناصر للمسرح السوداني في طقوس الذكر عند المسلمين ورقصة الحرب عند القبائل النيلية ورقصة العروسة في وسط السودان وطقوس الزار في بعض الثقافات السودانية . وقد انتخبنا هذه الممارسات لأنها تمثل ثقافات مختلفة من ثقافات السودان .

عناصر المسرح والدراما في حلقات الذكر:
       لكل طريقة من الطرق الصوفية الإسلامية في السودان الخاص في ممارسة الذكر في وجود عناصر مشتركة بينها كالرقص والأداء الصوتي الغنائي . عليه فإننا هنا نمثل لها بحلقات الذكر عند الطريقة القادرية بالساحة أما ضريح الشيخ حمد النيل بأمدرمان عصر كل جمعة ونحن نعتمد علي مشاهداتنا شبه المنتظمة لهذه الممارسة .
       تتلخص الممارسة في اجتماع المريدين من مادحين وعازفين وذكارة ومتفرجين ، عصراً في الساحة التي يتوسطها علم الطريقة المثبت علي السارية .تبدأ حلقة الذكر بنشيد افتتاحي يلقيه المادحون وهم يتحركون داخل الحلقة ثم تبدأ حرارة الإيقاع في الارتفاع فتدخل الطبول والصاجات ويدخل معها الذكارة في أزياء خاصة وينتظمون في رقص تعبيري عنيف يصل قمته عندما يدور أحدهم حول نفسه في سرعة عجيبة ، أو عندما يتفوه آخر بكلام لا رابط بين جملة وكلماته ويستمر الإيقاع في الارتفاع حتى يؤذن لصلاة المغرب حيث يتوقف الذكر وتنتهي الممارسة فينصرف عن الساحة المؤدون والمتفرجون[2] .
       أن المراقب لهذه الممارسة من وجهة النظر المسرحية ، يلاحظ وجود بعض العناصر الأساسية لفن المسرح والدراما التي قد تتفق مع النظرية الأرسطية وغيرها من النظريات الغربية ويمكن تلخيص أهم تلك العناصر في:
1. المشاركون في هذه الممارسة لا يحترفون ممارسة الذكر ولكنهم أهل أشغال ومهن مختلفة يقتطعون سويعات من يوم عطلتهم (الجمعة) يتخلصون فيها من شخصياتهم العادية ويدخلون في إهاب شخصيات جديدة يتقمصونها خلال فترة الذكر (العرض) وهذا يقترب بهم من طبيعة عمل الممثل .
2. يلاحظ في هذه الممارسة اكتمال عناصر العرض التي يجب توفرها في أي فن يسمي مسرحاً ، فبالإضافة للممثل (الذاكر) يوجد مكان العرض وهو ساحة الذكر بمعماريتها المعروفة من قبة أو ضريح وسارية في الوسط كما يوجد المتفرج .
3. إن كانت الموسيقي هي إحدى عناصر العرض المسرحي المهمة فإنها هنا موسيقي حية يعزفها الذاكرون بأنفسهم ، والآلات الموسيقية في هذا الطقس هي جزء من المرئيات بجانب أنها مصدر للمسموعات ، والموسيقي في هذه الممارسة لا تستخدم كعامل مساعد لخلق الجو العام للعرض أو كعنصر تفسيري أو إيقاعي يواكب الرقص فحسب ، لكنها عنصر أساسيي في بنائية العرض نفسه ، وبدونها لا يكون للعرض وجود . وهذا يذكرنا بدور الموسيقي في المسرح الغنائي والاستعراضي والأوبرا والباليه .
4. تحتوي الممارسة ـ أيضاً ـ علي أزياء مخصوصة قد تختلف عند بعض الذاكرين عن أزيائهم العادية وهي عبارة عن جبب مرقعة ذات ألوان وعلامات تحدد شخصية الذاكر ودرجته . كما تحتوي علي إكسسوارات معينة لها دورها في العرض كالعصي والمسابح والكرابيج والمباخر .
5. أما عن الدراما في حلقات الذكر فإنه يمكن تلخيص فكرتها الرئيسية في صراع الروح ـ في توجهها لخالقها ـ مع الجسد الفاني ومحدوديته التي تحاول تكبيل انطلاق تلك الروح . وتمثل لحظات الوجد الصوفي وانفصال الذاكر عن ما حوله قمة انتصار الروح علي الجسد وهو الهدف الأعلى للطقس مما يجعل له نتائج تنفسية ، فكل المشاركين بمختلف درجات مشاركتهم ـ بما فيهم المتفرجون ـ يمارسون محاولات فك أسر أرواحهم وتخليصها من ضغوط الماديات .
6.    يلاحظ أن لهذا الطقس قائد هو شيخ الطريقة أو من يمثله وهو الذي يقود الذكر ويتحكم في سير أحداثه . 

