تفعيل الجزاء الجنائي في مرحلة الاختيار :
بعد قيام المشرع بتحديد أنماط السلوك التي يعتبرها
جريمة تمس الهيئة الاجتماعية عليه أن يتخير أفضل الأجزية التي تتناسب مع جسامة
الفعل والأضرار الناشئة عنه. وهذا الاختيار لا يتم بصورة عشوائية إنما بعد دراسة
مختلف الأجزية الجنائية المتاحة وفق تطور المجتمع ومفاهيمه السياسية والاقتصادية
والاجتماعية والخلقية.
وهذه الدراسة تقع موقع القلب من
علم العقاب ، فهي جوهره. وكان لهذا العلم دوره في تفعيل الجزاء الجنائي ، حيث لم
يعد هذا الأخير يقتصر على العقوبات باعتبارها الألم الذي يتناسب مع جسامة الجريمة
المرتكبة والذي يصيب المحكوم عليه في حياته أو حريته أو ذمته المالية ، وإنما اتسع
الأمر ليشمل سلسلة من التدابير الاحترازية التي تطبق على طائفة معينة من الجناة
الذين وفق قياسات معينة ينبئ وضعهم الجنائي عن عدم صلاحية العقوبة التقليدية في
إصلاحهم وتقويمهم. وهكذا اتسعت فرصة الاختيار أمام القاضي الجنائي حال القيام
بدورة في مكافحة الجريمة ، وما هذا إلا نتيجة للتطور الذي شهدته أبحاث علم العقاب
والسياسة العقابية.
تفعيل أغراض الجزاء الجنائي والمعاملة
العقابية :
كان لدراسات علم العقاب أثرها في تطوير أغراض الجزاء
الجنائي وأساليب المعاملة العقابية. ففي الوقت الذي كانت فيه العقوبة
هي الجزاء الأساسي بدأ علماء القانون الجنائي في القرن الثامن عشر في الانتقال
بالعقوبة من مرحلة اعتبارها مجرد قصاص تستوجبه قواعد الأخلاق أو مجرد اعتبارها
تعويضاً عادلاً ومستحقاً للمجتمع إلى مرحلة الوظيفة الوقائية للعقوبة. إذ يجب على
العقوبة أن تلعب دوراً في حماية المجتمع بمنع تكرار الجريمة سواء من غير المحكوم
عليه وهو ما يسمى بالردع العام
Prévention
générale ، وسواء من المحكوم عليه ذاته وهو ما يسمى بالردع الخاص Prévention
spéciale.
وفي المرحلة التي كان ينظر فيها
للعقوبة على أساس أن لها طابع القصاص والانتقام اصطبغت بما يسمى بالوظيفة
الاستبعادية للعقوبة Fonction
d’élimination ، والتي ترى أن كفاح المجتمع ضد الجريمة لا يكون
إلا بإقصاء المجرم عن المجتمع ككل. من هنا ازدادت أهمية عقوبة الإعدام وكذلك
العقوبات السالبة للحرية (خاصة طويلة المدة أو المؤبدة) لأنها تؤدي في النهاية إلى
إبعاد المحكوم عليه عن المجتمع. لذا فإن الدراسات العقابية في هذه المرحلة كانت
تسمى " بعلم السجون "Science Pénitentiaire".
وإزاء العيوب التي ظهرت للوظيفة
الاستبعادية للعقوبة ، لما لها من نتائج سلبية على المحكوم عليه ذاته وعلى أسرته
وعدم تناسبها مع الجرائم القليلة الجسامة من وجهة النظر الاجتماعية ، بدأ الاهتمام
بغرض عقابي آخر للجزاء الجنائي ألا وهو غرض الردع الذي قد يتحقق بطريق التخويف La dissuasion par l’intimidation أو بطريق الإصلاح La dissuasion par l’amendement .
والطريق الأول له قسمان : الأول
هو الردع العام الموجه للكافة من الناس لما يحدثه الجزاء الجنائي الواقع
على عاتق المحكوم عليه من ترهيب لبقية أفراد المجتمع وإحباط الإرادة الإجرامية
لديهم[1].
وهذا الردع يتفاوت فيه الناس بحسب نوع الجريمة المرتكبة ، فالعقوبات المقررة
لجرائم التهرب الضريبي والجمركي وللمخالفات عموماً لا تحدث درجة التخويف بذات
القدر الذي تحدثه العقوبات في الجرائم الأخرى. كما أن الردع يتفاوت حسب نوع
العقوبة ودرجة جسامتها ، فالإعدام أشد من الحبس في درجة الردع كما أن هذا الأخير
له أثر رادع أشد من الغرامة. ويتوقف أخيراً غرض الردع العام على نوعية المجرم ،
فالمجرم العاطفي مثلاً لا يتمثل العقاب في ذهنه قبل الإقدام على فعله الآثم ، كما
أن هناك طوائف أخرى تقل لديها حدة الردع لما يثور لديهم من باعث الأمل من الإفلات
من العقاب[2].
أما القسم الثاني فهو التخويف الذي ينصرف إلى المحكوم
عليه وحده ، أو ما يسمى بالردع الخاص. وهذا التخويف ينصرف أثره للمستقبل بعد تنفيذ
العقوبة ، بمعنى أنه يستهدف الحيلولة بين المحكوم عليه وبين العودة إلى
سلوك سبيل الجريمة مرة أخرى. غير أن هذا التخويف الخاص في
حالات العقوبة القاسية السالبة للحرية ، وأحيانا المغالي فيها ، من شأنه أن يجعل
المحكوم عليه أكثر عدوانية وكراهية للهيئة الاجتماعية لما للسجن من أثر سلبي على
صحة ونفسية وجسد وأسرة المحكوم عليه.
