أغراض العقوبة الجنائية  :
     كشف لنا استعراض الفلسفات التي كانت وراء الحق في العقاب وبيان سلطة الدولة في توقيعه ، أن هناك تطوراً قد لحق أغراض العقوبة الجنائية Les  finalités de la peine  تبعا للتطور الفكري والاجتماعي الذي شهدته المجتمعات.

ولقد استبان لنا أن أغراض العقوبة تنوعت بين ثلاثة اتجاهات : اتجاه موغل في القدم ، يرى في العقوبة غرضاً انتقامياً (سواء أكان انتقام فردى أو جماعي) ، ثم اتجاه لاحق دعمت ظهوره الأفكار المسيحية الكنسية ، يرى في العقوبة غرضاً تكفيرياً. ثم ظهر الغرض النفعي كمرحلة ثالثة في القرن الثامن عشر على يد مفكري هذا العصر أمثال مونتيسكيو وروسو وبيكاريا وبنتام. واقتصر هذا الغرض عند مفكري المدرسة التقليدية الأولى على تحقيق الردع العام ، ثم أصبح تحقيق العدالة هدف يضاف إلى الردع العام عند أنصار المدرسة التقليدية الثانية أو الجديدة. وفى مرحلة رابعة أعيد للردع العام أهميته مرة أخرى وغلب كغرض للعقوبة الجنائية لدى مدارس الوسط التوفيقية. إلى أن استقر الأمر بإعلاء الهدف التأهيلي والإصلاحي للمجرم ، كأسمى أهداف العقوبة مجتمعه عند أنصار حركة الدفاع الاجتماعي الجديد وعند أنصار النيوكلاسيكية المعاصرة ، الذين يرون أن هذا الهدف الإصلاحي يمكن تحقيقه إلى جانب الردع والزجر بشقيه العام والخاص. فالردع يتحقق من مجرد النطق بالعقوبة من قبل القاضي ، أما الهدف أو الغرض الإصلاحي أو التأهيلي فيمكن تحقيقه في مرحلة التنفيذ وداخل المؤسسة العقابية.

على أنه لا يجب أن نفهم أن هذه المراحل تظل منفصلة بعضها عن الأخر. فلا يعنى الاهتمام بالانتقام كغرض للعقوبة في المراحل الأولى للإنسانية أن التكفير أو الردع لم يكن هدفاً. كما أن ظهور الدولة وتسيدها لتوقيع العقاب لم يلغ أبداً فكرة الانتقام والتكفير. والدليل على ذلك أنه إلى وقت قيام الثورة الفرنسية كانت العقوبات تتسم بالوحشية انتقاماً من الجاني وتشفياً فيه. وحتى مع ظهور المسيحية وظهور المحاكم الكنسية ، ظل المجتمع المدني (المحاكم غير الدينية) يطبق العقوبات الوحشية التي كانت تتعدى كثيراً الجاني وتمتد إلى أهله وأحيانا إلى الحيوانات وجثث الموتى. كما لا يمكن القول أن ظهور الغرض النفعي ، خاصة مع ظهور أفكار بيكاريا ، كان جديداً تماما في الفقه. فلقد عرفته المجتمعات القديمة ذات الطابع الانتقامي في العقاب عندما أرادت التخفيف عن غلواء هذا الطابع عن طريق اعتماد نظام الدية الاختيارية ثم الإجبارية فيما بعد. فهذا الإقرار بمبدأ الدية أريد به تغليب المنفعة على شهوة الانتقام.

وبالجملة فإن تقسيم أغراض العقوبة - بحسب المراحل التاريخية - هو تقسيم تحكم ي. فتلك الأغراض متداخلة في كل العصور ، ولم يكن الهدف من التقسيم التاريخي إلا التبسيط وإبراز لعلو هدف على أخر خلال مرحلة معينة من تطور المجتمع البشري.

ومن المؤكد أن الهدف أو الغرض الانتقامي أو التكفيري للعقوبة لم يعد له دور يذكر في العصور الحديثة والمعاصرة. ومن ثم يمكن حصر أغراض العقوبة فقط في نوعين من الأغراض ، أحداهما الغرض الأخلاقي ، وهو تحقيق العدالة ، وغرض نفعي هو تحقيق الردع بنوعية العام والخاص.