المسرح والدراما في رقصة العروسة:
       نتناول هنا رقصة العروسة في وسط السودان ، وهي طقس مكون من عدد من الرقصات تؤديها العروسة في ليلة زفافها بمشاركة العريس ، كانت هذه الرقصة تؤدي أمام المتفرجين من المدعوين لحفل الزفاف من الجنسين لكنها الآن أصبحت غالباً ما تقتصر علي النساء فلا يشارك فيها أو يشاهدها من الرجال غير العريس .
       يسبق الموعد المحدد لهذه الممارسة تجهيزات تمتد لأسابيع وربما شهور ، بعض هذه التجهيزات تنتظم (بيت العرس) حيث تجري ترميمات لمنزل أهل العروسة وتجهيز الساحة التي يقام عليها العرض سواء كانت داخل المنزل أو خارجه ، تضاء هذه الساحة بالمصابيح الملونة وتزين بما يتيسر من الزينات الحديثة أو التقليدية كأفرع شجر النخيل في هذه المناسبة يلبس المدعوون أفخر ما لديهم من ملابس وتستعمل النساء أوات التجميل والزينة ، أما العريس والعروسة فتكون العناية يتزيينهما كبيرة فالعريس يخضب بالحناء والعروسة تخضع لفترة طويلة قبل موعد الزفاف لكبار النسوة لتجليتها واختيار الأزياء الخاصة بهذه الممارسة . كما تخضع لفترة تدريبية علي الرقصات والتي سوف تؤديها في تلك الليلة بقيادة إحدى النسوة الخبيرات في هذه الرقصات والتي غالباً ما تكون المغنية الرئيسية وربما الوحيدة وهي التي يوكل لها عزف الآلة الإيقاعية المصاحبة للرقص .
       يلاحظ أن رقصات تلك الممارسة يغلب عليها الطابع التعبيري ويبدو فيها الصراع واضحاً بين العريس والعروسة فالعريس يحاول أن يجعلها تنقاد له بينما هي تحاول الإجفال وهي كثيراً ما تتبع توجيهات المغنية التي كانت قد لقنتها لها أثناء الفترة التدريبية ، أو التي توجهها لها أثناء العرض نفسه .
       إن كانت هذه الرقصة لا تثبت علي شكل واحد فإن شكلها الأساسي ثابت ومنه يمكن أن نستنبط بعض العناصر المسرحية والدرامية:
1. ربما قد يكون الضمير الشعبي قد أحس بالطبيعة المسرحية لهذا الطقس عندما أطلق علي هذا الحفل مصطلح لعبة وسمي مكان الممارسة ( بيت اللعب أو بيت اللعبة) .
2. الصراع عنصر حاكم لكل رقصات هذا الطقس وطرفاه العريس والعروسة بينما ينقسم المتفرجون إلي مشجعين لهذا الطرف أو ذاك .
3.    لهذا الطقس أزياؤه ومناظره الخاصة .
4. من مميزات هذا الطقس وجود شخصية شبيهة بشخصية المخرج المسرحي المعروفة وهي شخصية مدربة العروسة ، إلا أن دورها لا ينتهي مع بداية العرض ، بل تظل موجودة في قلب الصورة المسرحية متحكمة في الرقصات وفي بداية العرض ونهايته .
5. الرقص نفسه ليس برقص إيقاعي لكنه سلسلة من الرقصات التعبيرية المربوطة مع بعضها البعض ومع الأغنيات المصاحبة ربطاً وثيقاً ومنطقياً ومتسلسلاً يبدأ برقصة التحية وينتهي برقصة الوداع . وفي كل رقصة تفسر العروسة معني الأغنية المصاحبة بحركات راقصة ذات دلالات معروفة مستخدمة جسدها وأطرافها لتوصيل تلك المعاني .
6. الغناء هو العنصر الرئيسي الذي تقوم عليه هذه الممارسة وبدونه لا تقوم لها قائمة وفيه تستخدم آلة شعبية إيقاعية (الدلوكة) تصاحبها الصفقة وأصوات المغنيات .   