ولقصور وظيفة الردع بشقيقها العام
والخاص عن مكافحة الجريمة كان لابد أن تنهج الدراسات العقابية نهجاً حديثاً في
النظرة إلى أغراض الجزاء الجنائي وأساليب المعاملة العقابية ، الأمر الذي تم على يد أنصار
المدرسة الوضعية الإيطالية ، التي لا تنظر للجسامة الذاتية للواقعة الإجرامية
كأساس للعقاب وإنما للخطورة الإجرامية للفاعل واحتمال وقوع الجريمة منه في
المستقبل.
من هنا ظهر الطريق الثاني ألا وهو
الردع بطريقة الإصلاح ، أي العمل بأساليب مختلفة على دفع المحكوم عليه في المستقبل
وبعد انتهاء مرحلة التنفيذ العقابي إلى التوافق في سلوكه مع القواعد الاجتماعية
السائدة في المجتمع ، وبالجملة تحوله إلى رجل شريف. وهذا الهدف - كما ترى المدارس
العقابية في فرنسا خاصة مدرسة الدفاع الاجتماعي - هو من مهام الإدارة العقابية
التي يجب أن تعمل على خلق وتنمية الإرادة داخل المحكوم عليه وتهذيبه وتأهيله كي
يعتاد على العمل الشريف في أعقاب خروجه من المؤسسة العقابية. وهذا يلقى على هذه الإدارة عبء
تثقيفي وعبء القيام بالرعاية الصحية والاجتماعية للمحكوم عليه ، سواء أكان ذلك
أثناء مرحلة التنفيذ العقابي أو بعد ذلك في إطار ما يسمى بالرعاية اللاحقة للمحكوم
عليه بهدف ضمان تأهيله وانخراطه عضوا نافعاً في المجتمع. وقد أصبح تحقيق هذا الهدف
أهم ما يشغل الباحثين في علم العقاب[3].
هذا
التطور دفع
البعض - ومع سيادة هذه المفاهيم الحديثة في المعاملة العقابية - إلى إطلاق اصطلاح "علم
معاملة المجرمين" Science de
traitement des délinquants على ذلك
العلم الذي يعكف على دراسة القواعد التنفيذية لمختلف الجزاءات الجنائية (عقوبات
وتدابير) ودراسة وسائل المكافحة العامة للجريمة والوقاية منها. هذا الأمر الذي
تهتم به منظمة الأمم المتحدة في إطار دعوتها المتكررة للعديد من المؤتمرات الدورية
والتي تنعقد كل خمس سنوات حول "الوقاية من الجريمة ومعاملة المذنبين"
ومنها المؤتمر الأول الذي انعقد بمدينة جنيف بسويسرا عام 1955. وفى هذا المؤتمر تم
عرض المشروع الذي أعدته سكرتارية الأمم المتحدة حول قواعد الحد الأدنى لمعاملة المذنبين
وتم إقراره واعتماده من قبل المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة في 31
يوليو 1957 ليمثل جملة القواعد التي أجمع الخبراء في المجال العقابي على قبوله
بوجه عام كمبادئ وأساليب صالحة في مجال معاملة المسجونين وإدارة المؤسسات العقابية
، وليعد بمثابة دليل العمل في مجال الإصلاح العقابي[4].
جملة القول أن الدراسات العقابية
الحديثة لم تعد تقتصر على دراسة كيفية تنفيذ العقوبات والتدابير الاحترازية Mesures de sûreté أياً كان
نوعها ، بل أصبحت تتناول فوق ذلك أساليب المعاملة العقابية التي تجري داخل المؤسسة
العقابية أو التي تجري خارجها (الإفراج الشرطي ونظام الرعاية اللاحقة…الخ) على
النحو الذي سيظهر في ثنايا هذا المؤلف.
[3] د. محمود نجيب حسني ، علم العقاب ، دار النهضة العربية ، 1972 ، ص
91.
[4] د. يسر أنور علي ود. آمال عبد
الرحيم عثمان
، المرجع السابق ،
ص302-303 ، اللواء/ يس الرفاعي ، مجموعة قواعد الحد الأدنى
لمعاملة المسجونين ، المنظمة الدولية العربية للدفاع الاجتماعي ضد الجريمة ،
القاهرة ، 1965 ، ص 7 وما بعدها ، د. أحمد المجدوب ،
معاملة المذنبين طبقاً لقواعد الحد الأدنى ، المجلة الجنائية القومية ، مارس 1978
، ص40 ، د. محمد أحمد المشهداني ، قواعد الحد الأدنى لمعاملة المسجونين ، رسالة
دكتوراه ، عين شمس ، 1983. وقد توالت المؤتمرات التي تعدل من تلك القواعد منها
المؤتمر الثاني الذي انعقد بمدينة لندن عام 1960 والثالث بمدينة استوكهلم بالسويد
عام 1965 والرابع بمدينة كيوتو باليابان عام 1970 والخامس بجنيف
عام 1975 والسادس بكراكاس بفنزويلا عام 1980 والسابع بميلانو بإيطاليا 1985
والثامن بهافانا عام 1990 والتاسع بالقاهرة عام 1995 ثم العاشر والأخير بفينا عام
2000. راجع لمزيد من التفصيل حول هذه المؤتمرات موقع مؤتمرات الأمم المتحدة لمعاملة
المجرمين على شبكة الإنترنت
www.Unin.org/cicp/cicp.html.
إرسال تعليق