شرعية العقوبة الجنائية   :
     مبدأ الشرعية هو حجز الزاوية في القانون الجنائي عامة ، وهو بهذه الصفة يمثل الركن الركين والضمان العام للعقوبة. فمن هذا المبدأ تتولد بقية المبادئ التي تحكم العقوبة في أي مرحلة من مراحلها[1].

ويقصد بشرعية العقوبة الجنائية Légalité de la peine أن يوكل إلى المشرع وحدة أمر تقرير العقوبات التي تطبق حال مخالفة الشق التجريمي من القاعدة الجنائية. وإذا كان تحديد العقوبة بالتالي هو عمل السلطة التشريعية ، فإنها قد تفوض في ذلك السلطة التنفيذية في تحديد العقوبات لما يكون المشرع نفسه قد جرمه من أفعال ، وهو ما يسمى بالتفويض التشريعي المنصب على ركن الجزاء[2].

وعلى ذلك لم يعد صائبا القول أن "لا عقوبة إلا بقانون" ، إنما الأصوب القول أن "لا عقوبة إلا بناء على قانون ، أو لا عقوبة إلا بنص". ومن ثم يكون تطبيق عقوبات لم تصدر من السلطة التشريعية أو من السلطة التي فوضتها في ذلك عمل يمس بشرعية العقوبة مما يبطلها.
ولهذا المبدأ قيمة دستورية في النظام القانوني المصري. حيث نص دستور 1971 في المادة 66/2 على أنه "لا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على القانون ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون" Nullum crimena, nulla poena sine lege. كما أكدته المادة الخامسة من قانون العقوبات الحالي لسنة 1937 إذ قررت أن "يعاقب على الجرائم بمقتضى القانون المعمول به وقت ارتكابها".

وينتشر هذا المبدأ في كافة القوانين المعاصرة ، ومنها قانون العقوبات الفرنسي الجديد الصادر في 22 يوليو 1992 ، والذي نص في مادته 111-2 على أن "يحدد القانون الجنايات والجنح، ويحدد العقوبات المطبقة على مرتكبيها ، وتحدد اللائحة المخالفات وتقرر في الحدود وبحسب التفرقة التي يحددها القانون العقوبات المطبقة على المخالفين". وتعود المادة 111-3 لتؤكد على المبدأ قائلةً "لا يعاقب أحد عن جناية أو جنحة إذا لم تتحدد أركانها وفقا للقانون ، أو عن مخالفة إذا لم تتحدد أركانها وفقا للائحة. ولا يعاقب أحد بعقوبة لم ينص عليها قانونا إذا كانت الجريمة جناية أو جنحة ، أو لم ينص عليها في اللائحة إذا كانت الجريمة مخالفة"

ويفرض مبدأ شرعية العقوبة (وكذلك شرعية الجريمة) ، في ضوء مضمونه هذا ، عدداً من الالتزامات في جانب المشرع وفى جانب القضاء :

2-                  أ : الالتزامات المترتبة على مبدأ الشرعية في جانب المشرع :
     تلزم السلطة القائمة على تحديد العقوبات أن تبدأ بتحديد موضوع العقوبة .L’objet de la peine ويقصد بهذا الموضوع قيام المشرع بتحديد قصده من العقوبة ، وما إذا كان الهدف منها مجرد الإنذار أم أنه يقصد التقويم والإصلاح ، أم يقصد أخيراً أن يكون لها طابع إقصائي. وهى كلها تندرج ضمن أهداف الردع الخاص لثلاثة سالفة الذكر.

