الغرض النفعي للعقوبة
قلنا أن جوهر العقوبة ، هو الأذى أو الإيلام الذي
يلحق بمن توقع عليه نتيجة الماس بأحد حقوقه الأساسية أو اللصيقة بشخصية. ويستهدف
إقرار هذا الإيلام والأذى كبح عوامل الجريمة داخل النفس البشرية ، وهو ما يسمى
بالردع ، أي التخويف والزجر ، والذي يمثل غرضاً نفعياً للعقوبة Le but utilitaire de la peine. وقد ينصرف هذا الأخير إلى تحقيق الردع العام La
prévention générale الموجه للكافة ، بحيث تمنع العقوبة بقية أفراد
المجتمع من تقليد ومحاكاة المجرم ، استهجاناً لما أنزل عليه من عقاب. وقد يستهدف
الردع الخاص La prévention spéciale ، أي محاولة وأد ميكروبات الجريمة أو الميكروبات الاجتماعية - على حد
قول البعض[1]
- في نفس المجرم للحيلولة بينه وبين الجريمة مرة أخرى
.
1-
الردع العام:
ينظر للعقوبة على أنها إنذار موجه للكافة من الناس ،
تنذرهم بسوء العاقبة في حالة تقليد المجرم في سلوكه. فالعقوبة هى المضاد الحيوي الذي
يكبت نوازع الشر الطبيعية في كل نفس بشرية. فالعقوبة تمارس أثراً نفسياً تهديدياً ، يقوى بواعث
الخير تجاه بواعث الشر أو بواعث الجريمة ، بما يحقق الموائمة بين السلوك الجماعي
وبين قواعد قانون العقوبات. فالعقوبة هى التي تمنع من تحول الإجرام الكامن إلى إجرام
فعلي.
وتحقيق هذا الهدف - أي
الردع العام -
يتوقف على عوامل كثيرة منها : عدالة العقوبة وتناسبها مع جسامه الواقعة الإجرامية
والخطأ الجنائي. فزيادة العقوبة أكثر مما تقضيه جسامه الواقعة قد
يحمل القضاء على عدم تطبيقها ، وسعيه الحثيث على تبرئه المتهم مخافة توقيع عقاب
غير عادل ، مما يرسخ في أذهان العامة قلة أهمية دور العقوبة فلا يتحقق الردع
العام. الأمر الذي يحدث بالمثل في حالة ضعف العقوبة
بالمقارنة بجسامة ما وقع من جرم. كما يتوقف الردع العام في النفوس
على ميكانيزم القضاء الجنائي ، أي الكيفية التي يسير بها هذا
المرفق من حيث البطء أو السرعة في مواجهة الجريمة.
ومهمة تحقيق الردع العام تقع بحسب الأصل على المشرع ،
وإليه يسعى دون الأهداف الأخرى للعقوبة ، وذلك من خلال خلق القواعد التجريمية
وتقرير الأجزية المناسبة لكل جرم. فهو بهذا الخلق يوجه التحذير للكافة بتوقيع
العقاب في حالة انتهاك القاعدة التجريمية.
ولكي يطمئن المشرع إلى تحقيق هذا الهدف ، فإنه يجب أن
يستند إلى قواعد العدالة في التشريع. ولما كان أمر تحقيق العدالة موكول إلى القاضي
، لذا فقد جرت التشريعات على تقرير العقوبات بين حد أدنى وحد
أقصى ، أو تقرير عقوبات تخيرية ذات جسامه متفاوتة، تاركة للقاضي حرية تقرير العقوبة المناسبة
كماً وكيفاً حسب ظروف كل حالة. فهذا الأسلوب يضع أمام الكافة الصورة الفعلية
للعقوبة وكيفية تطبيقها ، فتتفاعل النفوس مع هذا التطبيق. فإن رأته عادلاً فإنها تبدأ في مراجعة
النفس (التخويف والترهيب) وتبدأ أولى مراحل الردع العام ، وإن رأته ظالماً ،
استخفت النفوس بالقانون وبالعقوبة وقلت لديهم عوامل الردع العام.