المسرح والدراما في رقصة الحرب:
       من المعروف أن القبائل النيلية التقليدية في جنوب السودان لها مخزون وافر من الطقوس والرقصات مثل طقوس تنصيب رث الشلك ورقصات المآتم والأفراح والحرب .
       رقصات الحرب عند القبائل النيلية متعددة وتختلف في جزئياتها من قبيلة إلي أخرى ، إلا أنها شديدة التشابه عند النظر إليها من المنظور المسرحي والدرامي . عليه فإننا نعتمد رقصة الحرب عند قبيلة الشلك كمثال لشبيهاتها من رقصات الحرب عند القبائل النيلية الأخرى .
       يصف نعوم شقير مشاهداته لرقصة الحرب عند قبيلة الشلك فيقول بأن أفراد تلك القبيلة يجتمعون في ساحة الرقص وقد لبسوا علي رؤسهم شعوراً غريبة وتزينوا بالريش والخرز ورسموا علي وجوهم بالأصباغ البيضاء والحمراء واستخدموا أزياء خاصة وإكسسوارات من العاج والنحاس وبعض الرماح والنبابيت[3] .
       يواصل شقير فيصف الشلك وهم يرقصون (مثلوا في رقصهم واقعة حربية وقفوا فيها صفين يهاجم أحدهما الآخر[4] ) . من هذا الوصف الموجز رقصة الحرب عند قبيلة الشلك يمكن استخلاص الكثير من العناصر المسرحية والدرامية نلخص أهمها فيما يلي:
1. الصراع في هذه الممارسة شديد الوضوح إذ تنقسم المجموعة إلي قسمين كل قسم منهما يمثل قطباً من قطبي الصراع .
2.    الجمهور هنا مشارك بشكل أو بآخر ولكل فرد موقفاً يساهم به لتصعيد حرارة الصراع .
3. إن هذه الممارسة لا تشكل معركة حقيقية ولكنها محاكاة لمعركة ، إنها معركة وهمية المشاركون فيها يمثلون أدوار المحاربين .
4.    تلعب عناصر الأزياء والماكياج والإكسسوارات دوراً مهماً في هذه الممارسة ، فكل ممثل يهتم بتجهيز زى مسرحي خاص به يساعد علي رسم الصورة المتخيلة لشخصيته ويضيف إليها ما يناسب من الإكسسوارات ولا يهمل الماكياج الذي هو ـ من ناحية ـ يبتعد تماماً عن مهام الماكياج المشهورة (التكبير والتصغير ، التجميل والتشويه) لكنه ـ من ناحية أخرى ـ يناسب أسلوب الزى ومكملاته مبتعداً عن محاكاة الواقع . وعلي ذلك يكون الماكياج عبارة عن خطوط وأشكال ترسم علي الوجه برموزها المعروفة لدى المجتمع المنتج لهذه الرقصة وهو بذلك يقترب كثيراً من فكرة القناع الأفريقي .
5. الرقص والغناء هو عصب هذه الممارسة فعن طريقهما تتم حكاية قصة بسيطة تستخدم فيها الإيماءات الموقعة علي إيقاعات الموسيقي المصاحبة ، وهي موسيقي حية عازفوها هم في ذات الوقت راقصون مغنون .
6. تقام الممارسة في الساحات وتتخذ الفرجة شكلاً دائرياً ويتحرك الراقصون داخل الدائرة بحيث يتمكن أي مشاهد ـ في أي موقع علي قطر الدائرة من أن يشاهد بوضوح وأن يشارك عن كثب .