كما أن على المشرع أن يقوم بتحديد طبيعة العقوبة La nature de la peine ، أي تحديد الحق الذي تنال منه من بين حقوق المحكوم عليه. فمن العقوبات ما يسلب المحكوم حقه في الحياة (كالإعدام) ، ومنها ما يسلب حقه في الحرية بصفة نهائية أو مؤقتة (كالعقوبات السالبة للحرية) ، ومنها ما يقيد تلك الحرية (كالوضع تحت مراقبة الشرطة وخطر الإقامة)، ومنها ما ينال من الذمة المالية لهذا المحكوم عليه (كالغرامة والمصادرة) ، ومنها ما يمس بالحقوق السياسية أو الوظيفية له (كالمنع من الترشيح لعضوية المجالس النيابية والعزل) ، ومن العقوبات ما ينال أخيراً من الشرف والاعتبار (كالنشر في الصحف لبعض الأحكام كأحكام الإفلاس والغش التجاري مثلا). كما قد يؤدى تطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية في ظهور أنواع أخرى من العقوبات ، كسحب الرخص وغلق المنشأة التجارية أو الاقتصادية وحظر مزاولة مهنة أو نشاط تجاري أو اقتصادي لفترة مؤقتة أو دائمة.

وعلى المشرع ألا يقصد عند تحديده لطبيعة العقوبة أن تمتد إلى غير المحكوم عليه إعمالاً لمبدأ شخصية العقوبة ، كما سنوضح بعد قليل.

وأخيراً فإن على المشرع أن يراعي عند تحديد العقوبة مقدار جسامتها ، والتناسب بينها وبين الجسامة الموضوعية للجريمة ، ومدى نصيب إرادة الجاني من الخطأ. وعلى هذا الأساس يقيم المشرع تفرقة مثلاً في العقوبة من حيث كونها عقوبة جناية أم جنحة أم مخالفة ، وإقامته تفرقة عقابية داخل كل طائفة من هذه الجرائم (المواد 9 ، 10 ، 11 عقوبات مصري)[3].

3-                  ب : الالتزامات المترتبة على مبدأ الشرعية في جانب القاضي :
     يفرض مبدأ الشرعية في جانب القاضي عدد من الالتزامات منها : الالتزام بالعقوبات المقررة للجرائم وفق ما تحدده نصوص التشريع ، طبقا لدرجة وطبيعة العقوبة. فيمتنع عليه أن يضيف إلى النص عقوبات لم ترد به ، ولا أن يطبق عقوبة من نوع أو مقدار مختلف. ولا يخل بذلك أن يكون المشرع بنفسه قد أعطى للقاضي سلطة للإعمال التفريد القضائي ، إذا ما وضع له عقوبة بين حد أدنى وحد أقصى ، أو يكون قد خيره بين أكثر من عقوبة ذات طبيعة ومقدار مختلف. فليس في ذلك عدوان على مبدأ الشرعية ، لأن المشرع هو الذي أناب القاضي في أمر التحديد.

كما على القاضي أن يمتنع عن إعمال القياس في تقرير العقوبات. فالقانون الجنائي لا يعرف التفسير بطريق القياس  L’interprétation par l’analogie لا في مقام التجريم ولا مقام العقاب ، فما سكت المشرع عن تجريمه فلا يجرم ، وما سكت عن تحديد عقوبته فلا يتقرر له عقاب ، حتى وإن بدا للقاضي أن هناك تجريم قريب يتحد في العلة مع السلوك الذي لم يوضح له المشرع عقاب. فما ترك على إباحته يظل مباح ، وإلا فتحنا باب التحكم والهوى من قبل القضاء ، ولا يخفى ما لذلك من أثر على حريات وحقوق المواطنين.



[1] في ذات المعنى د. عبد الأحد جمال الدين ، المبادئ الرئيسية للقانون الجنائي ، المرجع السابق ، ص71 ،  د. أحمد شوقي أبو خطوة ، شرح الأحكام العامة لقانون العقوبات ، دار النهضة العربية ، 2002 ، ص 31 ، د. فوزية عبد الستار ، شرح قانون العقوبات ، المرجع السابق ، ص55.
 R. Merle et A. Vitu, op. cit., p. 212 et s.
[2] راجع د. عبد العظيم مرسي وزير ، شرح قانون العقوبات ، المرجع السابق ، جـ1 ، ص 25 وما بعدها.
[3] راجع في ذات المعنى ، د. عبد العظيم مرسي وزير ، المرجع السابق ، ص 17-18
R. Schmelck et G. Picca, op. cit., p. 64.

Post a Comment

أحدث أقدم