1-                  أ : الغرض الأخلاقي للعقوبة :
     كما سبق وأن أوضحنا ، فإنه يرجع الفضل للفلاسفة الألمان – خاصة "إيمانويل كانت" ومن بعده هيجل – في توجيه الأنظار نحو الغرض الأخلاقي للعقوبة Le but rétributif de la peine ، متمثلا هذا الغرض في العدالة. فعندهم أن الجريمة هى نفي للعدالة في المجتمع وأن العقوبة هى نفي لهذا النفي ومن ثم تصبح العقوبة تأكيد للعدالة أو إثبات لها من جديد. فالجريمة عدوان على العدالة كقيمة اجتماعية مثلى يجب أن تسود داخل المجتمع ، لما تمثله الجريمة من ظلم تجاه المجني عليه بحرمانه من حق من حقوقه (كالحياة في حاله القتل – والسلامة الجسدية في حالة الضرب والجرح – والحق في الملكية في حالة السرقة والنصب …الخ) ، وما تمثله من تعدي على الشعور العام في العدالة المستقر في ضمير الأفراد.

وفى ضوء ذلك فإن العقوبة تعمل على تحقيق العدالة لما تقوم به من إعادة التوازن بين المراكز القانونية التي أخل بها الفعل الإجرامي. وتنزل بالمجرم شر مماثل للشر الذي نجم عن الجريمة ولحق بالمجني عليه ، فكأنها تعيد للقانون هيبته في أذهان العامة. ويحقق اعتبار العدالة غرض من أغراض العقوبة ميزة كبيرة ، إذ أن الوصول إلى هذا الهدف يرضي شعور المجني عليه ويهدأ من ثورة المشاعر العامة اللاحقة على ارتكاب الجريمة ، بما يخمد نار الانتقام في صدر المجني عليه وعند أقرانه ، فيحقق بالتالي السلام الاجتماعي الذي ينقص من معدلات الجريمة في المجتمع. كما أن تحقيق هذا الهدف - خاصة عند الإسراع في توقيع العقاب - ينمى روح الندم والشعور بالمسئولية لدى الجاني ، مما يدفعه إلى محاولة تهذيب سلوكه كي يعود من جديد عضواً منتجاً ومندمجاً في مجتمعه[1].

ويمكننا القول أن الغرض الأخلاقي للعقوبة ، أي تحقيق العدالة ، ينحصر في رسالة القضاء. فهذا الهدف هو المهمة الأساسية للقاضي ولمرفق القضاء بكافة مستوياته الجنائية. وقد يساهم القاضي - وهو في سبيل سعيه نحو تحقيق العدالة - في تحقيق أهداف أخرى للعقوبة ، كالردع العام والخاص مثلا. فالقاضي من خلال العقوبة يؤكد على انتهاك القاعدة الجنائية ، مما يعلي من فكرة القانون في نفوس الأفراد ، ويساهم في كبت عوامل الجريمة أو ما يسمى بالإجرام الكامن ، سواء في نفوس الكافة (الردع العام) أو على المستوى الفردي ، أي في نفس المجرم (الردع الخاص). إلا أن تحقيق هذا الهدف الأخير ( الردع العام والخاص) يتحقق كأثر للهدف الأول المتمثل تحقيق العدالة.
فما يكون نصب عين القاضي هو الغرض الأخلاقي للعقوبة ، المتمثل في تحقيق العدالة. والدليل على ذلك ، أن القاضي (وذلك من خلال ما يثبته الواقع العملي في المحاكم) يسعى في تطبيقه للعقوبة إلى أن تكون متناسبة مع جسامه الفعل وماديات الجريمة (سلوك ونتيجة) ، دون مراعاة لتناسبها مع شخص المجرم. فهو يقدر للجريمة ، وليس للمجرم ، قدراً من العقوبة ، وهو ما يسمى في الفقه "بتسعير العقاب "La tarification de la punition". فلو كان الردع هدف للقاضي ، لأدخل في تقديره العناصر الشخصية للمجرم حتى يتأكد من كون العقاب سيحقق هذا الهدف [2].



[1] في ذات المعنى ، د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص102 وما بعدها ، د. محمد عيد الغريب ، المرجع السابق ، ص68 ، د. محمود نجيب حسني ، المرجع السابق ، ص234.
[2] في ذات المعنى ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص 413-414.

Post a Comment

أحدث أقدم