وعلى ذلك ، فإذا كان المشرع هو المنشئ للردع العام من
خلال القاعدة الجنائية ، فإن القاضي هو الموكول إليه التثبت من تحقيق تلك القاعدة
للردع العام الفعلي. فيمكننا القول أن هناك نوعا من الإنابة بين السلطة التشريعية
وبين القضاء الجنائي في تحقيق الردع العام في المجتمع.
2-
الردع الخاص:
الردع الخاص هو الأثر المباشر للعقوبة الذي تحدثه على
ذات المجرم المحكوم عليه ، أو هو الأثر الناشئ عن الانتقاص من حقوق المحكوم عليه
في بدنه أو حريته أو ماله أو شرفه واعتباره.
من هنا يظهر أن للردع الخاص طابع فردي Intimidation de nature individuelle ، حيث ينصب
على شخص بعينه هو المحكوم عليه ، فيدفعه إلى تغيير عناصر شخصيته في المستقبل بما
يحول بينه وبين الرجوع إلى اقتراف الجريمة لاحقاً. فكأن الردع الخاص هو محاولة
استئصال الخطورة الإجرامية المستقبلية أو الاحتمالية التي كشفت عنها الجريمة التي ارتكبها
الشخص بالفعل. فبالعقوبة يتعاظم مقدار الألم في نفس الجاني وإحساسه بالمهانة
والاحتقار بين أفراد مجتمعه ، فتنمو داخله العوامل التي تحول بينه وبين السلوك الإجرامي
في المستقبل.
وللردع الخاص - كوسيلة لمنع المجرم من معاودة ارتكاب
الجريمة في المستقبل - درجات أشدها هو الردع الخاص الاقصائي ، والذي يتم من خلال استبعاد الجاني
كلياً من المجتمع ، كما هو الحال في عقوبة الإعدام وفى
العقوبات السالبة للحرية طويلة المدة أو المؤبدة ، وذلك بهدف تجميد النشاط الإجرامي للجاني في المستقبل. ولا يتحقق ذلك
النوع الاقصائي إلا بشأن الجرائم شديدة الخطورة على مصالح المجتمع
وفى حالات المجرمين الذين لا تجدي معهم برامج التأهيل والإصلاح من واقع سجلهم
الإجرامي أو جسامه ما ارتكب من أفعال.
وللردع الخاص صورة أخف تتمثل في الردع الخاص الإنذاري. ويتحقق ذلك في حالات الإجرام
غير الجسيم أو الذي يتمثل في تفاهة ما نشأ من ضرر ، والذي يثبت فيه أن الحدث
الإجرامي لم يكن إلا شئ عارض في حياة المتهم. في تلك الأحوال
، يمكن تطبيق بعض العقوبات ذات الطابع الإنذاري ، كما هو الحال في الحبس قصير
المدة مع إيقاف التنفيذ أو الوضع تحت الاختبار أو الحكم بالإدانة مع تأجيل النطق
بالعقوبة أو الحكم بعقوبة مالية بسيطة.
وبين الصورتين توجد صورة وسط تتمثل في الردع الخاص
الإصلاحي أو التأهيلي ، ويكون ذلك في حالات الإجرام المتوسط
(كالسرقة وخيانة الأمانة والقتل الخطأ …الخ) ، حيث يوجب تحقيق هذا النوع من الردع
الدخول الفعلي في إحدى المؤسسات العقابية من أجل إخضاع المحكوم
عليه للبرامج الإصلاحية والتأهيلية الموضوعة من قبل الخبراء والمتخصصين في الشئون
العقابية ، التي تعمل على تنمية روح التوافق مع المجتمع مرة أخرى.
ويظهر من ذلك أن الردع الخاص في شق كبير منه يلق
ى على عاتق السلطات القائمة على
التنفيذ العقابي ، وإليه تهدف هذه السلطات أكثر من الأهداف الأخرى
للعقوبة الجنائية[2].
إرسال تعليق