العناصر في طقوس الزار:
       تميل معظم الدراسات إلي وصف الزار بأنه ممارسة شعبية في غالبها ، وهي زنجية الأصل ، فقد قالت برندا سلجمان في بحث لها بعنوان: (الزار في مصر وأصوله الأفريقية [5] ) أن معجم سبيرو للألفاظ العربية الدارجية في مصر يعرف الزار بأنه (رقية زنجية) ويري البعض أن الزار كلمة حبشية الأصل وتعني الروح أو الشخص الذي يعالج الناس عن طريق الاتصال بالأرواح .. وبمقارنة الزار وحفلاته بما يشابهها من الحفلات في شمال أفريقيا الاستوائية ..وهي تري أنه قد جاء إلي مصر من الحبشة عن طريق السودان . عليه يمكن القول بأن الزار يمارس في عدد من الثقافات الأفريقية وعلي رأسها السودان وربما يكون ممارساً في غيرها من الثقافات . والزار هو واحد من الطقوس والممارسات الصالحة لاستنباط عناصر تشكيل مسرح سوداني .
       الزار في السودان ممارسة نسائية وإن اشترك فيها الرجال . تعقد حلقاته بدعوى علاج إحداهن حيث تقوم هي بتجهيز منزلها بمساعدة أخريات لاستقبال الشيخة والمدعوات وتجهز نفسها بإحضار الأزياء والإكسسوارات وغيرها .
       يتكون حفل الزار من مجموعة من الأغنيات والرقصات بإيقاعات وألحان متنوعة ، وبالزار شخصيات معروفة تشبه الشخصيات المسرحية مثل شخصيات الخواجة والحبشي والعربي . أما المدعوات فهن متفرجات ومشاركات في ذات الوقت .
       إن حفلات الزار علي اختلاف طرقها وأساليبها تحتوي علي العديد من العناصر التي يمكن الاستفادة منها في خلق مسرح سوداني:
1.    الموسيقي والغناء عنصران مكونان للطقس نفسه .
2.    تتقمص المريضة شخصيات غالبها شخصيات رجالية .
3. الأزياء والإكسسوارات هي أزياء خاصة بالمناسبة لا تحاكي الأزياء والإكسسوارات المستخدمة في الواقع المحيط بالمريضة .
4.    المدعوات لا يتفرجن فقط بل يسمح لمن ترغب في المشاركة .
5. يظل الصراع ـ المعبر عنه بالرقص والغناء ـ محتدماً بين المريضة والشخصية التي تتقمصها حتى مرحلة الوصول إلي جزء حواري بين الشيخة والمريضة ( وهي في إهاب شخصية أخرى كالخواجة مثلاً ) حيث تتقدم المريضة بمطالبها ورغباتها المكبوتة التي ربما لا تسمح لها ظروفها الاجتماعية والاقتصادية والدينية بالتعبير عنها . يحسم الصراع في النهاية بتعهد الشيخة بالاستجابة لتلك المطالب .


[1] راجع: د. إبراهيم حمادة معجم المصطلحات المسرحية والدرامية ، ص 24 وعبد الرحيم الحلبي ، معجم المصطلحات الدرامية ، ص 73 .
[2] راجع: سعد يوسف ، أوراق في قضايا الدراما السودانية ، الخرطوم أروقة 2002 ، ص 19 ـ 20 .
[3] راجع: نعوم شقير ، جغرافية وتاريخ السودان ، بيروت ، دار الثقافة ، 1967 ص 228 .
[4] نفس المرجع ، نفس الصفحة .
[5] راجع بحث سلجمان في مجلة الفنون الشعبية ، القاهرة عدد يونيو 1971 ص 84 .

Post a Comment

أحدث أقدم